لماذا نشأ فن الموشَّحات في الأندلس؟

أسفر اختلاط العرب بالعجم في الأندلس عن نشوء الموشَّحات.. تعالوا لنتعرف إلى أصلها وأنواعها وأوزانها.

  • سبب نشوء فن الموشَّحات في الأندلس
    سبب نشوء فن الموشَّحات في الأندلس

من خلال اطّلاعي على الحياة الأدبيّة في العصر الأندلسيّ وعلى الطبيعة التي كانت تتميَّز بها بلاد الأندلس، أستطيع القول: إنّه كان لطبيعة الأندلس الساحِرة أثرها في خَصْبِ عقول الأندلسيين، والرقّة في تصويرهم، والسّعة في خيالهم، حيث إنّها كانت المُعلِّم الأوّل لهم الذي ألْهَمَهم الصوَر البديعة والألفاظ الساحِرة والعبارات الرنَّانة الرقيقة.

وهذه الحياة ساهمت في ازدهار الشعر الأندلسيّ، بالإضافة إلى تلك الحياة اللاهية التي عاشها الشُعراء نتيجةً للتحرّر الاجتماعيّ، وقد كان لاختلاط العرب بالعَجَم نشوء فن جديد من الشعر لم يكن معروفاً من قبل بين الشعراء العرب هو فن الموشَّحات، وفي هذا البحث سأتطرَّق إلى سبب نشوء فن الموشَّحات في بلاد الأندلس، تعريفه، سبب تسميته، أصله، ظهوره، تكوينه، انتشاره، أنواعه وبناؤه.

التعريف

الموشَّح لغة هو إسم مفعول من الفعل: وشَّح؛ يُقال: ثوبٌ موشَّح إذا كان فيه وَشْي، والموشَّحة من الظّباء والشاء والطير: التي لها طُرَّتان من جانبيها.

والوِشاح، بكسر الواو وضمّها، كِرْسَان [1] من لؤلؤ وجوهر منظومان، مخالفٌ بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، تتوشَّح به المرأة، والجَمْع: وُشُح وأوشِحة ووشائِح، والوشاح أيضاً أديم [2] عريض يُرَصَّع بالجوهر وتشدّه المرأة بين عاتِقيْها وكشحيْها. [3] ومن الوشاح اِشتقّ فعل: توشَّح؛ يُقال توشَّح الرجل بسيفه: تقلَّده، وتوشَّح بثوبه: تغشَّى ولبسه. وتوشَّحت المرأة توشّحاً واتّشحت اتّشاحاً: لبست الوِشاح، ووشَّحتها توشيحاً: ألبسها الوشاح. والتوشيح مصدر وشح.

والموشَّح في الاصطلاح الأدبي هو فنّ شعريّ مُسْتَحْدَث، يختلف عن ضروب الشعر العربي الغنائي في القافية والوزن واللغة؛ فلمّا كانتِ القصيدة العربية تلتزم قافية واحدة، فإنّ للموشَّح قوافي مُتعدَّدة تتوزَّع على أقفالها وأبياتها. ولمّا التزمت القصيدة بحراً واحداً، فقد يُنظَم الموشَّح على بحرٍ واحد، وقد يُنظَم على بحريْن، وقد يخرج على أوزان العرب. ولمّا التزمت القصيدة اللغة العربيّّة الفصيحة، فإنّ الموشَّح قد تكون خرجته بهذه اللغة، وقد تكون باللغة الدارجة، وقد تكون باللغة الرومنثية، وإنّ أبياته وأقفاله تُنْظَم باللغة العربية الفصيحة. وأوّل مَن عرفه من القدماء إبن سناء المُلْك، المُتوفَّى سنة 608 هـ [4].

وقد عرَّفه صلاح الدين الصفدي، المُتوفَّى سنة 637 هــ :" ورسْمُ الموشَّح هو كلام منظوم على قدْرٍ مخصوصٍ، بقوافٍ مختلفة" [5].

وقد عرَّفه المُحدثون، فقال الدكتور سيّد غازي: إنّها ثورة على بناء القصيدة العربية:" وأكبر ثورة قامت بها الأندلس في تاريخها الأدبي هي التي وجّهتها إلى التقاليد الموروثة في بناء القصيدة العربية. وقد ظهرت بوادرها في أواخر القرن الثالث، واستندت في جانب منها إلى المُسمَّطات الغنائية التي كلف بها المُحدثون في الشرق منذ القرن الثاني، واستوحت من هذه المُسمَّطات فنّاً جديداً من فنون الشعر الدوري، هو فنّ الموشَّح" [6]. وقد عرَّفه الدكتور منجد مصطفى بهجت: "فنّ من فنون الشعر العربي، التي أينعت في الأندلس" [7]. وهي عند الدكتور إحسان عبّاس،حركة تجديدية في فنّ الشعر العربي، وثورة على طبيعة القصيدة العربية الكلاسيكية التقليدية، ورجعة إلى الغنائية [8].

أصل التسمية

سُمِّي الموشَّح بهذا الإسِم لِمَا فيه من تزيين وترصيع وزخرفة، فيقول الصفدي:"وسمّوه موشَّحاً، وجعلوا ترصيع الكلام وتنميق الأقسام توشيحاً [9].

كما قال الدكتور محمَّد زكريا عناني فيه:" اشتُقَّت كلمة الموشَّح، على أرجح الظنّ، من المعنى العام للتزيين، سواء أكان ذلك وشاحاً أم قلادة مُرصَّعة، أم غير ذلك...عُرِف (الشعر) على مدى الأيام باسم الموشَّحات أو التوشيح أو الموشَّح، وعُرِفَ الناظِم فيه باسم الوشَّاح" [10]. وقال الدكتور إحسان عبّاس:" إذ الموشَّح يعني" المُعْلم" بِلون أو خطٍّ يخالف سائر لونه، أو الثوب حين تكون فيه توشية أو زُخرفة. وهذا هو الأشبه، في نظري، لنشأة هذه التسمية، فقد تصوَّر الأندلسيّون هذا النوع من النظم كرقعة الثوب وفيه خطوط  (أو سمِّها أغصاناً) تنتظمه أفقيّاً أو عاموديّاً [11].

والدكتور محمَّد زكريا عناني قال:" اِشتُقَّت كلمة الموشَّح على أرجح الظنّ، من المعنى العام للتزيين، سواء كان ذلك وِشاحاً أو قلادة مُرصَّعة، أم غير ذلك [12].

أصل فنّ الموشَّح 

أول مَن تحدَّث عن أصل فنّ الموشَّح هو إبن بسّام الشنتري، المتوفَّى سنة 542هــ، لكنَّه لم يعيّن مُبتكره، فذكر رجليْن وحار بينما، فذكر أنّ الرجل الأوّل ربّما هو محمَّد بن محمود القبّري [13]، والثاني هو إبن عبد ربّه القرطبي، صاحب كتاب "العِقْد": "وأول مَن صنع أوزان هذه الموشَّحات بأفقنا واخترع طريقتها - في ما بلغني - محمَّد بن محمود القبّري الضرير..، وقيل إنّ إبن عبد ربّه، صاحب كتاب "العِقْد" أوّل مَن سبق إلى هذا النوع من الموشَّحات عندنا. ثمّ نشأ يوسُف بن هارون الرّمادي، فكان أوّل مَن أكثر من التضمين في المراكيز، يُضمِّن كل موقف يقف عليه في المركز خاصّة... ثم نشأ عبادة هذا، فأحدث التضفير، وأنه اعتمد مواضع الوقف في المركز" [14]. 

ومن بعده أتى أبو محمَّد عبد الله إبراهيم الحجاري، المُتوفَّى سنة 584هــ، وهو من مدينة وادي الحجارة القربية من قرطبة، فذكر في كتابه" المسهب، في غرائب المغرب" أنّ مُبتَكِر فن التوشيح هو مقدّم بن معافى القبْري [15]، وأنّ عبد ربّه أخذ عنه هذا الفنّ، وقال إبن خلدون:" وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن مُعافر الفريري من شُعراء الأمير عبد الله بن مُحمَّد المَرْوانيّ وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربِّه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما من المُتأخّرين ذِكر وكسدت موشَّحاتهما، فكان أوّل مَن برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزّاز، شاعر المُعتصم بن صمادح، صاحب المرية [16]. ويبدو أنّ ناسخ مخطوط" كتاب العِبَر" قد وقع في خطأ في رَسْم إسم " مُقدّم بن مُعافى القَبْري"، فجاء" مُقدّم بن مُعافى الفريري".

وذهب الصفدي إلى أنّ عبد ربِّه هو الذي ابتكر فنّ التوشيح في الأندلس: "إنّه أوّل مَن نظم الموشَّحات في المغرب الإمام أحمد بن عبد ربِّه، صاحب كتاب العقد" [17].

وعلى الرغم مما قيل حول ترجيح مَن هو مُخترع فنّ الموشَّح، لا بدَّ من القول: "إنّ الرجليْن كانا مُتعاصريْن، ولا يُستبعد أن يكونا قد حاولا معاً اختراع الموشَّح. وبالنسبة إلى التفرّد بصنعة التوشيح فليس هنالك خلاف حول هذا الأمر، حيث إنّ الأندلسيين هم الذين تفرَّدوا به حسب ما يقول إبن بسّام:" وكانت صنعة التوشيح، التي نَهَجَ أهل الأندلس طريقتها، ووضعوا حقيقتها، غير مرموقة البرود..."([18].

وقال الصفديّ:" الموشَّح فنّ تفرَّد به أهل المغرب، واِمتازوا به على أهل المشرق، وتوسّعوا في فنونه وأكثروا من ضروبه" [19].

إنّ مُجْمَل القول ينتهي إلى أنّ الموشَّح هو من ابتكار القريحة العربية على أرض الأندلس، وعن أهل الأندلس أخذ المشارِقة هذا الفنّ الذي استحدثوه في الأندلس.

وفي ذلك قال الأستاذ محمَّد بوذينة: "أجمع مؤرِّخو الأدب الأندلسيون على أنّ الموشَّحات من مُخترعات بلادهم، وأنّ المشارِقة أخذوها عنهم وتَتَلْمَذوا فيها عليهم" [20].

 ظهوره

ظهر هذا الفنّ في أواخر القرن الثالث الهجري، غير أنّ المصادر العربية لم تذكر لنا موشَّحة تعود إلى هذا القرن، وعلى الرّغم من ذلك لا بدَّ من الرجوع إلى قول إبن بسّام : "غير مرموقة[21] البُرود، ولا منظومة العُقُود، فأقام عبادة هذا منآدها [22] وقوم مَيْلها وسِنادها، فكأنّها لم تُسمع بالأندلس إلا منه، ولا أُخذت إلا عنه، واشتهر به اشتهاراً غلب على ذاته، وذهب بكثيرٍ من حسناتهِ" [23].

وأقدم موشَّحة وصلت هي موشَّحة عبادة بن ماء السماء، التي تعالج الغزل الغُلامي، ومطلعها.

مَنْ ولي

في أمّةٍ أَمْراً ولَمْ يَعْدِلِ

يُعْزَل

إلا لحاظَ الرّشا الأكحلِ

ويردّ إبن خلدون سبب نشوء فن الموشَّح إلى كثرة الشعر في بلاد الأندلس ووصوله إلى درجةٍ عاليةٍ من التنميق: "وأمّا أهل الأندلس فلمّا كَثُر الشعر في قُطْرهم وتهذَّبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المُتأخّرون منهم فنّاً منه سمّوه بالموشَّح ينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً يُكثرون من أعاريضها [24] المختلفة ويُسمّون المُتعدِّد منها بيتاً واحداً ويلتزمون عند قَوافي تلك الأغصان وأوزانها مُتتالياً في ما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبياتٍ ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراس والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون" [25].

ومن أهم أسباب شيوع فن الموشَّح وانتشاره هو الغناء الذي كان مُنتشراً في العصر الأندلسيّ، وقد ذهب المُستشرقون إلى القول إنّ الموشَّحات كانت وليدة الأغنية الشعبيّة، وإنّها ظهرت عن طريق انتشار الرومنثية بين أهل الأندلس [26].

ولا بدّ من ذِكر أنّ التداخل الحضاري بين اللغتيْن العربية والرومنثية، ساعد في نشوء هذا الفنّ الشعبي الجديد المعروف بالموشَّح.

تكوينه

الموشَّحة كانت في بادئ الأمر على صورة القصيدة العربية بسيطة، ولكن كان بينهما فارِق واحد هو وجود الخَرْجة في الموشَّحة من دون القصيدة، لا تضمين فيها ولا أغصان، وكان وزنها في الغالب خارجاً على أوزان العرب المعروفة، وكانت خرجتها باللفظ العامي العربي أو اللفظ العامي العَجَمي (الرومنثية) [27].

وقد أشار إبن بسّام إلى ذلك في قوله: "وأوّل مَن صنع أوزان هذه الموشَّحات بأفقنا واخترع طريقتها- في ما بلغني- محمَّد بن محمود القبري الضرير. كان يصنعها على أشطار الأشعار، غير أنّ أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة، يأخذ اللفظ العامي والعجمي، ويُسمّيه المركز، ويضع عليه الموشَّحة من دون تضمين فيها ولا أغصان" [28]. ومن بعده جاء هارون رمادي، المتوفَّى سنة 403 هـ وجدَّد في هيكل الموشَّحة، فجزّأ الأشطار وعُرِفت الأشطار في ما بعد بالأقفال: "فكان أوّل مَن أكثر فيها من التضمين في المراكيز، يضمن كل موقف يقف عليه في المركز خاصّة". ثم بعد ذلك أحدث عبادة بن ماء السماء تجديداً آخر على الموشَّحة وهو تجزئة بقيّة أشطارها إلى أجزاء صغيرة، عُرِفت بالأبيات: "فأحدث التضفير؛ وذلك إنه اعتمد مواضع الوَقْف في الأغصان فيُضمّنها، كما اعتمد الرماديّ مواضِع الوَقْف في المركز" [29]. وعلى يد عبادة وصلت الموشَّحة إلى صورتها النهائية وتكامل انتظامها.

انتشاره، تطوّره، أنواعه وأوزانه

انتشرتِ الموشَّحات في الأندلس، ومنه انتقلت إلى المغرب والمشرق معاً [30]. ووصلت في عهد أمراء الطوائف بالازدهار والنضوج. وبرع في هذا الفنّ الأعمى التطيلي، وإبن بقيّ، وأبو بكر الصيرفي، وإبن باجه، وأبو بكر الأبيض، وأبو بكر بن زهر، وإبن سهل، وسهل بن مالك.

يقسم إبن مالك الموشَّح إلى قسميْن: تام وأقرع؛ فالتام هو الذي يتكوَّن من ستة أقفال وخمسة أبيات، أي هو ما ابتُدِئ فيه بالقفل. والأقرع هو الذي يتألَّف من خمسة أقفال وخمسة أبيات، أي ما ابتُدئ فيه بالبيتِ مباشرةً [31].

ويُقسَم الموشَّح إلى قسميْن: القسم الأول هو ما بُنيَ على أوزان العرب، والثاني ما خرج عن هذه الأوزان.

وقد أبدى إبن بسّام قلقه من الاتجاه الإباحي الذي ساد أوزان الموشَّحات، فقال:" وهي أوزان كَثُر استعمال أهل الأندلس لها في الغزل والنسيب، تشقُّ على سماعها مصونات الجيوب بل القلوب [32].

وأوزان الموشَّحات أكثرها ليس على أعاريض العرب، لذلك حرص عدد من مؤرِّخي الأدب الأندلسي عن ذِكرها، فقال إبن بسّام: "وأوزان هذه الموشّحات خارجة عن غرض هذا الديوان، إذ أكثرها على أعاريض العرب [33].

وإن كانت الموشَّحة قد تُنْظَم على بحرٍ واحدٍ أو بحريْن؛ فإذا كانت على بحرٍ واحدٍ كانت أقفالها على وزن أبياتها، وإذا كانت على بحريْن كانت أقفالها مُخالفة لأوزان أبياتها [34].

وهذا التنويع في القافية والوزن ما هو إلا دليل على اعتماد الموشَّحات اعتماداً كبيراً، بحيث تكون الموشَّحة أقرب إلى قطعةٍ موسيقيّةٍ منها إلى قطعةٍ شعريّةٍ [35].

بناء الموشَّحة

جعل إبن سناء المُلك القفل مكوَّناً من جزءيْن فصاعداً إلى ثمانية أجزاء، ونادراً ما يصل إلى عشرة أجزاء، والجزء منه ما يكون إلا مفرداً. وينبغي على أقفال الموشَّحة أن تكون متّفقة في عدد أجزائها في الوزن والقافية [36]. وإبن سناء المُلك يُطلِق على القفل الأخير إسم الخرجة [37].

والبيت يتكوَّن من ثلاثة أجزاء ونصف الجزء، ومن النادر أن يكون في جزءيْن، وقد يكون من ثلاثة أجزاء ونصف الجزء، وهذا لا يكون إلا فيما أجزاؤه مركّبة، وأكثر ما يكون من خمسة أجزاء. وقد يكون الجزء منه مفرداً، وقد يكون مركّباً. فغالباً ما يكون المركَّب من فقرتيْن، ونادراً ما يأتي من ثلاث فقر. ويجب أن تكون أبيات الموشَّحة متّفقة في عدد أجزائها وفي وزنها من دون قوافيها؛ إنّه يُستحسَن أن تكون قوافي الأبيات مخالفة لبعضها [38].

ويتكوَّن الدور أو المقطع من بيتٍ وقفل يليه، ويشكِّل وحدة الموشَّحة على غرار البيت الشعريّ في القصيدة الكلاسيكية. والخرجة هي القفل الأخير من الموشَّحة، وقد سمَّاها إبن بسّام المركز. وهي ثلاثة أنواع: معربة، وعامية، وعجمية [39]. 

والخرجة المعربة تُكتَب باللغة العربية الفصيحة، والعامية تُكتَب باللغة العربية الدارجة، والعجمية باللغة الرومنثية.

أغراض الموشَّح

كانت الموشَّحات في بدايتها تعالج ثلاثة أغراض ترتبط بالغناء، وهي الغزل والخمريّات، ووصف الطبيعة. ومع مُضيّ الوقت راح الشعراء يطرقون باب المديح من أجل التكسّب المادي والحصول على صلات الحاكِم وأعطياته. وهذه الأغراض الشعريّة ظلَّتِ العمود الفِقْريّ للموشَّح الأندلسيّ، إلى أن ظهرت في ما بعد أغراض شعريّة أخرى كالرّثاء، والهجاء، والزّهد والتصوّف، والطرديات (وصف رحلات الصّيد)[40] وهي الأعراض نفسها التي عالجتها القصيدة العربيّة.

وبالنسبة إلى الغزل فقد احتلّ الصدارة في موشَّحات الأندلس، وهذا النوع يُكثر الشاعر فيه من ذِكر مفاتِن المحبوبة والتغنّي بجمالها الفتَّان الباهِر، فهو يتغنَّى بمفاتِن جسدها، ويصوِّر لوعة الحبّ التي يُعاني منها بسبب بعاد الحبيبة أو بسبب صدّها له، والحديث عن الواشي والعاذِل والرقيب، وهذه الموضوعات كان قد طرق إليها الشاعر العربي في القصيدة الكلاسيكية من قبل [41].

عبثَ الشّوقُ بِقَلْبي فاشتكى        

أَلَمَ الوجْدِ فلبّت أدمعي

أيّها الناسُ فؤادي شَغِفُ

وهو من بَغي الهوى لا يُنصفُ 

كم أداريه ودمعي يَكِفُ 

في هذه الموشَّحة يشكو إبن بقيّ شدَّة الألم من حرقة الحبّ، فما كان من دموعه إلا أن لبَّت نداء قلبه وسالت دموعه، وهو فوق ذلك فإنّ قلبه بالرّغم من حرقته لا يُنصف وهو يحاول أن يُداري هذا الحُب لكنّ دمعه لا يستجيب له، يذرفه على الرّغم من مُداراته له.

كما نرى لوعة الحبّ وحرقتها تختلج صدره، وتُظهِر مدى شدَّة تعلّقه بالحبيبة. والموشَّحة هذه هي من الموشَّح التام ومن وزن واحد وهو وزن "بحر الرّمل" ومن موشَّحةٍ أخرى له في الغزل، التي يقول في مطلعها: 

بأبي ريمٍ إذا سَفَرا

أطْلعْت أزراره قَمَرا        

فاحذروه كُلّما نظرا

يستهلّ إبن بقيّ موشَّحته بوصف الحبيبة بالغزال المُشرق المُضيء، الذي ما إن يظهر يبدو كالقمر المُنير إشراقاً وتألّقاً، وهو يدعو كل مَن ينظر إليه ويشاهده إلى أن يأخذ حَذَره منه. ففي مطلع هذه الموشَّحة يعرض إبن بقيّ مفاتِن حبيبته.

وهو يتفنَّن في عرض مفاتِن الحبيبة في جميع موشَّحاته الغزليّة، وإبن بقيّ كان مِعطاءً في هذه الناحية، وهذا العطاء ما هو إلا انسياب نهر الحبّ الدافِق في طاقات الوشَّاح الخلاّقة.

ولقد قيل إنّ: في شعر إبن بقيّ صوَراً للشذوذ الجنسيّ، لكن ذلك لم يخرج عن كونه قيل في وصف غلامٍ أو آخر، فهو يصف رقَّته وليونته، وحلو حديثه في جلسةٍ لطيفة، وهذا في رأيي من واقع الحياة الاجتماعيّة في ذلك العصر حيث كان الشعراء يتغزَّلون بالغلمان الذين يقومون على خدمة الخمر وشاربيها من دون أن يكون شذوذاً، لأنّني لم أجد في شعره ألفاظاً تصرِّح بوجود شذوذٍ جنسيّ.

لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ معظم موشَّحات العصر الأندلسيّ لم تكن خالصة في الغزل، بل اختلطت في كثيرٍ من الأحيان بأغراضٍ شعريّةٍ أخرى هي الخمر، المدح، ووصف الطبيعة. وبالنسبة إلى موضوع الغزل فقد غلبت عليه الصورة الشعرية بموسيقاها المُتدفِّقة، ورقِّة ألفاظها.

وشاعت الخمر في موشَّحات العصر الأندلسيّ كشيوعه في القصيدة العربيّة. فالوشَّاحون وصفوا الخمر، ووصفوا أوعيتها ومجالسها ومدى انسجام الشاربين، وأهميّتها في جعلها تساعدهم على نسيان همومهم، ولكنّهم لم ينظموا موشَّحات خمريّة خالِصة بالخمر إلا في ما ندر؛ لأنّهم كانوا يمزجون الخمر بأعراضٍ شعريةٍ أخرى كالغزل، والمديح ووصف الطبيعة، وإذا كانت الموشَّحة خمرية، فإن الخمر تُذكر غالباً في المطلع والدّور الأول والخرجة كقول إبن بقيّ في موشَّحة له في الخمر خرجتها بالعامّيّة: 


ساعدونا مصبحينا

ترتشفها قد ظمينا

كنُضارٍ في لُجيْن

نِعْم أجرُ العَاملينا

المصادر

[1] الكِرسان؛ مثنّى كِرس وهو واحد أكراس القلائد والوُشُح ونحوها؛ يُقال: قلادة ذات كِرس وذات كرْسين إذا ضَمَمْتَ بعضها إلى بعض.
[2] الأديم: الجلد.
[3] طويل، د. يوسف: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص. 200).
[4] نفسه: المرجع نفسه (ص. 201).
(5) توشيع التوشيع (ص.21) وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص.19-20).
(6) ديوان الموشَّحات الأندلسية (ج1ص5) وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص202).
[7] الأدب الأندلسي من الفتح حتى سقوط غرناطة (ص 245).
[8] تاريخ الأدب الأندلسي- عصر الطوائف والمرابطين (ص217) وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسي (ص21).
[9] توشيع التوشيح (ص21).
[10] الموشّحات الأندلسيّة، مجلّة عالم المعرفة، العدد 31 (21) وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص203).
[11] تاريخ الأدب الأندلسيّ- عصر الطوائف والمرابطين (ص220).
[12] الموشّحات الأندلسيّة (ص21) وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص204).
[13] جاء في يتيمة الدهر (ج2 ص 30):" المكفوف محمّد بن محمود بن أيّوب الغنوي"، وأورد له الثعالبيّ أربعة أبيات على البحر البسيط أوّلها:

   لا يُبعِدُ الله أيّاماً نَعِمْتُ بها            بيْن الغواني وشَمْلُ الحيّ مُلتئِمُ
[14] الذخيرة (ق1 ص469). والمقصود بالمكز الخرجة أو القفل بشكلٍ عام، وبالتضفير: التجزّؤ، وبالأغصان: أجزاء البيت، وبالتضمين: تجزئة القفل.
[15] نفح الطّيب (ج 5 ص83) و (ج9 ص231)، وأزهار الرياض (ج2 ص207).
[16] كتاب العِبَر (ص584).
[17] توشيع التوشيح (ص20).
[18]) الذخيرة (ق 1 ص469)، وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص 207).
[19] توشيع التوشيح (ص20)، وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص207).
[20] ديوان الموشّحات الأندلسيّة (ص12).
[21] مرموقة: مُعْلمة.
[22] منآدها: قاعدتها.
[23]) الذخيرة: (ق1 ص469) وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص208).
[24] المُراد فيها: التّفعيلات.
[25] كتاب العِبَر (ص583).
[26] طويل، د. يوسف: مدخل إلى الأدب الأندلسي (211).
[27] نفسه: المرجع نفسه (ص 212).
[28] الذّخيرة (ق1 ص496)، وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص 212).
[29] نفسه: المصدر نفسه والصفحة نفسها.
[30] طويل، د. يوسف: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص 212-213).
[31] توشيع التوشيح (ص21)، وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص 213).
[32] الذخيرة (ق1 ص 496).
[33] الذخيرة ( ق1 ص 470).
[34] تاريخ الأدب الأندلسيّ- عصر أمراء الطوائف والمرابطين ( ص 236)، وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص214).
[35] طويل، د. يوسف: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ ( ص214).
[36] توشيع التوشيح (ص22).
[37] طويل، د. يوسف: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ ( ص215).
[38] توشيع التوشيح ( ص22)، وطويل: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (ص215).
[39] طويل، د. يوسف: مدخل إلى الأدب الأندلسيّ (215).
[40] نفسه: المرجع نفسه (ص 227).
[41] نفسه: المرجع نفسه (ص227-228).