التكايا والزوايا.. تراث سوري على طريق الاندثار؟

زوايا وتكايا يمتد عمرها آلاف السنين ازدهرت وانتشرت في دمشق وتحولت إلى جزءً مهم من حياة أهلها، لكنها اليوم تعيش أسوأ حالاتها بِفعل الإهمال والنسيان.

  • التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟
    التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟

"معبودكم تحت قدمي"، كانت تلك العبارة كافية لإنهاء حياة الشيخ محيي الدين إبن عربي (1164 - 1240)، بحسب ما يروي أحد خُدَّام جامع إبن عربي في دمشق للميادين الثقافية.

ويُضيف أن "المُصلّين في زمنه كانوا يتأخَّرون عن الصلاة وفي أحيانٍ كثيرة لا يأتون إليها، بحجَّة انشغالهم بالتجارة، ما أثار حفيظة إبن عربي"، وألقى في إحدى خُطَب الجمعة تلك المقولة التي تسبَّبت بمقتله. 

قُتِل إبن عربي وقام عليه الناس، وألقوه في القمامة بجانب الجامع، وبعد فترة وجيزة، اقترح أحد المُقرَّبين منه نَبْش ما يوجد تحت قدميّ إبن عربي، وفقاً لخُدَّام الجامع، لتكن المُفاجأة، حيث عثروا على جرَّتين من الذهب. 

يؤكِّد هذه الحادثة مسؤول التكية السليمانية إياد بقدونس، وعدد من أهالي حيّ الشيخ محيي الدين. 

تكريماً له وتكفيراً عن الذنب والجريمة التي ارتكبوها بحق أهم المُتصوّفين، أتت فكرة إقامة مقام وتكية لإبن عربي، ما زالت مستمرّة إلى اليوم حيث تُقدِّم وجبات طعام للفقراء كل أربعاء.

هذه قصة نشوء إحدى التكايا في واحدة من الحارات الدمشقية، التي ما إن تمشي في أزقّتها الضيِّقة، حتى تلفت نظرك أبنية صغيرة الحجم في زواياها، يتكئ عليها الزقاق وأبنيته. زوايا وتكايا دمشق القديمة كما سُمّيت منذ القِدَم، هل مازالت مُتكأً إلى اليوم؟ 

لا تضمّ كل الزوايا والتكايا قبور أولياء، بل بعضها، ومُعظمها غير فاعِلة ومُهْمَلَة، وما يعمل منها تكية واحدة هي تكية إبن عربي، كما يوضِح خالد الشيخ أوغلو من مديرية أوقاف دمشق في حديث للميادين الثقافية.

أصل التكايا 

مع بداية العصر العثماني، شيَّد العثمانيون عدداً من التكايا في دمشق، وذلك لتقديم الطعام وأماكن النوم للفقراء، وكذلك لاستقبال الحجَّاج القادمين من بلدان آسيا الوسطى وتركيا فيرتاحون في "شام شريف" قبل إكمال مسيرهم نحو الدّيار المُقدَّسة. 

ومع اضمحلال المدارس في العهد العثماني، انتعشت الزوايا والتكايا، وازداد عدد الصّوفية والدراويش. وأصبحت ملجأ للفقراء عبر العصور. وبعد الحرب العالمية الأولى، حظر أتاتورك الشعائر الدينية، ومنها المولويّة، فَهَدَمَ الكثير منها، وحُوّل بعضها إلى متاحف وأُغْلِقَ الباقي. 

التكية السليمية

  • التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟
    التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟

بُنِيَت مقابل مسجد محيي الدّين إبن عربي تكية للفقراء، سُميّت بالتكية السليمية (نسبةً إلى السّلطان سليم العثماني). قبلها كان المكان مُهْمَلاً، ومَكبّاً للنفايات - واشتملت على بيت للفقراء من الرجال وآخر للنساء وثلاثة حواصل للمؤن، ومطبخ كبير وفرن "كان يعد قنطارين من الخبز يومياً و150 كلغ من اللحم، وفي يوم الخميس يطبخون الرز المُفَلْفَل مع اللحم، ومعه أرز بالعسل"، بحسب ما يورده المؤرِّخ الدمشقي إبن طولون الصالحيّ.

ولا تزال التكيّة السليمية قائمة مقابل المسجد، وتعمل منذ خمسة قرون من دون توقـّف يُذْكَر، وتُقدّم وفقاً لبقدونس "وجبة إسبوعية من حساء اللحم والقمح صباح كل أربعاء لنحو 4000 شخص في القدور ذاتها التي ورثت من العهود السابقة، ولحوالى 1500 شخص كوجبات تذهب إلى منازلهم". وكل ذلك يحدث نتيجة التبرّعات الخيريّة فقط. 

وعن واقِعها اليوم، يقول بقدونس إنها "تعاني من تصدّع جُدرانها وأسقفها التي تتسرَّب منها مياه الشتاء إلى داخلها" مُضيفاً "إنّه لا يوجد أيّ اهتمام أوعناية من قِبَل الأوقاف بها". 

يذكر أنّ التكية احترقت في عهد السلطان سليمان القانوني إبن السلطان سليم الأول، وقام بتجديدها سنة 960 للهجرة، كما هو مُثْبَت في اللوحة الرخامية الخضراء المُعلَّقة أعلى بابها.

توفّى "إبن عربي" في 16 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1240م في مدينة دمشق ويقع جامع الشيخ "محيي الدين إبن عربي" في منطقة الصالحية، التي تُعرَف اليوم بـ "منطقة الشيخ محيي الدين"، وهو مسجد كبير يُعْرَف بأسماء مختلفة منها: الجامع السليمي، والجامع المحيويّ نسبة إلى الشّيخ محيي الدين.

ولا يزال الجامع يحتفظ بالكثير من معالمه القديمة، كالأعمدة، والمآذن والجُدران المُزَخْرَفة والمُزيَّنة على الطريقة العثمانية القديمة، لكنه اليوم خارج الخدمة بِفعل عمليات الترميم التي يخضع لها. 

التكية السيلمانيّة

  • التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟
    التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟

أوّل من أوجدها، السلطان سليم الأول، ثمَّ تابع الاهتمام بها السلطان سليمان القانوني وسار على منوالهما بعض الولاة العثمانيين والأثرياء. تقع التكية في دمشق، وهي جزء من أهم ظاهرة شاعت وانتشرت مع بداية دخول العثمانيين إلى العاصمة السورية عام 1516م بعد "معركة مرج دابق".

كان بناؤها في البداية بسيطاً جداً، ثمَّ تطوَّر في ما بعد، حيثُ أصبحت باحاتها مسقوفةً بالِقباب أو العقود وعُني ببنائها وزخرفتها بالحليات المعمارية والحجارة المُلوّنة، وغدت تشكّل مُجمّعاً معمارياً ضخماً من ثلاثة أقسام: الجامع والمدرسة والسوق. ولعبت دوراً مهماً في استقبال الحجيج في القرون الماضية. 

وفي حين حافظت التكية السليمية منذ نشوئها على دورها في إطعام وإيواء الفقراء، تبدّل دور التكية السليمانية مع تغيّر الأزمنة. وهي تنتظر اليوم أعمال الترميم، ووُظّفت منذ السبعينات بمنحى آخر، وهو افتتاحها كسوق للمِهَن اليدويّة التُراثيّة للحفاظ على الحِرَف القديمة التي تُشكّل التُراث المادي وغير المادي السوري، إضافةً إلى تخصيصها كمكان تُقام بعض الأسواق الشعبيّة في باحاته، مع بقاء دورها كمَعْلَم لاستقطاب السيّاح من مختلف دول العالم. 

وفي هذا السياق، يقول المدير العام للآثار والمتاحف د. محمود حمود في حديثٍ مع الميادين الثقافيّة إنّ مشروع إحياء التكية السليمانية "قَيْد الإعلان، وتمَّ الأخذ بكافة الملاحظات التي وضعتها الآثار والمتاحف. وسيتمّ الحفاظ عليها كموقع تراثي وأثري مع إضافة بعض التعديلات التي لا تؤثّر على وضعها القائم كموقعٍ تراثي، ومن دون المساس بأيَّة وظيفة من وظائفه".

بدوره، يقول مدير الآثار الوقفيّة في مديرية أوقاف دمشق عمار جيرودي إنّ ترميم التكايا والزوايا "لا يدخل ضمن موازنة الأوقاف، وإن أعمال الترميم تتمّ عبر التبرّعات فقط"، مشيراً إلى أنّ التكية السليمانية تعاني اليوم هبوطات بالتربة.

الزوايا

  • التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟
    التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟

يعود ذِكر أقدم زاوية في دمشق إلى العام 600هـ، وهي الزاوية الأرموية، التي اندثرت اليوم كما غيرها من زوايا دمشق والبالغ عددها ما يقارب 40 زاوية، بحسب إفادة جيرودي للميادين الثقافيّة.

ويوضح أنه "لم تَعد أغلب الزوايا قائمة، والقائم منها إمّا مُهترئ ومُغْلَق، أو رُمِّم من دون أن يكون لها أيّ دور في الوقت الحالي". 

واليوم توجد في منطقة باب سريجة في العاصمة السورية زاوية للشيخ عبد الله الغريب، تمّ تجديدها منذُ سنتين عبر وزارة الأوقاف، ولكن لا يوجد فيها أي قبر لِوليّ، ويُجْمِع عدد من أهالي الحيّ على أنّه لا توجد أيّة معلومات موثّقة حولها. 

  • التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟
    التكايا والزوايا.. تراث سوري مُهمَل على طريق الاندثار؟

كذلك توجد في منطقة السويقة الزاوية النقشبندية بجوار جامع النقشبندي، ولكنها مُهْمَلة منذ سنوات من دون أدنى اهتمام.  وفي حيّ القيميريّة هناك الزاوية الصمادية. 

تراجع دور هذه الزوايا بفعل التحوّلات التاريخية بعد أن فقدت كثيراً من الوظائف التي كانت تضطلع بها في المجتمع التقليديّ كمؤسّسات تأطيرية للمجتمع، حيث أن الوظائف التعليمية والسياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة والقضائيّة، لم تعد من مجال عملها بِفعل عمليّة التحديث التي طالت المجتمع، والتي كان من نتائجها توزيع قطاعات العمل تلك على مؤسّسات الدولة الحديثة.