"بائع الكتب" ... قتله الموت!

مات سعد محمد رحيم. قتل الموت صانع الكلمات والكتب الذي أعاد لنا صياغة مقتل المثقف العراقي على أرض الواقع، وكيف أن لا أحد يجرؤ على ذكر المتهم ومحاسبته.

سعد محمد رحيم

من الصعب أن تتعلق بكتابة روائي عربي هذه الايام، من دون أن تلاحقك ظلال مبدع غربي. لكن سعد محمد رحيم الذي ولد في مدينة ديالى عام 1957، ذات التنوع الثقافي والعرقي مثل الاكراد والتركمان والعرب بمختلف انتماءاتهم الدينية، وجاء إلى بغداد ليكمل دراسة الاقتصاد في الجامعة المستنصرية، ثم يكمل حلمه في بناء مملكته الخاصة في الادب مع العمل الصحفي والقصصي والفكري.

على أرصفة بغداد القديمة وشوارع ألف ليلة وليلة ودرابينها العميقة (الأزقة باالهجة البغدادية) في كل مكان، مرّ بهدوء ليكتب كلماته من لحمة مجتمعه ومآسيه وحروبه، وأكاد أجزم أن سعداً كان قريباً من الرعيل الاول للرواية العراقية مثل فؤاد التكرلي وغائب طعمه فرمان، وهو يكتب مقتل بائع الكتب ويلاحق شخوصه العراقية بامتياز.

شخصية محمود المرزوق هي ذاتها شخصية سعد محمد رحيم مع بعض التحريفات الفنية للوقائع التي طالما عمل الكاتب على دس يومياته مع شخوصه الروائية حتى مع رواية (ترنيمة امرأة .. شفق البحر) المثقف العراقي حاضر بكل تفاصيله الرومانسية. فهو حالم وثوري وضعيف بقدر ما هو قوي وصارم في نظرته نحو متغيرات الحياة السياسية، ربما لأن حلم سعد ينطوي على إشكالات فلسفية تناولها في أكثر كتبه تداولاً بيننا ألا وهو (استعادة ماركس). ذلك الكتاب الذي قدّم فيه شخصية ماركس كما لو أنه من عالم آخر خارج أنظمة الجدل الفلسفي الصعبة. وهو هنا يعيد إنتاج فضاء الاغتراب في مدن المنطقة الغربية للعراق ذات الأصول الدينية "المتشددة" بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. الفلوجة التي أصبحت ساحة حرب بسبب الصراع الطائفي الذي لم يبق ولم يذر.

جاء الكاتب من مدينة ذات تنوع ثقافي وعرقي ساهم في بناء شخصيته الهادئة، حيث يتواجد الكرد الفيلية (اللور) في بلدة خانقين وبلدروز ويتواجد التركمان السنة في جلولاء والسعدية وكفري. أما التركمان الشيعة فيشكلون غالبية سكان قرية قرة تبة. ويتواجد الشيعة العرب في بعقوبة والخالص وخان بني سعد والمقدادية وبلد روز والمناطق المختلطة. رغم ذلك نجد أن المثقف هنا غير حاضر بشكل مؤثر لم لهذه التجمعات السكانية من اختلاف جذري ديني وثقافي يساهم في تثوير نار العدوان، كلما دخلت يد خارجية لتدمير البنية الاجتماعية للنسيج المتنوع في كل مكان من العراق. خاصة وأن العراقيين لا يميلون لاحترام الدولة والقانون بشكل عام، فرجل الدين وشيخ العشيرة هما سيدا الموقف بعد كل ما حدث ويحدث.

والمثقف في ظل هذا المزاج المتناحر لا يقوى على المواجهة لسبب جوهري هو رفضه للخطاب الديني المتشدد وهو ما نراه في شخصية محمود المرزوق في روايته الشهيرة "مقتل بائع الكتب" (القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2017)، وهو يعلق صور غيفارا في مكتبته. تلك الايقونة التي أفزعت جنود المحتل الأميركي لحظة تفتيش المكان.

يعيد لنا سعد محمد رحيم صياغة مقتل المثقف العراقي على أرض الواقع في شخوص روائية مختلفة مثل شخصية كامل شياع يوم قتل بمسدس كاتم في طريق محمد القاسم من قبل ميليشيات متشددة معروفة، من دون أن يجرؤ أحد على ذكر المتهم ومحاسبته. والكثير ممن اعتقلوا في زمن صدام حسين وقبلها وما زال الواقع كما هو، حيث المثقف التنويري محارب على المستوى الاجتماعي والحزبي، وها هو الروائي الراحل يموت على سرير مستشفى بين يدي صديقه الناشر والباحث مازن لطيف ليعلن لنا نهاية جيل من زمن التنوير العراقي غائباً عن عيون مجتمعه بعيداً عن الاهتمام، رغم منجزه الذي شاع في الآونة الأخيرة بعناية خارجية من لدن الدول المجاورة التي منحته أوسمة إبداعية وجوائز لرواياته المتميزة.

لكننا هنا نختصر الناس بأعمالهم بسهولة مطلقة، من دون أن نرى تفاصيل مآسيه الداخلية التي يدسها بين سطوره، وهو يختزلنا بنص أدبي خالد نعود إليه كلما رمقنا بنظرته الهادئة وابتسامته العميقة حد البكاء.

أصدر رحيم العديد من الأعمال الأدبية، ومن بين الجوائز التي حصل عليها جائزة "كتارا" للرواية العربية عام 2016 عن روايته في فئة الرواية غير المنشورة "ظلال جسد.. ضفاف الرغبة".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]