بردى.. سورة من قرآن الكون

"لا وِرْدَ للقوم إن لم يعرفوا بردى".. في اليوم العالمي للمياه، تعالوا لنتعرف إلى نهر #بردى تاريخياً وجغرافياً وأدبياً.

  • بردى.. سورة من قرآن الكون
    بردى.. سورة من قرآن الكون

ما كان نهر بردى أغزر الأنهار السورية ولا أطولها لكنه تفجَّر بغزارة لا نظير لها في قصائد الشعراء من "الجاهلية" إلى العصر الحديث، فكأن من منبعه لا تخرج إلا القوافي وكلمات الغَزَل والحب ليروي ظمأ مَن مرّ به من أدباء أو شرب من عذوبته من مؤرّخين. فما وازى جمال زرقته إلا حبر يراع نظمت به أبيات الشعر في وصف حُسنه.

في كتابه "وادي بردى عبر العصور"، الصادر عن "الهيئة العامة السورية للكتاب" عام 2015، قدّم محمود محمّد علقم الكثير مما يتعلّق بوادي ونهر بردى تاريخياً وجغرافياً وأدبياً.

ويقول في إحدى الصفحات " ووادي بردى يختزل منذ الأزل الحكايات عن تاريخ وحضارات وأمم وشعوب سكنت هذا الوادي من الآراميين في الألف الثاني قبل الميلاد حتى اليوم مروراً باليونانيين والروم والحضارة الإسلامية".

ويوضِح علقم أنه "من هذا الوادي شربت دمشق المياه العذبة أول مرة، ومن هذا الوادي أُنير أول مصباح كهربائي في منازل دمشق، ومن هذا الوادي أكلت دمشق أطيب الثمار وأفضلها، ومن هذا الوادي وصل الحرير إلى أنوال دمشق حيث كان يعجّ بزراعة التوت".

نهر الذهب

وفي محاضرة للمؤرِّخ والباحِث التاريخي سهيل زكاّر بعنوان (تاريخ دمشق)، نقلتها صحيفة "النهار" اللبنانية، ألقاها عام 2008 بمناسبة احتفال دمشق عاصمة للثقافة العربية، قال "إن الحياة في وادي بردى تعود إلى أبعد من نصف مليون من السنين وقد ازدهرت دمشق منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد في العصر الآرامي، وكذلك كان وادي بردى جزءاً من المملكة الآرامية".

اهتمّ الآراميون بالزراعة واستفادوا من مياه نهر بردى ففتحوا التِرَع والجداول عليه وزادوا من الأراضي المروية والمزروعة وكانت تسمية نهر بردى تسمية آرامية ومعناه النهر البارد. كما فتحوا قناة يزيد الآرامية الأصل وأوصلوا المياه إلى مناطق عالية ليزيدوا من الأراضي المزروعة". وفي العصر اليوناني فقد كان إعمار عين الفيجة يوناني العهد بدلالة كلمة فيجة التي تعني باليونانية نبع الماء، كما صكّوا النقود التي حملت صورة نبع الفيجة وفي الزبداني تركوا الكثير من الآثار أيضاً. وفي عهد الأمويين (661-750 م) حفرت التِرَع والأنهار وزادت نسبة الأراضي المرويّة، كما حسّن يزيد بن معاوية الري في الغوطة، فوسّع قناة يزيد المُتفرّعة عن يسار نهر بردى عند قرية جمرايا، وسمَّي هذا الفرع بإسمه ولا يزال حتى اليوم. بحسب ما ينقل علقم في كتابه.

وقد ورد إسم بردى في العهد القديم (الكتاب المُقدَّس "التوراة"، العهد القديم، سفر الملوك الثاني وتفسيره) الذي قام به نعمان السرياني وذلك في القرن التاسع عشر قبل الميلاد: "أليس أبانه وفرفر نهرا دمشق أحسن من جميع مياه إسرائيل؟ أما كنتُ أغتسل بهما فأطهرَ؟"، وأبانه هو نهر برد، وفرفر هو نهر الأعوج، والنهران يرويان مدينة دمشق وغوطتيها، وقال بعض المُفسِّرين إن فرفر هو نهر بانياس، وأبانه أو أبانا كلمة آرامية تعني الصخور المُتشكّلة التي تخرج منها مياه هذا النهر. بحسب ما يذكر علقم.

أما عبد العزيز العظمة فيتحدَّث في كتابه (مرآة الشام- دار الفكر في دمشق- 2002) أن بردى "ينبع بالقرب من قرية الزبداني بين سلسلتي حرمون والقلمون في غرب المدينة على بُعد 60 كيلومتراً منها، وينحدر شرقاً فيمرّ من قرية الفيجة حيث يمتزج بمائها الزلال الذي يُضاهيه بالكمية ثم تُضاف إليه في الطريق مياه ينابيع كثيرة ألطفها وأعذبها العين الخضراء القريبة من قرية بسيمة، وبعدها يتجاوز النهر قرية الهامة، ويأخذ بالانقسام فتتفرَّع عنه سبعة جداول أو أنهر" تخترق مدنية دمشق، أو تسقي غوطتها إلى أن يصبّ في بحيرة العتيبة. بعد أن يكون قد قطع بين منبعه ومصبّه مسافة 71كم.

وقد عرفه اليونانيون بأنه نهر فريسيو روس أو نهر برونيس وأسبغوا عليه صفة القداسة، لأن من عاداتهم في تلك المدةّ من الزمن تأليه الأنهار والينابيع، ولا عجب أن تحتضن الضفة اليمنى لهذا النهر معبد حدد الآرامي، ومعبد جوبيتر الروماني، وكنيسة يوحنا المعمدان قديماً (الجامع الأموي حديثاً). أما الإغريق فسمّوه نهر الذهب كريزورواس، بحسب كتاب وادي بردى عبر العصور، وقد جاء في كتاب (تاريخ مدينة  دمشق) لإبن عساكر: "إن بردى كان يُعرَف بنهر باراديوس أي نهر الفردوس وسمّاه العرب بردى لبرودة مائه". ودعاه أسطفان البيزنطي منذ القرن الخامس للميلاد بنهر برونيس وسمّاه البيزنطيون خريزوارس أي نهر الذهب.

وفي 1895 م (تاريخ الخطوط الحديدية في بلاد الشام، د.عزّة علي آقبيق)، أنشىء الخط الحديدي بين دمشق ورياق مروراً بوادي بردى، الزبداني، سرغايا، ورياق في سهل البقاع، ثم إلى بيروت. سنة 1906 م أسّست أول  محطة كهربائية لتزويد مدينة دمشق بالكهرباء في التكية، على نهر بردى، وبقيت هذه المحطة تغذّي دمشق حتى سنة 1957 م، إذ استغني عنها وأنشئِت محطة في قرية سوق وادي بردى بعد أن مدّت مياه نهر بردى عبر نفق بطول خمسة كيلومترات في الجانب الشرقي من الجبل المُطلّ على الوادي وذلك من التكية حتى السوق، وقد نفّذت هذا النفق شركة يوغوسلافية، ولا تزال هذه المحطة إلى اليوم، وتستعمل عندما يتوافر الماء في نهر بردى. بناء على ما يورِد محمود علقم في كتابه.

سورة من قرآن الكون

في كتابه (دمشق: صوَر من جمالها وعِبَر من نضالها – دار الفكر في دمشق – الطبعة الثانية 1997 م) قال الشيخ علي الطنطاوي " لقد علَّم بردى أبناءه الوَلَع بالخضرة والظلال، وحبَّب إليهم أفانين الجمال، فصارت النزهة (السيران) من مقوّمات الحياة في دمشق لا تحيا أسرة إلا بها".

ثم يصف النهر في موضع آخر "نهر بردى سطر من الحكمة خطّته يد الله على صفحة هذا الكون ليقرأ الناس فيه ببصائرهم لا بأبصارهم فلسفة الحياة والموت وروعة الماضي والمستقبل".

ويكمل قوله" وما بردى إلا سورة من قرآن الكون، وليس إعجازه في أنه يجري، ولكن إعجازه في أنه ينطق، وأن في كل شبر منه تاريخ حقبة من العصور، وتحت كل شبر أنقاض أمّة من الأمم".

وفي كتاب الرحلة الدمشقية لمحمّد علي باشا (دار الرائد العربي- بيروت) يصف خلاله بدقّة مشاهداته خلال رحلته بالقطار" وفي ذلك الوادي الزبداني يمرّ نهر بردى ذلك النهر الجميل المشهور في هذه الجهات بجمال موقعه وصفاء مائه وبرودته وعذوبته. وبعد اجتياز النهر المذكور والمرور من محطة التكية يخترق الخط الحديدي نفقاً صغيراً فيصل إلى سوق وادي بردى والمسافة من مدينة بيروت حتى هذا الوادي تبلغ نحو 115 كيلومتراً"، ثم يضيف: "وكان في الطريق بين سوق بردى ومحطة التكية قرية اشتهرت بكثرة الفاكهة وجودتها، ويُقال إن جميع الفواكه المشهورة في بلاد الشام من أولّها إلى آخرها توجد في حدائق هذه القرية. أما سوق بردى ففيه عدّة مغائر وكهوف يذكر إنها كانت تسكنها الناس قديماً ثم تمرّ السكة الحديدية من بعد هذه المحطة على دير قانون حتى تصل إلى عين الفيجة وهي ذات مجرى جميل يصبّ في نهر بردى".

"لا وِرْدَ للقوم إن لم يعرفوا بردى"

وتغنّى الشعراء ببردى من أيام الجاهلية قبل الإسلام إلى يومنا هذا، وكان الشاعر حسّان بن ثابت الأنصاري أقدم مَن ذكره في قصيدته التي يمدح بها آل جفنة الغساسنة:

أولاد جفنة حول قبر أبيهمُ  

قبر إبن ماوية المُعِمِّ المُخْوِلِ

يسقون من ورد البريص عليهم  

بردى يصفق بالرحيق السلسل

وقال الشاعر الأموي جرير مادحاً: 

لا وِرْدَ للقوم إن لم يعرفوا بردى  

إذا تجوب عن أعناقها السدف

ويسرد الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن إبن هبة الله بن عبد الله الشافعي المعروف بإبن عساكر (499 هـ -571 هـ) في كتابه تاريخ مدينة دمشق في (باب ما ورد عن الحكماء والعلماء في مدح دمشق بطيب الهواء وعذوبة الماء) ما قاله أبو المطاع ذو القرنين أبو محمّد (من شعراء الشام في القرن الخامس):

سقى الله أرض الغوطتين وأهلها    

فلي بجنوب الغوطتين شجونُ

وما ذقتُ طعم الماء إلا استخفّني    

 إلى بردى والنيربين حنينُ

ويعرض إبن عساكر أيضاً قصيدة مُطوّلة عن محاسن دمشق للأمير أبو الفضل إسماعيل بن الأمير أبي العساكر سلطان بن علي بن منقذ الكِنَاني، قال فيها:

وكأن واديها قِراب أخضر  

يستلّ من بردا حساماً منصلا

وعلا عليها قاسيون كأنه    

ببناه تاج بالجواهر كُلِّلا

ولبردى سبعة أقسام هي نهر يزيد، نهر المزاوي، نهر الديراني، نهر تورا، نهر القنوات، نهر بانياس، والنهر الأمّ نهر بردى. وقد وصف الشاعر الراعي الدمشقي هذه الأنهار والوادي في قصيدة من مخطوطه (البرق المتألّق في محاسن جلق) نقتطف منها هذه الأبيات:

يا طيب ماء القنوات العذب    

إذ خصّصوه أهلها للشرب

وصنوه في فعله بانياس        

بنهر زها في حسنه بأناس

يتلوه نهر إسمه الداراني      

يمشي كمشي الواله الحيران

وجدول يسمّى قناة المزّة            

 مقامه فيها مقام العزّة 

ومن العصور القديمة إلى العصور الحديثة، ففي كتاب (الشوقيات) لأمير الشعراء أحمد شوقي (دار العودة – بيروت – 1988 م)، ألَّف الشاعر قصيدة (نكبة دمشق) للتعبير عن مشاعره إبان الاستعمار الفرنسي لسوريا لإعانة منكوبيها وألقيت القصيدة عام 1926 م وجاء في مطلعها:

سلام من صَبا بردى أَرَقُّ  

 ودمع لا يُكَفْكَف يا دمشقُ

ومعذرةُ اليراعة والقوافي  

جلالُ الرُّزءِ عن وَصْفٍ يَدِقُّ

ولم ينس الشاعر خير الدين بن محمود بن محمّد الزركلي بردى بعد فراقه بلده هرباً من الاستعمار الفرنسي إذا هاجت مشاعره في رائعته (العين بعد فراقها الوطنا):

أذكرتني ما لست ناِسيه  

ولرُبَّ ذكرى جدَّدَت حَزَناً

أذكرتني بردى وواديه  

والطيرَ آحاداً به وثُنى

وتغنّى بوادي بردى الشاعر الأخطل الصغير (بشارة الخوري) في قصيدة بردى:

سل عن قديم هواي هذا الوادي    

هل يخفق فيه غير فؤادي

بردى هل الخلد الذي وعدوا به  

إلاك بين شوادن  وشوادي

قالوا تحب الشام قلت جوانحي    

مقصوصة فيها وقلت فؤادي

ويتغزَّل الشاعر نزار قباني ببردى في قصيدة (موَّال دمشقي): 

هواك يا بردى كالسيف يسكنني  

وما ملكت لأمر الحب تبديلاً

والنهر يُسمِعنا أحلى قصائده  

والسرو يلبس بالساق الخلاخيلا

بردى وفيروز: أنا صوتي منك

وكيف لنهر أن يجفّ أو يموت بسبب الإهمال وهو حيّ وخالد في الأغاني التي يستمع إليها الناس كل صباح، ولعلّ فيروز أجمل مَن غنّى لدمشق وبردى، إذ يكفى أن يستمع المرء لقصيدة (مُرّ بي- كلمات: سعيد عقل -ألحان: محمّد عبد الوهاب) صباحاً ليشعر كأن رذاذ ماء بردى يُلامِس وجنتيه:

مُرَّ بي يا واعداً وعدا مثلما النسمةُ من بردى

تحمل العُمْرَ تُبدِّدُه آه ما أطيبه بَدَدا

رُبَّ أرضٍ من شذىً وندىً وجراحاتٍ بقلبي عِدى

سكتت يوماً فهل سكتت؟ أجملُ التاريخِ كان غد

وفي أغنية (شام يا ذا السيف- كلمات: سعيد عقل، ألحان: الأخوين الرحباني) تصدح فيروز بصوتها الخلاّب وهي تشرك مصيرها بمصيرالنهر:

أنا صوتي منك يا بردى    

مثلما نبعك من سُحبي

ثلج حَرْمون غَذَانا معاً    

 شامخاً كالعزِّ في القُبَب

اليوم وصل مستوى التلوّث في نهر بردى إلى درجات عالية حوَّل بعض أجزائه إلى سواقٍ للصرف الصحّي تنبعث منه روائح كريهة.

أعدّت وزارة الموارد المائية منذ سنوات عدّة بالتعاون مع محافظة دمشق خطة لرفع التلوّث عن النهر من خلال إنشاء محطتيّ معالجة بالإضافة إلى محطة الزبداني، إلى جانب إلزام المنشآت السياحية والمطاعم المُشيّدة على ضفاف النهر بإنجاز وحدات معالجة صغيرة قبل الصرف وعدم رميّ الأوساخ رغم وجود مصاعب تقنية ومادية تعيق عملية التنفيذ.

ويتساءل دمشقيون ألا يستحق النهر كل الجهود من المسؤولين الحكوميين كي يعود إلى بردى صباه، نهر من الأدب والذهب المُقدَّس؟