إنتهى نظام صدام حسين ... فهل انتهى الفن المؤدلج؟

البحث عن أسطورة جديدة في الفن يحتاج إلى أسطورة جديدة في التفكير والأشخاص كذلك. فقد عملنا تحت طائل الانفعال والعاطفة مرة والعقل والتخطيط المُسبَق مرة أخرى. لقد كنا نعيش ما نشعر به وندوّنه، وكانت أولى المشاكل التي واجهناها هي رفض المؤسّسات الثقافية والفنية لنمط الأسلوب والخطاب المُضاد لثورتنا الفنية على التقاليد البالية لفهم الفن والأدب.

نهاية أسطورة فنون المؤسّسات ... نحو عصر مختلف

مع الإحتلال الأميركي للعراق إنتهت بنهاية الدكتاتورية مرحلة فنون المؤسّسات المؤدلجة، وبدأ عصر الفن الحر والفنان الحر، وهو ما لم تتعود عليه شعوب المنطقة العربية كلها. عندما نلتقي أنا ومحمّد عبد الوصي في ساحة أو مكان ما من المدينة، تجرّنا مظاهر الحياة اليومية كما لو أنها تشير لنا بعمقها الثقافي الشعبي كمحصّلة لما يحدث الآن. هل نبحث عن الجذور أم عن الأساطير في مظاهر المعاش اليومي؟

يبدو أن هناك خلخلة للراسب من الأنساق القديمة لمُعطيات الثقافة المركزية للدولة القومية. تلك التي عانينا منها لسنواتٍ طويلة من الدكتاتوريات العربية وما زلنا، لدرجة أن هذه الأنساق المدرسية المُسيّسة بدءاً من العروض الباهتة للتشكيل العراقي وانتهاء بقداسة الشخصيات الفنية الفارغة، قد أصبحت من صوَر الماضي.

اليوم يا صديقي نعيش تجربة مختلفة تماماً، إنها انقطاع كامل في النظرية والتطبيق، كما لو أننا في مجال الدرس الفوكوي لتباين الأنظمة المعرفية بين عصر وآخر، وهذا يجعل ساحات المدن والأماكن الفارغة مسارح للعمل خاصة تلك التي تحمل تأريخ العنف المُعاصر والحروب وبقايا المُفخّخات وغيرها، بما يشكّل نقاط ارتكاز لاستعادة الحدث وقراءته من جديد.

لكن الأهم هنا، يأتي بصفته مُحرّكاً لفهم الثقافة المجتمعية، إذ لأول مرة بعد الغزو الأميركي للعراق 2003 اكتشفنا أننا لسنا شعباً واحداً بل شعوباً وجماعات متفرّقة تأكل بعضها البعض، وهو ما جعلني أنتبه لضرورة التعريف، وهذا ما حصل في مشروع (مَن نحن) الذي قدّمنا فيه معاً صيغة لمواجهة التداخُل بين العِلم الأميركي والعقال العراقي وتداخل الهويات في صراع أبدي لا يُحَل.

كان محمّد عبد الوصي مشغولاً بفكرة التواصل مع المكان حيث يقول: التواصل مع المكان من خلال الأداء والتفكير بالأرض ودرجة حرارتها المُرتفعة والجو الجاف والبيئة المليئة بالأمراض والأوبئة التي تتشكّل من وقتٍ إلى آخر، وعدم وجود بيئة صحيّة للعيش الإنساني داخل العراق، كل هذه الأشياء هي بصراحة وسائل حثّ للتفكير بشكلٍ سليم لنمو فن يُشبهنا ويُعبّر عن كل ما يحصل.

الطفولة التي عاشها عبد الوصي بين الجوع والعوَز المادي والألم، مع الحصار والتقلّبات التي حصلت أيضاً بعد الغزو الأميركي والحرب الأهلية، تُحتّم أن نقف أمام أنفسنا. إذ أنني لا أرى أن فن الرسم جدير بالتعبير عن كل هذه المآسي، ليس القصور في فن الرسم، ولكن التعليم الأكاديمي في العراق للفنون يضعنا أمام تجارب أوروبية لا تشبهنا ولا يفهمها الناس بشكلٍ جدّي، سوى أنها مجرّد أغراض تزيينية، وهذا ليس الهدف السامي للفنون.

في نهاية عام 2015 قام بعرض مائدة غداء وكان الحضور بعضاً من المُختّصين بمجال الفنون لأول تجربة مختلفة في العراق، فكانت هنالك مائدة للطعام فوق سطح البيت الذي يسكنه في مدينة الحلة، مكوّنة من بقايا رصاص وبعض الأدوات المنزلية وصحون ملوّنة بالأحمر وبقايا الخبز بأسلاك شائكة، وكان الحديث عن الجوع والحرب من ضمن أدوات العرض مع خصوصية حرق الأوراق الخاصة به، وبعض الأداءات مثل المشي أثناء العرض وتفاصيل أخرى موجود في الفيديوهات والصوَر.

البحث عن أسطورة جديدة في الفن يحتاج إلى أسطورة جديدة في التفكير والأشخاص كذلك. فقد عملنا تحت طائل الانفعال والعاطفة مرة والعقل والتخطيط المُسبَق مرة أخرى. لقد كنا نعيش ما نشعر به وندوّنه، وكانت أولى المشاكل التي واجهناها هي رفض المؤسّسات الثقافية والفنية لنمط الأسلوب والخطاب المُضاد لثورتنا الفنية على التقاليد البالية لفهم الفن والأدب. ليس هذا فحسب، بل وصلت الحال إلى حذف صوَرنا من المشاركين في أي عمل جماعي مثلما حدث في مشروع محرقة الكرادة عام 2016، لولا جهود المصوّر فلاح حسن الشخصية. فقد صوّرنا أثناء العرض وعرض الفيلم على صفحات الفيس ومواقع التواصل الاجتماعي ليأخذ مداه الواسع على مستوى الناس، مُعبّراً عن حجم الألم الممض بعد مجزرة ستظل علامة فارقة في تاريخ العراق السياسي. ليس هذا فحسب، فقد كان نهاية عصر فنون الكوبي ونقل التجارب العالمية من دون حياء إلى الأبد.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]