حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت

المكانة التجارية لحلب ساهمت في انتشار الحمّامات في أسواق المدينة وفي تنوّعها.. تعالوا نتعرف إلى تاريخ هذه الحمامات وما تبقى منها.

  • "حمّامات" حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت

بقبابها المزخرفة والثريات النحاسية والفوانيس المُضيئة، استطاعت حلب أن تُعيد زائري حمّامات حلب الأثرية إلى ذكريات الماضي الجميل. مشهد يتجلّى عند دخولك إلى "حمّام الصالحية" الكائن بالقرب من باب المقام ولا زال يقدِّم خدماته ويمارس نشاطه ليحكي عادات أهالي مدينة حلب وتراثها الشعبي، حيث يتّصل عَبَق الماضي بالحاضر.

المكانة التجارية لحلب كنقطة التقاء طريقي الحرير الشمالي والجنوبي جعل منها محّجاً للقوافل التجارية على مرّ العصور. واقع أدّى إلى انتشار الحمّامات في أسواق المدينة وتنوّعها.

وإلى جانب الحمّامات اشتهرت المدينة أيضاً بخاناتها وأسواقها، الأمر الذي وفَّر أرضية مناسبة لنشاط حركة التجارة تاريخياً والسياحة في العصر الحديث. فالوفود التجارية كانت تجد في حلب ما يمكِّنها من المكوث في المدينة وتبادُل البضائع في ظلّ توفّر ما تحتاجه من خدمات، حيث يتمّ استقبال أصحاب البضائع القادمين وتأمين بضاعتهم قبل أن يتوجَّهوا للراحة بالحمّام. هكذا اقترن توزيع الحمّامات بأسواق المدينة حتى اشتهرت حمّامات حلب بمُسمّى يُطلق عليه "حمّام السوق".

صاحب "حمّام الصالحية" في المدينة القديمة إبراهيم قطّان تحدَّث مع الميادين الثقافية عن الحمّام وتاريخه، وينسب إنشاء الحمّام إلى الأمير أزدمر بن عبد الله الشركسي الملكي الأشرفي، حيث تمّ إنشاؤه حوالى عام 1485، مضيفاً أن الحمّامات العامة في مدينة حلب مشهورة بالتُراث والبناء العُمراني القديم، إذ إن "حمّام الصالحية" ليس الأقدم في المدينة. فقد أُعيد ترميمه حوالى عام 1700 ميلادي، في حين أن الحمّامات الكائنة في "سوق النحّاسين" و"حمّام العتيقة" يزيد عُمرها عن 700 عام.

وشهدت غالبيّة الحمّامات حضارات مُتعاقبة وهي مُرتبطة ببناء المساجد على مرّ التاريخ. تنخفض أرضيّة مدخل الحمّام عن مستوى الشارع الخارجي بمقدار 60 سم، حيث يتمّ الهبوط إلى المدخل من خلال 3 درجات والمدخل عبارة عن فتحة مُستطيلة بعرض 1،20 م.

وعن سبب تواجد غالبيّة الحمّامات في أحياء حلب القديمة، يوضح قطّان أنه يعود إلى التقسيم الداخلي للمدينة، إذ تختصّ كل محلة لنفسها بحمّام عام يُعرَف باسمها أو باسم حِرفة تشتهر بها.

أما ارتياد الحمّامات فقد مثل ركناً أساسياً من تقاليد السوريين، وشكل وجودها منذ ما قبل الإسلام، وسيلة من وسائل الترفيه.

اليوم يندرج ارتياد ما تبقى من حمامات حلب في إطار محاولة إعادة إحياء تقاليد قديمة، وبثّ الحياة في المدينة العتيقة وفتح أبوابها أمام السيّاح والمهتمين بهذه التجربة.

  • حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
    حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
  • حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
    حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت

 

من جانبه، يشير الباحِث والمؤرِّخ علاء السيّد إلى أن مدينة حلب "تميَّزت بتواجد عدد ضخم من الحمّامات على مساحة المدينة القديمة، حيث كان توزيعها كثيفاً جداً، إذ لا توجد محلّة من محلاّت حلب إلا وفيها أكثر من حمّام، وربما خصّص بعضها للرجال والبعض للسيّدات، مع الإشارة إلى أن عدد الحمّامات داخل أسوار المدينة القديمة يستحوذ على النصيب الأكبر من إجمالي الحمّامات في المدينة، وذلك لأن المنطقة التي تقع داخل الأسوار يتداخل فيها النسيج العُمراني ويتكامل تنظيمه بعكس المناطق الواقعة خارج الأسوار، ونجد الحارات المُتعدّدة والمحلاّت المُتجاوِرة ويكاد يكون كل منها مستقلاً بذاته داخل المدينة الواحدة، ولا بدّ من أن يكون لكل محلّة من هذه المحلاّت اكتفاء ذاتي مما تحتاج إليه من الحمّامات العامة، ويتوقّف على مساحتها وتعداد السكان فيها".

ويضيف السيد في حديث مع الميادين الثقافية أنه "على الرغم مما تعرَّضت له حمّامات حلب من تخريب وتدمير منقطع النظير أثناء غزو التتار للمدينة، حيث أن العدد الضخم لم يتبقَ منه سوى 10 حمّامات داخل المدينة وخارجها، وأن عدد الحمّامات التي كانت موجودة في مدينة حلب في الفترة المملوكية الجركسية 34 حمّاماً، ما يوحي بكثافة توزيع الحمّامات داخل المدينة، ففي الجزء الشمالي الشرقي من مدينة حلب وبالتحديد المنطقة الواقعة حول باب الحديد ومنطقة بانقوسا، نجد أن هذه المنطقة رغم صِغَر مساحتها إلا أن فيها عدد كبير من الحمّامات الباقية، ومعظم حمّاماتها لا زالت تعمل مثل حمّام الجديدة 1407م ، وحمّام سوق الغزل المندثر والذي لا زالت أطلاله باقية تدلّ على آثاره، وإلى الغرب منها كان يوجد حمّام سوق الصغير، كل هذه الحمّامات في منطقة لا تتعدّى مساحتها ال 200 متر مربع".

أما المهندس محمود سيكت، المُتخصّص في الدراسات الإنشائية، فيقول إن مدينة حلب تحتوي على حمّامات عامة وخاصة عديدة، وهي صروح معمارية جميلة وتشبه حمّامات القسطنطينية والأناضول، حيث يذكر أحد المؤرّخين أنه في بداية القرن السابع عشر (1615) كانت تحتوي حلب على عددٍ كبيرٍ من الحمّامات.

ويُضيف سيكت أن إبن الشداد، الباحِث التاريخي الذي وثَّق تاريخ مدينة حلب، يذكر في كتابه "الأعلاق الخطيرة" وجود 71 حمّاماً داخل حلب فقط، بالإضافة إلى وجود 31 حمّاماً في البيوت الخاصة و28 حمّاماً عاماً خارج أسوار المدينة و6 حمّامات خارج باب أنطاكية و3 حمّامات خارج الحلبة و24 حمّاماً في البساتين و7 حمّامات خارج باب الجنان و11 حمّاماً في الرمضانية، وقد وصل مجموعها إلى 195 حمّاماً، في حين يروي ابن الشحنة بأنه عندما ابتعد عن موطِنه حلب كانت معظم تلك الحمّامات قد انهدمت وشيّدت بعدها حمّامات جديدة، منها "حمّام السلطان" و"البهرمية" و"الذهب" و"البيلوني" وغيرها، أما "حمّام الناصري" المملوكي فلم يُشيَّد في حلب حمّام يُضاهيه جمالاً وهندسة. 

أما حول أقسام الحمّامات التاريخية، فيشير سيكت إلى أنها تنقسم إلى أربعة أقسام مُتدرّجة من حيث حرارتها تسهيلاً لتأقلم الجسم، فمُصطلح "البرّاني" يعني الصالة الباردة وهي قاعة الحمّام الخارجية وهي واسعة جداً ومُغطّاة بقبّة ومُبلّطة ولها أبواب ونوافذ تطلّ على الجهة الخارجية، وتتواجد فيها مقاعد حجرية طويلة على جهات القاعة الأربع مُدّ عليها البساط و الحُصُر والسجّاد وتشبه الحجرات الصغيرة، وتقع بركة كبيرة في وسط القاعة تُستخدّم للتزيين وغسل أقمشة الحمّام وغيرها.

ويتواجد باب على أحد أطراف هذه القاعة يؤدّي إلى القاعة الوسطى التي تُدعى "الوسطاني" أيّ الصالة الفاتِرة التي تحتوي على الأجران الحجرية وأنابيب فخّارية للماء البارد والساخِن، وطاسات نحاسية لصبّ المياه، ثم باب يؤدّي إلى قاعة داخلية أو الجوّاني حيث تشتدّ الحرارة.

أما "الجوّاني" فيعني الصالة الحامية التي تحتوي على مصطبة أو مقعد مُبلّط في الوسط حرارته عالية يقعد عليه المُستحمّون للتعرّق، وهذه القاعة أقلّ إضاءة من القسم الوسطاني، وتحتوي على نوافذ عالية وفي بعض الأوقات على نوافذ صغيرة مُغطّاة بالزجاج الملَّون، في حين أن "بيت النار" الأكثر حرارة في الحمّامات الحلبية، فهو الذي ينشر الدفء في الحمّام وتكون حرارة المكان مرتفعة لدرجة عدم تمكّن الشخص من البقاء فيه أكثر من بضعة دقائق.

وفي ما يتعلّق بتوقيت الاستحمام، فإن العادة المُتّبعة قديماً هي استحمام الرجال من الصباح الباكِر وحتى الظهر، ثم النساء من الظهر وحتى مغيب الشمس. وتبقى النساء مدة أطول في الحمّام مُقارنة بالرجال بسبب تنظيف شعرهن وصبغه وتحميم أطفالهن، ويعتبر الحمّام في المُعتقدات الشعبية عبادة وطهارة ومسرَّة ومِتعة وتسلية، وهو من معالم النعيم والجنّة لذلك، يُقال لمَن استحمّ "نعيماً".

  •  
  • حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
    حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
  • حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
    حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
  • حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
    حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
  • حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت
    حمّامات حلب التاريخية: شواهد حيّة على أزمنة مضت

لعل المكانة التجارية لمدينة حلب كنقطة التقاء طريقي الحرير الشمالي والجنوبي جعل منها محجاً للقوافل التجارية على مر العصور. واقع أدى إلى انتشار الحمامات في أسواق المدينة وتنوعها، ومن أهمّها "حمّام يلبغا الناصري" الذي يقع أمام البرج الجنوبي لقلعة حلب، وذكره ابن الشحنة الباحث في العصر المملوكي باسم "الحمّام الناصري".

ومن المُرجَّح أن بناءه يعود إلى أوائل حُكم المماليك في مُنتصف القرن الــ 14، وينسب إلى الأمير سيف الدين يلبغا الناصر، وعندما تولَّى النيابة للسلطنة بمدينة حلب عام 1381 ميلادي، واستُعمِل الحمّام في بداية هذا القرن كمكان لإعداد وصناعة اللبّاد، لذا سمّاه الأهالي حمّام اللبابيدية وكان له ثلاثة سراديب وواجهة من الحجر الأصفر والأسود مُشابه لطراز المدارس الأيوبيّة والمملوكية. 

وكذلك "حمّام النحّاسين" المعروف سابقاً بـ "حمّام الست" ويقع أمام خان النحّاسين مباشرة، وكان تابعاً لوقف المدرسة الخسروية ويعود بناؤها إلى القرن الــ 12، ولا يزال يُستعمَل حتى الآن بوظيفته، ويمتاز بقبّته المُزيّنة بالفتحات الزجاجية للإنارة وضخامة حجم قاعة البرّاني فيه. 

أما "حمّام السلطان" فيقع في الجهة الشمالية المقابلة للقلعة، ويُنْسَب إلى السلطان الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي الذي أمر بإنشائه عام 1211، وهو مُخصّص حالياً للنساء فقط وفيه ضريح غير معروف صاحبه. ويؤكّد ابن الشحنة بأنه كان موجوداً في أيامه.

بينما يقع "حمّام الجوهري" غربي الشارع المؤدّي إلى باب قنّسرين، وسُمِّي باسمه نسبة إلى بانيه الأمير علاء الدين الجوهري الذي تولّى نيابة حلب سنة 800 هـ وتوفّي فيها سنة 806هـ، والحمّام يتميَّز بضخامة أقسامه البرّاني والوسطاني والجوّاني مع القباب والقمريات والصحن الواسع.

أما "حمّام البيّاضة" وهو من الفترة المملوكية فقد بُنيَ من قِبَل إبن النفيس جمال الدين أبو المحاسن أحد أعيان الخواجكية عام 1450، وهو من الحمّامات التي لا تزال تحافظ على وظيفتها. كذلك "حمّام ازدمر" أو أوزدامير فهو حمّام جميل بناه ازدمر بن مزيد الجركسي حوالى سنة 890 هـ ، ويقع تجاه سبيل البيك في حيّ العقبة، أما حمّام بهرام باشا (البهرمية) فيقع مقابل قهوة أبشير باشا ، وهو من أوقاف جامع البهرمية ويعود تاريخه إلى القرن الــ 16 للميلاد ، ويمتاز بواجهته الجميلة ويُستخدَم أحياناً كدار للأفراح، في حين أن حمّاميّ "البرازي" يقعان داخل باب النصر وقد شيّده حاكم حلب أبو النصر.

وبالانتقال إلى حمّاميّ علي داخل معمل لصناعة الجلود فقد ظل أحدهما قائماً. وعلى الرغم من تهدم قسم منه إلا أنه كان يُستخدّم كحمّام وكان وقفاً لمدرسة العصرونية، في حين أن "حمّام العفيفي" شُيِّد من قِبَل عفيف الدين بن رازيك في سنة 1212م، و"حمّام الشمّاس" كان يقع في حيّ الجلوم وكان الحمّام وقفاً لمدرسة أبي بكر، و"حمّام شمس الدين لولو" وهو وقف لمدرسة السفّاحية. 

وحمّاما ابن عصروني يقعان في حيّ السويقة، بينما يقع حمّام العفوي في باب الجنان وهو وقف لمدرسة الشرفية، وانهدم لاحقاً وتحوّل إلى حديقة، وحمّاما القلعة أحدهما كان لا يزال يعمل حتى القرن 15، وحمّام الويضي كان يقع في محلة الورّاقة على ضفة نهر قويق.

ما ذُكِرَ سابقاً كان اللبنة الأساسية لإدراج مدينة حلب القديمة عام 1986 على لائحة التراث العالمي من قِبَل منظمة اليونيسكو. الأمر الذي يؤكّده المهندس أحمد الشهابي مدير خدمات المدينة القديمة في مجلس مدينة حلب الذي بيَّن لـ الميادين الثقافية أن "تركّز غالبيّة الحمّامات التراثية في الحيّز الجغرافي من أحياء حلب القديمة، أدّى إلى دخول المدينة على لائحة التراث العالمي".

ويضيف أنه "بعد تحرير مدينة حلب عام 2016 قدّرت الأضرار التي طالت الحمّامات والتواصل مع أصحابها، وتمّ ترميم واستثمار بعضها مثل حمّامات القوّاص وغرناطة والسادات بالإضافة إلى حمّام باب الأحمر"، موضحاً أن المديرية بالتعاون مع مديرية الآثار والمتاحف تقوم بتقديم التسهيلات اللازمة لمنح تراخيص إعادة ترميم تلك الحمّامات، بالإضافة إلى الإشراف على أعمال ترميم الحمّامات والمعالِم الأثرية وفقاً لمعايير الترميم المُعتمدَة.