من داخل السجون.. السينما تنتصر للحياة في تونس

"مهرجان قرطاج السينمائي" يخصص جزءاً من عروضه للسجناء، ونقاش في أحوال المهمشين وفقراء الأحياء.

  • من خلف قضبان السجون السينما تنتصر للحياة

يقولُ الشاعرُ الفلسطيني الراحِل محمود درويش في قصيدته (حالة حِصار): "نفعل ما يفعل السُجناء، نُربِّي الأمَل"، وتربية الأمل حال وجدانية تتطلَّب الكثير من الشجاعة والقوَّة والمُحِفِّزات التي يُمثِّل الفن أحدها.

لذلك، يُشاع أن مَن يحبّ الحياة يذهب إلى السينما. إلا أن الأخيرة في تونس خرجت مؤخَّراً عن المُعتاد لتطرق أبواب المُتفَرِّج، مُجَدِّدة فيه الأمل أمام وَجَعِ الحياة بين أسوار السجون.

على هذه الصورة كانت انطلاقة الدورة الــ 31 من "أيام قرطاج السينمائية"(18 - 23 كانون الأول/ديسمبر)، من خلال اختيار التوثيق لذاكِرة الدورات السابقة، وعرض أفلام جديدة مُنْحازَة لمآسي الإنسان.

وخلال الندوة التي عقدتها الهيئة المُديرة و"المركز الوطني للسينما والصورة"، بالشَراكةِ مع "الهيئةِ العامةِ للسجون والإصلاح" و"المنظمَّة الدولية لمُناهَضة التعذيب" لتقديم برنامج الدورة السادسة لأيامِ قرطاج في السجون، تمّ الإعلان أنها ستشمل خمس وحدات سجنية سيحضرها عشرة سُجناء، والجديد هذه السنة تخصيص ورشات للكتابة السينمائية.

  • من داخل السجون.. السينما تنتصر للحياة في تونس
    من داخل السجون.. السينما تنتصر للحياة في تونس

هكذا إذاً، اقتحمت السينما منذ العام 2015 الأسوار العالية والأسلاك الشائِِكة والأبواب الموصَدَة حيث يقبع السُجناء، لتضع شاشتها أمام نُزلاء هذا الفضاء المليء بالقصص والآلام مانِحةً إيَّاهم فُرصة للحُلم والأمل. تِهَمُ السجناء وعقوباتهم مُختلفة، لكن هاجِسَهم يبدو واحداً، الحرية، ليس من القيود المادية فحسب، بل من تلك الاجتماعية والنفسية أيضاً.

ورغم أن أفلام الذاكِرة كانت ذات جودة من ناحية النصّ والإخراج والتمثيل، غير أن الأفلام الجديدة، على قلَّتها، نافستها بشكلٍ لافت. 

فالفيلم الوثائقي "المدسطنسي" (إخراج حمزة العوني)، شكَّل حالاً فريدة في انحيازه إلى المُهمَّشين، كما هي حال فيلمه "القرط".وظهر هذا الأمر جلِّياً في النقاشات التي أطلق لها السُجناء العنان بعد عرض الفيلم في سجن سليانة.

إقرأ أيضاً : أفلام أكشن.. عالم من الغموض والإثارة والتشويق

وكلمة "المدسطنسي"مأخوذة من distance بالفرنسية، وتعني المُسْتَبَعَد أو المنفيّ أو المُهَمَّش، وبطله الشاب (محرز) الذي يبحث عن معنى وجوده حيث يعيش على وَقْعِ تناقُضات عدَّة بين الألم والأمل واليأس والإحباط والتحرّر والتكبيل. 

ويُشبه محرز الآتي من إحدى ضواحي تونس المُهَمَّشة والفقيرة الكثير من أقرانه، خاصةً نُزلاء السجن. ويجد نفسه في صراعٍ بين عالمين، واحدٌ جميلٌ يُجسِّده الفن والمسرح والثقافة، وآخر يُمثّل الخواء والفراغ والإنحراف. هكذا يسقط محرز بين مخاِلب الإدمان ليجد نفسه في السجن.

ثم بعد خروجه من السجن لم يجد محرزغير الإحباط والإنكسار ووأد أحلام شباب الثورة، وتعميق الهوَّة الاجتماعية والاقتصادية بين التونسيين، كأنه خرج من سجنٍ صغيرٍ إلى سجنٍ بمساحةٍ شاسعةٍ يُسمَّى وطناً.

نقاشات ثريّة ومؤثِّرة أعقبت الفيلم، بعدما لمَسَ السُجناء تجرّد المخرج في مُقارَبته للواقع الذي يعرفونه جيِّداً، ففجَّر لديهم الرَغبة في التعبير. وهم كانوا قبل انتهاء العرض يتفاعلون مع البطل (محرز) بالضحك والحُزن، ربما لأنه ذَكََّرَهم بتجارب.

وعبَّر السُجناء عن وعي كبيرٍ بمكانة الثقافة كمُتَنفَّسٍ ينأى بالشباب عن سلوك طُرُق أخرى قد تؤدِّي بهم إلى الموت أو السجن، مؤكَّدين أن مُثقّفين وشباباً موهوباً يقبعُ خَلْفَ القُضبان ويتوق نحو تغيير مُستقبله وإنْ أخطأ.

وشارك السُجناء قصصهم المُتنوِّعة، حيث أشار أحدهم إلى ما يُعانيه الشباب من حالِ الفراغِ الثقافي وانعدام وسائل الترفيه وتنامي الطبقيّة في تونس، شارِحاً كيف أن مُعاناة الشباب داخل الأحياء الشعبية تختلف عن مُعاناة سواه.

وأضاف إن الطبقة الاجتماعية الأغنى تجهل ما يُكابده شباب الأحياء الفقيرة من حِرمانٍ وتهميشٍ، وأن هؤلاء لا يكتشفون حياة المُهَمَّشين إلا عن طريق السينما أو البرامج التلفزيونية.

ويروي سجينٌ آخر أنه بعد 38 سنة يرى شاشة السينما لأولِ مرةٍ في حياته، مُتَمَنِّياً ألا يكون مصيرُ إبنه كمصيره، خاصةً في ظلّ الفقر وانعدام الثقافة والتثقيف.

أما فيلم "الهربة" (2018، مُقْتَبس من مسرحية "العالم الصغير" لحسن الميلي)، فقد عبَّر في ثُنائية الجسد والرغبة في التحرّر.

  • من داخل السجون.. السينما تنتصر للحياة في تونس
    من داخل السجون.. السينما تنتصر للحياة في تونس

وتروي أحداث العمل رحلة هروب مُتَشدِّد ديني من قبضة رجال الأمن، ولجوئه إلى منزل عاملة جنس والاحتماء به، فتعمل هذه على مساعدته رغم التناقُض الشديد في حياة كل منهما. ويوثِّق الفيلم للمُفارَقات التي عاشها المجتمع التونسي بعد ثورة 2011 وبروز شخصيّات مُركَّبة ومُتناقِضة وأهمّها شخصية المُتشدِّدين دينياً.

وجسَّد الفيلم واقع التناقُضات في المجتمع التونسي، لذلك مَنَحَ المخرج الجزء الأهمّ من الفيلم للحوار بين البطلين، كاشِفاً الصِراع المُحْتَدِم بين أفكارهما واعتقاداتهما الاجتماعية.

وقبيل الافتتاح الرسمي للمهرجان تمّ تخصيص عروض أفلام الافتتاح للصحافة بــ "مدينة الثقافة الشاذلي القليبي"، وهي ستة أفلام قصيرة كان إنتاجها تكريماً لأفلام طويلة تركت أثراً في السينما التونسية، على غرار فيلم "السيّدة" و"في بلاد الطرنني" و"الوقت يمرّ" و"سوداء" و"السابع".

ورغم قلّة الأفلام الجديدة المعروضة في هذه الدورة التي خصَّصها المُنظِّمون بعد تأجيلها نظراً إلى الوضع الصحّي العالمي، للاحتفاء بالأفلام التونسية والعربية والإفريقية الحائِزة على التتويج بالمهرجان على امتداد دوراتها السابقة/ إلى جانب مجموعة من الأفلام الجديدة وهي "الرجل الذي باع ظهره" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية و"ليلة الملوك" للمخرج الإيفواري فيليب لاكوت و"200 متر" للمخرج الفلسطيني أمين نايفة و"الهربة" للمخرج التونسي غازي الزغباني والفيلم الوثائقي "المدسطنسي" للمخرج التونسي حمزة العوني.

وأصبح المهرجان منذ دورته السادسة في السجون، مناسبة للتعبير ولتفريغ شحنات التعب والغضب والحِرمان، وفرصة تروي ظمأ نُزلاء السجون للثقافة والسينما. وكان من أهم ملامح هذه الدورة الاستثنائية وجود الورشات والنقاشات.