في مديح الكسل

يقول نيتشه ساخراً من قِيَم الدعوة إلى العمل إن "العمل الشاقّ من الصّباح إلى اللّيل يلجم كلّ فرد ويساهم بشكلٍ قويّ في إعاقة تطوّر العقل والرّغبات وحسّ الاستقلال. ذلك أنّه يستهلك قَدْراً هائلاً من الطاقة العصبيّة ويستثنيها من التفكير والتأمّل والتخيّل، ومن المخاوف والحبّ والكراهيّة، وهو يمثّل على الدّوام هدفاً تافِهاً ويؤمِّن ترضيات سهلة ومُنتظمة".

برتراند راسل:الاعتقاد بأنّ العمل فضيلة هو سبب الشرور العظيمة في العالم الحديث

"الاعتقاد بأنّ العمل فضيلة هو سبب الشرور العظيمة في العالم الحديث (..)"، عبارة مُشاكسة للفكر الفلسفي في القرن العشرين، وردت في كُتيّب للفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل بعنوان: "في مديح الكسل - In Praise of Idleness".

تضعنا عبارة راسل أمام تساؤلات عديدة: هل يتوقّف عقلنا عن الدوران حين نبتعد عن الحواسيب والهواتف الجوّالة؟ هل نعتكف عن العمل تماماً؟ لماذا؟

يبدو أننا أمام فعل هو مَدعاة لتأمّل مفهوم السكون أو عدم الحركة، وهو ما يقصده راسل بـ "الكسل". فالكلمة في اللغة الإنكليزية يمكن ترجمتها إلى عدم الحركة، وعلى عكس ما صنّفته الأديان وعلم النفس واللغة العربية بشأن الكسل من كونه عادة سلبية تؤدّي بدورها إلى نتائج سلبية أيضاً. فالكسل يمثل التهاون والفتور والتراخي، ما يجلب لصاحبه نعوتاً كثيرة ليس أقلّها التحقير، وذلك على العكس من العمل والجدّ الذي يحظى القائم به بالتقدير والثناء.

في العام 1935 أورد راسل في كُتيّبه حكايةً عن مُسافرٍ في نابولي رأى إثني عشر شحّاذاً مُستلقين في الشمس، فكان أن اختار أكثرهم كسلاً وقدّم له المال، ولأنهم شحّاذون، فقد نهض الباقون مُطالبين بنصيبهم، لكن الرجل عاد ومنحَ الشحّاذ الكسول نفسه مبلغاً آخر نكاية في أقرانه ومُبالغة في إكرامه لأنه كسول!

يمضي الفيلسوف البريطاني في شرح فكرته. فنحن في حياتنا اليومية نحثّ بعضنا على الاستمتاع بما صار يُعرَف بــ "وقت الفراغ". فإلى أيّ حدٍ يمكن أن يوفّر "وقت الفراغ" للإنسان خروجاً عن الروتين القاتِل للعمل؟ وكيف؟

"السعادة والرخاء يمران عبر الخفض المُنظّم للعمل" يؤكّد راسل وجوب خفض عدد ساعات العمل للتمتّع بالأشياء الحقيقية الأساسية. أي لخلق الفرَص العظيمة وخوض التجارب وإضافة ما هو جديد في الحياة بما يراه الإنسان مناسباً ، ليخرج من كونه ماكينة مُنصاعة لترسانة الآلة العملاقة، والمقصود هنا العَجَلة الاقتصادية والصناعية والرغبة المُلحّة في الإنتاج.

يُبيّن راسل مسوّغات مديحه للكسل بكل وضوح فيقول: "أنا أعتقد أن العمل الذي يُنجَز في العالم الآن يزيد عما ينبغي إنجازه بكثير". أليست هذه المقولة بحاجةٍ إلى تأمّلٍ وتفكيرٍ عميق؟

العمل الشاق .. هدفٌ تافِه!

فردريك نيتشه: العمل الشاق .. هدفٌ تافِه!

امتداح الكسل ليس ظلماً ولا وإجحافاً. فمثلما يوبَّخ بعض الناس على كسلهم، هناك من يُلقي اللّوم عليهم لكثرة الساعات التي يمضونها في العمل، والتي تُغيّب أكثر الجوانب أهمية في شخصيتهم. إنسانيتهم! فساعات العمل الطويل تخطفهم من وجودهم الإنساني والعاطفي مع عائلاتهم ومحيطهم الاجتماعي، وما يترتّب على هذا الوجود من واجبات متنوّعة.

لم يكن راسل أول مَن تطرّق إلى أهمية "وقت الفراغ" أو الكسل. فهذا الموضوع أُثير في فترةٍ مبكرةٍ من القرن الماضي، حين انتبه له العديد من المفكّرين والفلاسفة، وتوصّلوا إلى خُلاصةٍ مفادها أن نمط الحياة الاقتصادية والصناعية جاء على حساب إنسانية الإنسان وحريته.

ومن هؤلاء الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844 - 1900)، الذي بادرَ إلى السُخرية من قِيَم الدعوة إلى العمل، قائلاً: "العمل الشاقّ من الصّباح إلى اللّيل يلجم كلّ فرد ويساهم بشكلٍ قويّ في إعاقة تطوّر العقل والرّغبات وحسّ الاستقلال. ذلك أنّه يستهلك قَدْراً هائلاً من الطاقة العصبيّة ويستثنيها من التفكير والتأمّل والتخيّل، ومن المخاوف والحبّ والكراهيّة، وهو يمثّل على الدّوام هدفاً تافِهاً ويؤمِّن ترضيات سهلة ومُنتظمة".

دعوة نيتشه ليست قطعاً دعوة إلى الكسل المُطلَق، بل مُنطلقاً نحو استعادة الإنسان لذاته الحقيقية والجلوس مع نفسه. أي الأنا، أناه، التي يُخاطبها ويناقشها بعيداً من الأوراق والأجهزة والبيروقراطية القاتِلة.

هذه الدعوة يؤكّدها أيضاً بول لافارج زوج إبنة كارل ماركس في مذكّرة له عام 1883، بعنوان "الحق في أن تبقى كسولاً".

الأرنب الكسول!

تمثّل الحاجة للكسل تحطيماً لصَنَم العمل الذي يستعبد الملايين طوال حياتهم التي تبدو وجيزة أمام سنين العمل والإنتاج. ويمكن في هذا الإطار إيراد المثل الشعبي الذي يقول "العُمر بيخلص والشغُل ما بيخلص".

فالعمل في المُحصّلة يصبّ في مصلحة قلّة قليلة من أفراد المجتمع، الذين يستغلّون السواد الأعظم من البشر بكل ما يتعارض مع الإنسانية.

كما ينبغي إدراك أن الكسل هو مواجهة محمومة وصِدام مع الإرهاق والعمل الشاق، وحتى نمطيّة التواصل المفروضة للتعايُش بين الموظّفين والعمّال والمديرين في مكان العمل، والتي ينتابها جوٌ من المُجاملات الاجتماعية والثقافية.

يجب أن يكون هناك مجهود كبير لكي يتمتّع الإنسان بالكسل. الفنانة الألمانية كوزيما فون بونين قالت في معرض لها بعنوان (الكسل) أقيم في متحف لودفيغ في مدينة كولونيا عام 2012: "إن حاجتي للراحة والكسل تساعدني على إنجاز الكثير من الأفكار، وهو ما ساعدني على مواصلة العمل .. أنا متفوّقة في ذلك".

في معرضها وضعت فون بونين دمية ضخمة محشوّة تمثّل أرنباً كسولاً مُستلقياً على ظهره، والشخصية الكرتونية الشهيرة بينوكيو ذو الأنف الطويل متربّعاً على كرسي العرش جالساً بهدوء يُعبّر عن كسله بجلاء.

يمكن التأكيد أنه من وجهة نظر علمية فإن بعض الوقت من الكسل يساعد على تحفيز الدماغ على مراقبة النظام الغذائي والقيام بالتمارين الرياضية، بل والتمتّع بقدرٍ كافٍ من النوم، بما ينعكس على حياة صحية سليمة.

لِمَ التخيّل؟

كتاب "أفكار تافهة لرجل كسول"للمسرحي والفُكاهي الانكليزي جيروم جيروم

الكاتب والمسرحي والفُكاهي الانكليزي جيروم كلابكا جيروم (1859- 1927) أشار في كتابه (أفكار تافهة لرجل كسول - Idle Thoughts of an Idle Fellow) إلى محبّته للكسل. فيقول "أحب الكسل عندما لا يصحّ أن أكون كسولاً، لا عندما يكون الكسل هو الشيء الوحيد أمامي. تلك هي طبيعتي العنيدة".

يعطي جيروم المزيد من الشرح عن أحوال البشر، حين يصف حاله: "إذا ما طالت فكرة التلكؤ فوق مائدة الطعام، فاعلم أن أمامي عملاً ثقيلاً في المساء، وإذا ما حدث أن عليّ أن استيقظ مبكراً في الصباح، عندئذ وأكثر من أيّ وقتٍ آخر أحب أن أرقد نصف ساعة إضافية في سريري".

وخلال السعار الدموي المحيط بنا، هل انتبهنا إلى تلك المُخيّلة الخصبة التي تتوق إلى شيء من الحب، لاحتساء القهوة في الصباح بكل هدوء أو وقراءة شيء مع الموسيقى، أو الاستلقاء للراحة. أن نتكاسل لا يشغلنا شيء لا حروب ولا موت ولا خراب ولا فقدان أو ضياع؟

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]