عن التفاهة.. من يحمينا من عذابات الحياة اليومية؟

لا يوجد دعم يمكنه أن يحميك من عذابات الحياة اليومية التي تتطلَّب احتكاكاً مع التافهين وضّيقي الأفق.

  • آلان دونو
    آلان دونو

التفاهة في اللغة هي الخلو من الطعم، أو قل خُلُوّ من الأهمِّيَّة والشَّأن، وأيضاً العُقم وعدم الجدوى. ولما أصبح كل ما حولنا يجرفنا إلى مسار التفاهة، فقد أضحت حياتنا مُملّة خالية من الطَعْم.

ولعلّ أشهر الكتب التي رصدت تلك الظاهرة، هو "نظام التفاهة" للفيلسوف الكندي المُعاصِر آلان دونو، والصادِر بترجمةٍ إلى العربية قدَّمتها مشاعل الهاجري.

في "نظام التفاهة": لا وجود لما يحميك من عذابات الحياة اليومية

  • في
     "نظام التفاهة" للكندي آلان دونو

في كتابه يرى دونو أننا نعيش فترة تاريخية تتّسم بسيطرة التافِهين، حيث الصعود الغريب لقواعد الرداءة والانحطاط في ظلّ تدهور الجودة وغياب الأداء الرفيع، وتهميش نظام القِيَم؛ ومن ثم صعود نظام التفاهة. حيث يتناول سيطرة التفاهة على المجالات المختلفة سواء الفن أو الإعلام أو الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والعلوم.

ورغم أن الاستشهادات في الكتاب جاءت معظمها عن شركات أو جامعات كندية أو سياسيين أوروبيين، لكن بعمليةٍ بسيطةٍ يمكن إسقاطها على مجتمعنا الشرق أوسطي، حيث يتسيَّد المشهد الأغنية الرديئة والسينما الهابِطة. كما يتربَّع على كراسي الإعلام مَن يجعلون زواج فنان أو أمير حديث منصَّاتهم الإعلامية لشهورٍ طويلة. كما تتراجع الثقافة والقراءة في مقابل الاقتباس والجُمَل المُعلَّبة التي تحمل من اليقين ما يجعلها تصلُح لجميع الأشخاص في مختلف المواقف، فضلاً عن تسيُّد سياسة «تسليع المعرفة» وتسخير البحث العِلمي لخدمة المال.

ببساطةٍ يتحدَّث الكتاب في أربعة فصول، عن كيفيّة انخراط التفاهة في حياتنا اليومية، ويبدأ في الفصل الأول بالحديث عن المعرفة والخِبرة؛ كيف يُفْقِدوك عقلك؟ مَن هم صُنَّاع الرأي العِلمي؟ مسألة الكتابة على طريق الخراب، ويناقش هذا الفصل حال المُثقَّفين الصِغار والخاسِرين في المجتمع.

في حين خصّص الفصل الثاني للحديث عن التجارة والتمويل، مُتناولاً الاقتصاد، وصنع الصين، والخبراء المُنقذين، ومرض المال، والاقتصاد الجَشِع. أما الثقافة والحضارة فكانتا في الفصل الثالث من الكتاب، ليختتمه بفصل هام عن ثورة إنهاء ما يضرّ بالصالح العام.

في النهاية، ربما يقف الجادون وأصحاب الرأي الحرّ الآن في انتظار الخلاص والدعم في حربهم ضد التافهين. لكن الفيلسوف الكندي يؤكِّد في كتابه وبكل أسى أنه "لا يوجد دعم، أياً ما كان وزنه، يمكنه أن يحميك من عذابات الحياة اليومية التي تتطلَّب احتكاكاً - على مستوى التفاصيل - مع التافهين وضّيقي الأفق. كل اتصال اجتماعي، كل اجتماع عمل، كل معاملة رسمية، كل مشوار للسوق، بل وكل توقّف قصير في إشارة للمرور، سيحمل معه تحدّياً حقيقياً. أنتم فدائيون".

في "حفلة التفاهة".. لا تأخذوا العالم على مِحْمَل الجدّ

  • ميلان كونديرا
    ميلان كونديرا

التفاهة أيضاً تصلح عملاً روائياً، ولعلّ الفرنسي من أصل تشيكي ميلان كونديرا هو مَن تيقَّن إلى ذلك، فجاءت روايته الأخيرة الصادرة عام 2015، بعنوان «حفلة التفاهة» تلك التي جمع فيها شخوص روايته ليؤكّد أن «التفاهة» هي المُنْقِذ الأول لإنسان الألفية الثانية.

ويقول: «أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا وقف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة مُمكنة: ألا نأخذه على محمل الجدّ».

جاءت شخوص كونديرا الرئيسية مُتَمَثِّلة في: «آلان» و«رامون» و«دارديلو» و«شارل»، ولكن مع مُجريات الأحداث، فرضت بعض الشخصيات نفسها كشخصيات رئيسية وهما: «آلان» و«ستالين». 

«آلان» هو الرجل الذي يرى «السرّة» مصدرا لـ«الإيروتيكية»، فمن خلالها فسّر العالم، مؤكّداً على لسان والدته في حواراته المُتَخلية معها، أن وجودنا فيه جاء على غير إرادتنا: «سأكون صريحة، بدا لي دوماً أنه من المُرعِب إرسال شخص إلى العالم من دون أن يطلب ذلك، لا أحد من جميع أولئك الذين حولك موجود هنا بإرادته، بالتأكيد ما قلته منذ بُرْهة هو الحقيقة الأكثر تفاهة بين جميع الحقائق. إنها في غاية التفاهة والجوهرية إلى حد أنهم كفّوا عن رؤيتها وسماعِها».

  • كتاب
    كتاب "حفلة التفاهة" لميلان كونديرا

بعد تفكير اهتدى «آلان» إلى أن «حواء» هي المرأة الوحيدة التي بلا سرّة، فبحسب الكتاب المُقدَّس، «الوجود البشري كالشجرة، الرابط بينهم سُرَر الإناث»، ومن ثم يؤكِّد كونديرا من خلال «آلان» أن آلام البشرية ستنتهي حين ينتهي وجود السرّة، وبالتالي زوال الحياة البشرية.

أما «ستالين» وهو رمز الديكتاتورية وكَبْت الحرية، فقد كتب عنه «كونديرا» بأنْسَنة واضحة، فنراه يحكي لرفاقه قصة تتّسم بالمُبالغة المُفْرَطة، لكن مَن حوله نافقوه ووصفوه بالبطولة الدائمة. لكن عندما ذهبوا إلى بيت الخلاء لقضاء حوائجهم؛ أخذوا يسخرون منه مُتَّهمينه بالكذب، حتى أن أحدهم ادّعى أنه الوحيد الذي عارضه في قصته.

وبينما هم على ذلك كان ستالين يتلصَّص عليهم، ليُدْرِك أن أصدقاءه لم يفهموا أن ما قصّه عليهم لم يكن سوى نكتة، وربما أراد كونديرا بذلك أن نتخيّل كم «نكتة» ألقاها ستالين الحاكِم من قبل؛ في حين أخذها مَن هم حوله على محمل الجدّ، سواء كان نفاقاً له أو خوفاً منه.

بقيت شخصية «كالينين» المُحتاج دائماً للذهاب إلى الحمّام؛ لمرضٍ في البروستاتا، والتي تربطه بـ«ستالين» علاقة مُعقَّدة. ففي حين يُجبره الأخير دائماً على الجلوس حتى يتبوَّل على نفسه، إلا أنه يُحبّه جداً، و«كالينين» هذا في حقيقته هو الذي سمّيت على إسمه مدينة «كالينينغراد» والذي لم يتغّير إسمها إلى يومنا هذا، عكس كل المدن التي سُمّيت على أسماء قادة الحزب الشيوعي، ولعلّ تفاهته هي ما أبقت على ذِكراه حتى الآن.

في النهاية جمع كونديرا كل هؤلاء في حفلته؛ ليترك لنا حكمته بضرورة ألا نأخذ هذا العالم على محمل الجدّ، فتلك هي المقاومة الوحيد المُمكِنة.

في قصص "التفاهة": هل ستتحوَّل هونغ كونغ إلى مكانٍ ينكر نشأة الاستعمار البريطاني؟

  • في
    في "مديح التفاهة".. تحميك من عذابات الحياة اليومية؟

"التفاهة: قصص هونغ كونغ" هو عنوان المجموعة القصصية للكاتبة XuXi، التي ولِدَت وترعرعت في هونغ كونغ، ثم تحوَّلت في النهاية إلى مواطنة أميركية في سنّ ال 33.

وقد جاءت المجموعة في 11 قصة كُتِبَت بالإنكليزية، معظمها عبارة عن لقطاتٍ من الحياة في هونغ كونغ في أوائل القرن الحادي والعشرين، وتتمحور حول كيفيّة كون المدينة موطناً لشخصياتها.

بعضها في العصور الاستعمارية البريطانية البعيدة والمنسيّة تقريباً، وآخرون في أوقات عدم اليقين الحالية. ومع ذلك، فإن أكبر مخاوفها هو رؤية هويّتها تتراجع إلى "التفاهة" في مواجهة هذا التحوّل الثقافي الذي لا مفرّ منه.

وتبدأ أحداث المجموعة القصصية بمحاولة لمّ شَمْل المدرسة الثانوية رقم 35 للبطل، والذي صادف أن تزامن مع الذكرى الــ 15 لتسليم هونغ كونغ إلى الصين. وقد وفَّر حفل الذكرى السنوية للبطل الفرصة للتفكير  في مستوى الأداء المتوسّط ​​ونقص الإنجاز مُقارنة بزملائه في الفصل، الذين التحقوا جميعاً بمدرسة النُخبة التي كان من المُتوقّع عَظَمَة خرّيجيها.

وقد جاء شخوص المجموعة عاديين، لا يتوقون لتحقيق العَظَمة، ولكن فقط لتحقيق شيء من شأنه أن يُقلِّل، بطريقة بسيطة، من إحساسهم بعدم الأهمية في مواجهة القوّتين اللتين يبدو أنهما تحدّدان حياتهم: الاقتصاد العالمي من ناحية، والتقاليد الثقافية المحلية من ناحية أخرى. وذلك حسب مقال الكاتب الصحافي "HANS ROLLMANN" والمنشور بموقع " PopMatters Logo".

أما عن الأحداث فقد كانت في الغالب لقطات قصيرة عن الحب والشهوة بين نُخبة الشركات، ولعلّها جاءت كذلك لخبرة الكاتبة في ذلك المجال، بحُكم عملها السابق لسنواتٍ عديدةٍ مع الشركات مُتعدِّدة الجنسيات في مجال التسويق الدولي.

وتنتهي المجموعة بثلاث قصص أقرب إلى الخيال العلمي، يرى HANS ROLLMANN" من خلالها أن قُدرة Xu، وهي صاحبة الـ 13 كتاباً، على كتابة القصص الخيالية أقوى بكثير من كتابة الواقع، مُشيراً إلى إحداها وهي قصة خيال علمي عبثية عن مستقبل يستطيع مواطنوه شراء وتبادُل ألوان البشرة والهويات حسب الرغبة.

مؤكّداً إنها "قصة استعارية رائعة وذكية نجحت على عدَّة مستويات - التعليق على سياسات الهوية، والاستعمار وما بعد الاستعمار، والمنافسات الوطنية، والعولمة الرأسمالية الليبرالية الجديدة، والأزياء، والثقافة الشعبية".

على طول المجموعة القصصية طرحت الكاتبة بعض التساؤلات، مثلاً: هل ستتحوّل هونغ كونغ إلى مكانٍ تافهٍ ينكر نشأة الاستعمار البريطاني وينتقد واقعها الإقليمي الخاص؟

هل يبدو مستقبل هونغ كونغ وكأنه ماضيها، أم أن الحنين إلى الماضي هو تساهُل خطير؟ مَن الذي سيذرف الدموع على المدينة التي يمكن أو ينبغي أن تصبح؟.. ولكن إذا كانت هناك رسالة أكبر فربما يتم تلخيصها في وجهة نظر البطل الرئيسي، والتي جاءت في قصة "خارج السجل": "جاءت الحكومات وذهبت، لكن الناس استمروا في الحياة، وظلّوا على قَيْد الحياة بأفضل ما يمكنهم، مُبتسمين عندما ابتسمت عليهم السماوات، باكية لما حلّت مأساة".