كاتب ياسين: عن فاطمة المقاوِمة وكرة القدم الثورية

العنُصرية هي، في النهاية، ذلك اللاشيء الشاذّ، ذلك العَدَم الذي يَشُنّ حرباً علينا. 

  • كاتب ياسين
    كاتب ياسين

نقل النصوص إلى العربية: محمد وليد قرين

رضيع مُستَفِز

أوروبية باب الواد في الطرامواي، في سنة 1950، بقفّتها الثقيلة. نرى، من خلال يديها وتجعّدات وجهها وطريقة إمساك جنينها، وارتياعها الذي لا يزال مُبتسماً، أن هذه المرأة الشابة سبق وأن أنجبت عدَّة أطفال، أنها تكدح في العمل ولكنها تعرف معنى الفرحة.

يتمّ التحيّز مباشرة لصالحها والتعاطُف معها. أما جارها فهو العربي البربري الذي سنحت له الفرصة أن يتعلَّم في المدرسة. كثّ الشارب، يرتدي زيّ العمل ويقرأ جريدته بِنَهَمٍ. وكلاهما يتعايشان تحت شمس الأيام الرائعة، شمس تنتصر للعدالة. قد نقول عنهما، للوهلة الأولى، إنهما يُجسِّدان جزائر هادئة وأخوية، جزائر المُستقبل. 

ولكن الرضيع ليس مسروراً. يصرخ ويتخبَّط وأمّه توبّخه فتقول له مُبتسمة دائماً:

"اسكت، وإلا العربي سيأكلك".

"لا يا مدام، العرب لا يأكلون الحلّوف (تعني الخنزير)"

بضعة كلمات كانت كافية.

يتّجه الطرامواي القديم للجزائر الفرنسية إلى الهاوية. 

تعبس الوجوه. خرافة العِرْق تطالب بنصيبها في الأكل. خرافة تتمّ تغذيتها في اللاشعور وهي قوية بقدر ما يستحيل القبض عليها. فهي تستفيد من كل ذريعة: صرخة طفل، مزحة أو لا شيء. 

العنُصرية هي، في النهاية، ذلك اللاشيء الشاذّ، ذلك العَدَم الذي يَشُنّ حرباً علينا. 

 

فاطمة ذات الشعر الأحمر

عزيزي رشيد،

في نواحي جبال البيبان (1)، سيارة جيب وشاحنة مُنقلبتان تحترقان. لقد أسقطناهما وتدهورتا من ارتفاعٍ يزيد عن 300 متر. انضمّ إلى صفوفنا أفريقي، وهو أحد السائقين، مُبتسماً وهازّاً أسلحته منذ بداية الكمين.

نحن خمسة أشخاص تحت نفس الشجرة. يلتحق بنا قائد الفوج زاحِفاً، لقد أصيب بجرح. يبحث عن الجرح، غير مُصدِّق وغاضِب جدّاً، كما لو أن الدم الذي يسيل ويُشَرْشِر عند قدميه ليس دمه. نحمل الأموات وننقلهم على ظهر البغال. 

سنصل قريباً إلى بلاد القبائل الكبرى، أرض السي محند...

لقد تمّ تهجير سكان المنطقة منذ عدَّة شهور، في الجهة الأخرى من الجبل. لقد مررنا من هناك.

عزيزتي القرية المُدَمَّرة لأنك استضفتينا!

أبناؤك، خيرة أبنائك، لم يرجعوا. ربطهم العدو، في غيابنا، كالأمهار، واتخذوا طريق الأعمال الشاقّة، بمَن فيهم النساء، مثل فاطمة نْسُومَرْ (2) الأسطورية، الأمازونية ذات الشعر الأحمر الطويل، التي كانت تندفع في المعركة مُرتدية ملابس الأعراس، بكل مجوهراتها. لقد تمّ اعتقالها على تلك الهيئة وتمّ نقلها إلى معسكر العدو، وكان حصانها يحني رأسه، كما لو أنه كان يحتمل كل عبء المأساة. 

فاطمة متواجدة معنا.

أخوك في الكفاح وفي الأمل،

كاتب ياسين

 

الركض على القدمين

كنا خمسة أو ستة جزائريين وسط الجمهور الكرواتي ونُصفِّق لفريق الجزائر المُجاهِدة (3)، في العام 1960. 

كان الجمهور يتمنَّى فوز الجزائر، ليس من باب الروح الرياضية فحسب، بل من باب التعاطُف العميق مع الشعب الذي كان قد عاش مؤخّراً تظاهرات كانون الأول/ديسمبر. كان الناس يتمنّون على الأقل تعادلاً مُشرّفاً، إيجابياً ومُحايداً.

لكن الجزائر انهزمت.

مررت من المقهى الذي التقيت فيه مُجدَّداً بعبد الله فأثّر عليّ حزنه. عبد الله بوسني ومقاوِم ثوري سابق(4). حتى اليوغسلافيين تجنّبوا أمامنا أيّ تلميح إلى المُقابلة. وفي تلك الليلة خلد الجزائريون، من بلغراد إلى زغرب، إلى النوم باكراً. إذ كان أشدّهم سهراً يشعر فجأة بتعبٍ شديد. 

صحيح أن الزمن كان زمن الحرب، ولم نكن قد تكبَّدنا سوى تلك الخسارة المحلية، إلا أن المُسكِّن الأكثر فعالية يبقى مُجرَّد مُسكِّن. كنت أفكّر في لاعبي مُنتخبنا الوطني، هم الذين كانوا قد نزلوا من سفينة وركبوا على متن سفينة أخرى في خضمّ العاصفة، وكنت أتساءل إنْ ما كان تجوالهم في الخارج سيستمر لمدَّة طويلة، من دون الحصول على الشيء الأهمّ: شبر من الأرض تحت الشمس، مكان مُشترك ووطن تنمو فيه جذورهم بحق. 

انقضت سنتان منذ تلك المُباراة. تحتفي مدينة الجزائر بالمُنتخب الوطني لشعبٍ صديق (5). لم يعد شعب بلوزداد يتوقَّع انفجار القذائف. لقد أصبح هو نفسه تلك الشحنة المُتفجِّرة التي أسكتت المُتفنِّين في الإبادة الجماعية. الشعب بخير. يستطيع أخيراً أن يركض على قدميه. إنه يوم عظيم. في شارع الاتحاد، تتعالى أصوات أطفال يهتفون لقائدٍ صاعدٍ ويشترط هذا الأخير أن تتمّ مُناداته باسم زيتوني (6).

كدت أن أدوس على برتقالة مُتَعَفِّنة.

مهلاً! إني بحاجة إلى عضلاتي لأذهب إلى مقرّ الجريدة.

***

تاريخ صدور النصّ الأول: 13 شباط/فبراير 1961، في مجلة أفريك أكسيون Afrique-Action. العنوان في الأصل: Un bébé provocateur.

تاريخ صدور النصّ الثاني: 1 /تشرين الثاني/نوفمبر 1964، في Al-Djazaïri الجزائري، العدد 20.العنوان في الأصل: Fatma aux cheveux rouges.

نُشِرَ النصّ الثالث بتاريخ 1 آذار/مارس 1963، في جريدة الجزائر الجمهورية Alger-Républicain.العنوان في الأصل: Courir sur les deux pieds.

 

الهوامش: 

(1) سلسلة جبال تقع شمال الجزائر، معروفة بتضاريسها الوعرة وحدّة قممها (ملاحظة المترجم).

(2) فاطمة نسومر، من أيقونات المقاومة الشعبية الجزائرية. قادت المقاومة ضد قوات الاستعمار الفرنسي في منطقة القبائل الكبرى، في خمسينيات القرن 19. 

(3) فريق "جبهة التحرير الوطني" الذي خاض مباراة ضد المنتخب الوطني اليوغسلافي.

(4) خاضت يوغوسلافيا، خلاب الحرب العالمية الثانية، حرباً وطنية تحررية لانتزاع استقلالها والتحرر من الاحتلالات الألماني، الإيطالي والمجري. وضم جيش التحرير الوطني اليوغسلافي جنوداً من كل قوميات يوغوسلافيا سابقاً: صرب، سلوفين، بوسنيين، كروات، مونتينيغريين، ألبانيين ومقدونيين. بالإضافة إلى أن الشعوب اليوغوسلافية عانت من ويلات الاستعمار على مر التاريخ كما عرفت حركات مقاومة شعبية كبيرة ضد الجيوش الأجنبية المحتلة (مثل النمساوية والمجرية والعثمانية). هذا ما يفسّر تعاطف اليوغوسلافيين العميق مع الشعب الجزائري خلال حرب التحرير الوطني ودعم دولة يوغوسلافيا (بقيادة يوسيب بروز تيتوJosip Broz Tito) للثورة الجزائرية بكمية كبيرة من الأسلحة والأموال والأدوية وعلاج الجنود الجزائريين المصابين بجروح خطيرة ومساعدة اللاجئين الجزائريين في تونس.

(5) منتخب تشيكوسلوفاكيا. كانت مباراة ودية تغلبت فيها الجزائر على تشيكوسلوفاكيا بـ4-0.

 
(6) مصطفى زيتوني (1928-2014) لاعب كرة قدم جزائري سابق دخل في تاريخ كرة القدم الوطنية الثورية عندما التحق بصفوف فريق جبهة التحرير الوطني خلال الثورة الجزائرية. كان لاعباً مشهوراً في الدوري الفرنسي لكرة القدم في خمسينيات القرن الماضي، عندما تقمص ألوان نادي كان ونادي موناكو. لعب في المنتخب الوطني الجزائري بعد الاستقلال (1963-1964) ثم مع "فريق رائد القبة" الجزائري.