الحب عند العُذريّين: الموت أسهل من فِراق الحبيب

بكى قيس على فراق لبنى ومرض حتى مات ودفن إلى جانبها.. تعالوا لنتعرف إلى الحب العذري وأبطاله في التاريخ العربي.

  • لوحة مجنون ليلى
    لوحة مجنون ليلى

اختلف المؤرّخون والكتّاب حول نسبة شعر الحب العُذري إلى قبيلة عذرة لوجود شعراء عُذريّين من قبائل أخرى. كما اختلفوا أيضاً حول ماهيّة العفّة وطبيعة العلاقة بين الشاعر العُذري ومحبوبته وصحّة نَسَب بعض الشعراء. لكنهم اتّفقوا على أنه شعر ذو نكهة خاصة ذاع وانتشر أكثر من أيّ وقت مضى أوائل عهد الدولة الأموية بعيداً من النزاعات السياسية.

قبيلة بني عذرة

  • لوحة تمثل عنترة بن شداد
    لوحة تمثل عنترة بن شداد

وبنو عذرة فرع من جذام القضاعية التي عاشت في الجزيرة العربية، و"التي ينتهي نَسَبها إلى قحطان" (نهاية الأرب في فنون الأدب – شهاب الدين النويري) وقد استقرّت هذه القبيلة في وادي القرى وهو واد بين تيماء وخيبر ويذكر ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) أن "وادي القرى واد بين الشام والمدينة وهو بين تيماء وخيبر فيه قرى كثيرة وبها سمّي وادي القرى".

وفي كتابه (البُعد الاجتماعي للحب العُذري) يقول المؤلّف عبد الله شاهر: "من خصائص هذه المنطقة أنها شبه استوائية وأن الوادي مفصول بوضوح عن نجد وتهامة في الغرب بسلسلتيّ جبال الحجاز المُتوازيتين، وقد حدّ هذا الإطار الطبيعي من حركة العُذريين واتصالاتهم بالعالم الخارجي، وحدَّد لهم اتجاهاتهم بحُكم تأثير الطبيعة الجغرافية التي فرضت نوعاً من العزلة بتكوينها التضاريسي الذي حمى الوادي من الغزوات، وظلّ مُمتنعاً فترة طويلة حتى الإسلام في سنة 7 للهجرة".

ويرى شاهر أن "علاقة العُذري بالمرأة علاقة تركيبية في مضمونها لم يستطع العُذريّون الإفصاح عنها بجُرأة لتعذّر وصولهم الجنسي ولعدم قدرتهم على التملك لخاصيّة الجنس، وبما أن المرأة التي أحبّوا تعود ملكيّتها للغير، فإن العُذري سيخرج من هذا الحَرَج الجنسي الذي يشكّل له توتّراً كبيراً ليصرفه في انفعالات عاطفية".

ويضيف: "الأسلوب المأساوي الذي صاغه العُذري هو تكفير عن المُعاناة الاجتماعية وتصريف للطاقة الجنسية المُحْتَبِسة والتي أظهرها بتعبيرات تشمّ من خلالها نكهة الجنس المكبوتة، هي أقصى ما استطاع أن يصل إليه من فعل تجاه المجتمع، فالمجنون يقول مخاطباً زوج ليلى:

بربّك هل ضممت إليك ليلى  

قبيل الصبح أو قبّلت فاها

وهل رَفَّت عليك قُرونُ ليلى  

رَفِيفَ الإقحوانة في نداها

لكن شوقي ضيف صاحب كتاب (الحب العُذري عند العرب) يوضّح قائلاً: "ليس معنى ذلك أننا لا نجد شعر الحب عند غير بني عذرة، إنما معناه أنهم أكثروا منه وأن حياتهم أعطتهم الفرصة لكي يغنُّوا أنفسهم، أما بعد ذلك فإن العرب تغنّوا بالحب، تغنّت به قبائلهم منذ العصر الجاهلي ولكنها لم تجعله كل همّها، فقد كانت الغارات تشغلها، وكان الأخذ بالثأر مدار حياتها، فنظمت في الفخر والمدح والهجاء، أما بنو عذرة فانطووا على أنفسهم واستمدّوا من عواطفهم الذاتية ما جعلهم يشتهرون بين القبائل العربية بهذا الغَزَل الصافي الرقيق، وكان للإسلام أثره في نموّ هذا الغَزَل".

قيس وليلى

  • قيس وليلى
    قيس وليلى

وقصص العشّاق العُذريين كثيرة لكن ما يربط جميعها هو الحزن والكآبة وآلام الفِراق وصعوبة الوصل بين المُحبّين نتيجة لظروفٍ قاهرةٍ مُتعدّدة، وكثيراً ما تنتهي هذه القصص بموت العاشقين حُزناً.

أحبّ قيس بن المُلوّح - قبل أن يصبح مجنوناً - ليلى، كما يروي كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني، وهي أحبّته بعد أن اختبرته ذات مرة، وعندما شعرت بحبّه لها، أنشأت تقول:

كلانا مُظهر للناس بُغضاً

وكلٌ عند صاحبه مكينُ

تُبلغنا العيون بما أردنا

وفي القلبين ثَم هوىً دفينُ

ثم قال صاحب (الأغاني): "وحدّثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن المُلوّح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك بليلى؟ قال: طرقنا ذات ليلة أضياف ولم يكن عندنا لهم أدام، فبعثني أبي إلى منزل أبي ليلى: أطلب منهم أُدْماً فوقفت على خبائه فصحب به، فقال: ما تشاء؟ فقلت طرقنا ضيفان ولا أدم عندنا لهم، فأرسلني أبي نطلب منك أدماً، فقال: يا ليلى أخرجي إليه ذلك النِّحْى فأملأي له إناءه من السمن، فأخرجته ومعي قَعْب فجعلت تصبّ السمن فيه ونتحدّث، فألهانا الحديث وهي تصبّ السمن وقد امتلأ القعب ولا نعلم جميعاً، وهو يسيل حتى استنقعت أرجلنا في السمن، قال فأتيتهم ليلة ثانية أطلب ناراً، وأنا مُتلفّع بُبُرد لي فأخرجت لي ناراً في عطبة فأعطيتها ووقفنا نتحدّث فلما احترقت العطبة خرقت من بُردي خرقة وجعلت النار فيها فكلما احترقت خرقت أخرى وأذكيت بها النار حتى لم يبق عليّ من البُرد إلا ما وارى عورتي وما أعقل وما أصنع".

وجاء في (الأغاني) أيضاً: "لما شهر أمر المجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها، خطبها وبذل لها خمسين ناقة حمراء، وخطبها ورد بن محمّد العقيلي وبذل لها عشراً من الإبل وراعيها، فقال أهلها: نحن مخيّروها بينكما، فمَن اختارت تزوّجته ودخلوا إليها فقالوا: والله لئن لم تختاري ورداً لنمثلن بك.. فاختارت ورداً فتزوّجته على كُرهٍ منها". ومنذ ذلك الوقت خسر قيس ليلاه بسبب تغزّله بها في أشعاره بين قومه.

ويسرد الأصفهاني: "فقد مضت أمّه إلى ليلى فقالت لها: إن قيساً قد ذهب حبّك بعقله وترك الطعام والشراب فلو جئته وقتاً لرجوت أن يثوب إليه عقله"، فأتته ليلاً فقالت له "يا قيس إن أمّك تزعم أنك جننت من أجلي وتركت المطعم والمشرب فاتّق الله وابق على نفسك" فبكى وأنشأ يقول شعراً قال: فبكت معه، وتحدّث حتى كاد الصباح أن يسفر ثم ودّعته وانصرفت وكان آخر عهده بها".

ومن شدّة تعلّقه بليلى حجّ به أبوه "ثم قال له أبوه: تعلّق بأستار الكعبة واسأل الله أن يعافيك من حب ليلى، فتعلّق بأستار الكعبة وقال: اللّهم زدني بليلى حبّاً وبها كلفاً ولا تنسني من ذِكرها أبداً. قالوا: فكان يهيم في البرية مع الوحش، ولا يأكل إلا ما ينبت في البرية من بقلٍ ولا يشرب إلا مع الظباء، إذا وردت مناهلها".

وجنّ قيس حتى لقيَ حتفه في البراري، حيث وجده أهله ميتاً في وادٍ كثير الحجارة خشن فاحتمله أهله وغسلوه وكفّنوه.

قيس لبنى

أحبّ قيس بن ذريح لبنى من شربة ماء ناولتها له فوقعت في نفسه. وحول هذه الحكاية يقول صاحب (الأغاني): "فانصرف إلى أبيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوّجه إياها فأبى عليه وقال: يا بنيّ، عليك بإحدى بنات عمّك فهن أحقّ بك. وكان ذريح كثير المال موسراً، فأحبّ ألا يخرج إبنه إلى غريبة".

وشكا قيس أبيه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب وابن أبي عتيق، "فأتى الحسين رضي الله عنه ذريحاً وقومه مجتمعون، فقاموا إليه إعظاماً له وقالوا له مثل قول الخزاعيين فقال لذريح: أقسمت عليك إلا خطبت لبنى لابنك قيس، قال: السمع والطاعة لأمرك. فخرج معه في وجوه من قومه حتى أتوا لبنى فخطبها".

لكن الزواج لم يستمر لأن أمّ قيس كانت تشكو انشغال ابنها بلبنى، "وكان من أبرّ الناس بأمّه فألهته لبنى وعكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت أمّه في نفسها وقالت لقد شغلت هذه المرأة ابني عن برّي".

وزادت الأمور سوءاً لأن لبنى كانت عقيمة لم تنجب فزاد كره الأمّ للبنى، "لقد خشيت أن يموت قيس وما يترك خَلَفاً وقد حرم الولد من هذه المرأة، وأنت ذو مال ويصير مالك إلى الكلالة، فزوّجه بغيرها لعلّ الله أن يرزقه ولداً، وألحّت عليه في ذلك".

وبعد مُعاناة طويلة ورغبة الأب في تطليق لبنى حدث البين بين العاشقين، ولما رحلت لبنى حزن قيس حزناً عظيماً. وهنا يصف الأصفهاني ما جرى: "فلما ارتحل قومها اتبعها ملياً ثم علم أن أباها سيمنعه من المسير معها، فوقف ينظر إليهم ويبكي حتى غابوا عن عينيه فكرّ راجعاً ونظر إلى أثر خفّ بعيرها فأكبّ عليه يقبّله ورجع يقبّل موضع مجلسها وأثر قدميها فليم على ذلك، وعنّفه قومه على تقبيل التراب، فقال:

وما أحببتُ أرضَكُمُ ولكن

أقَبِّل أثرَ مَن وَطِئ الترُابا

لقد لاقيتُ من كَلَفِي بلبنى

بَلاء ما أسِيغ به الشرابا

ورغم محاولة قيس لقاء حبيبته مرات عدّة لكنه لم يفلح، "فقد شكا أبوها قيساً وتعرّضه لابنته بعد طلاقه إياها، فكتب معاوية إلى مروان أو سعيد بن العاص يهدر دمه إن ألمَّ بها وأن يشتدّ في ذلك، فكتب مروان في ذلك إلى صاحب الماء الذي ينزله أبو لبنى كتاباً وكيداً، ووجّهت لبنى رسولاً قاصداً إلى قيس لتعلمه ما جرى وتحذّره".

واستمرت الحال حتى ماتت لبنى. "ولقد ماتت لبنى، فخرج قيس ومعه جماعة من أهله فوقف على قبرها وقال:

ماتت لبنى فموتها موتي

هل تَنْفَعن حسرتي على الفَوْت

وسوف أبكي بكاءَ مَكْتَئبٍ

قضى حياةً وَجْداً على مَيْت

ثم أكّب على القبر يبكي حتى أغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل، فلم يزل عليلاً لا يفيق ولا يجيب مُكَلِّماً ثلاثاً حتى مات ودفن إلى جنبها"، على ما يذكر كتاب (الأغاني).

ويروي شوقي ضيف: "سُئِل رجل من عذرة: ممّن أنت؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا، وقال رجل لعروة بن حِزام العذري: يا هذا بالله أصحيح ما يقال عنكم: أنكم أرقّ الناس قلوباً؟ قال: نعم والله لقد تركت ثلاثين شاباً قد خامرهم الموت، ما لهم داء إلا الحب".