رحيل إدمون صعب.. أحد أركان الصحافة اللبنانية

نجح إدمون صعب في تحويل الصحافة من «مهنة البحث عن المتاعب» إلى "متعة البحث عن المواهب".

سُئل مرة الزميل إدمون صعب الذي رحل صباح اليوم كيف يكون الصحافي ناجحاً وقوياً، فأجاب: بأن تكون لديه خلفية ثقافية، وأن يتابع اَخر الإصدرات في عالم الكتب والمجلات، ويكون قارئاً نهماً. ويروي صعب بأنه كان فور قراءته خبر صدور كتاب مهم فإنه كان يبادر فوراً وبكل حماس لشرائه إما من المكتبات المحلية أو يطلبه مباشرة من الخارج.

اختيار صعب "العهر الإعلامي" عنواناً لمذكراته التي يروي فيها تجربته الصحافية الطويلة، شهادة اساسية من صحافي ترك وراءه تجربة نصف قرن، تعبّر عن مدى تراجع الصحافة ووقوع أغلبها في براثن السلطة والمال.

يحق لإدمون صعب بعد تجربة نصف قرن في "مهنة المتاعب" أن يكون صاحب مدرسة صحافية لها أسلوبها وطريقتها الخاصّان. وهذا ما يؤكده في مذكراته: "عملنا معاً – أي مع غسان تويني - على تحويل «مهنة البحث عن المتاعب» إلى "متعة البحث عن المواهب"، (Talent Scouting)  فكنا نجتذب طلاباً موهوبين في مختلف الاختصاصات، فندرّبهم ونبعث فيهم الشغف بالتفوق والامتياز، ونغذّي بهم في ما بعد صفحات الجريدة وأبوابها المتنوعة".

ويضيف صعب أن نجوم "مدرسة النهار" قد برزوا في أنحاء العالم العربي، رؤساء تحرير، ومديري تحرير، ومحررين متفوقين وكتّابًا بارزين تتسابق عليهم كبرى المؤسسات الإعلامية، وفي مقدم هؤلاء الروائي العالمي أمين معلوف الذي حصد جوائز قيّمة ودخل الأكاديمية الفرنسية.

لا أبالغ إذا ما قلت بأن عنوان "العهر الإعلامي" يختصر مأساة الصحافة في أوطاننا، لا بل يغنيك عن سرد ما يحصل في ممالكها والتي رأينا بأم العين كيف أُقفلت أفضل الصحف العربية.

أراد صعب من مذكراته لفت الانتباه إلى ما حدث للصحافة والأخطار التي تتهددها وعلى رأسها الصحافة السردية والاستقصائية والثقافية وصفحة الرأي.

ويوضح صعب ذلك في مذكراته بقوله: "إذا كان لا خوف على الصحافة والإعلام عموماً من انعكاس الثورة التكنولوجية على الشكل، أي الجسد، الذي تُقدم به المعلومات إلى الجمهور، فإن ثمة قلقاً حيال المضمون، وخصوصاً الروح التي يُفترض أن تسكن هذا الجسد، والتي يتهددها نوع من "التعهر الإعلامي".

وقد يكون سبب اختيار صعب هذا العنوان توغله في قراءة تاريخ الصحافة العربية وما يسمّيه في مذكراته بـ"قلق بعيد في الزمن العربي، بدأ مع رزق الله حسون في "مرآة الأحوال" التي أنشأها في حلب عام 1855 لتكون "منبرًا للحرية ومنارة للمعرفة"، فلم ترقَ للسلطان العثماني عبد الحميد فأمر بإقفالها وحكم على صاحبها بالإعدام فلجأ الأخير إلى روسيا.

وتلتها صحيفة "حديقة الأخبار" التي أصدرها خليل الخوري في لبنان عام 1858، "لإشهار المعارف والفنون وتقدم وتهذيب عبيد السلطة، وطباعة جرنال يشتمل على كل ما يتعلق بالفوائد الإنسانية، وينشر الأنباء كما هي"، فأغضبت الصحيفة السلطان فأقفلها وتوعد الصحافيين بإلقائهم في النار.

وهكذا وصولاً إلى حنا بك صعب، الملقب بـ"صاحب السيف والقلم" الذي تولى إدارة تحرير صحيفة "لبنان" التي أصدرها داود باشا عام 1867 ثم عطّلها فرنكو باشا.

هذا القلق حيال الروح استحوذ على غسان تويني، وهو إبن مؤسس صحيفة النهار" جبران تويني، الذي هجّره جور العثمانيين وتضييقهم على الحريات، إلى باريس ثم إلى مصر ليعود إلى بيروت بعد انهيار الامبراطورية العثمانية ويطلق جريدة "النهار" في 4 آب - أغسطس 1933.

يقول رفيق درب إدمون صعب، الصحافي في جريدة النهار ابراهيم بيرم للميادين نت "إن صعب كان سلبياً في اختيار عنوان كتابه"، مشيراً إلى أنه قد أسس مدرسة صحافية مميّزة في صحيفة النهار. فهو أول من أصدر الملاحق الإقتصادية والثقافية في ستينات القرن الماضي، ومن ثم ملحق الرئاسيات في السبعينيات في عهد الرئيس سليمان فرنجية. ويؤكد بيرم بأن "هذه الملاحق طورت العمل الصحافي وجعلته أكثر حيوية ومتفاعلاً مع الأحداث بشكل يومي. وقد حرص صعب على أن يعكس الحراك الشبابي في الستينات على غرار ثورة الطلاب في باريس عام 1968 على صفحات النهار".

إن علينا الاعتراف بأن الكتاب الصحافيين من أمثال إدمون صعب على طريق الإنقراض، والآتي أعظم. ويبدو أن أكثر من يهدد الجسم الصحافي العريق هو "الصحافي الإفتراضي" الذي يتوهم بأنه أصبح كأي صحافي عريق من أمثال: ميخائيل نعيمة، محمد التابعي، غسان تويني، صبري موسى وعبد الفتاح الجمل الذين كان يشرعنون قوتهم الصحافية باصدار روايات على غرار إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس أو عبر إصدار كتب إستراتيجية مثل أحمد بهاء الدين او منح الصلح وغيرهم.

يقول الفيلسوف الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو: "أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء".

وُلِد إدمون صعب في العام 1940 في بلدة المعلقة في قضاء زحلة في البقاع. تلقى علومه الثانوية في الكلية الشرقية – زحلة. ترك المدرسة باكراً إلى العمل. وحصل أثناء ذلك على شهادتي البكالوريا. التحق بجامعة القديس يوسف عام 1965 لدراسة الحقوق، وانتسب إلى جريدة "النهار" في العام نفسه. فكان طالباً خلال النهار، ورئيساً لقسم التصحيح في الجريدة خلال الليل. نال إجازتين في الحقوق، إجازة فرنسية من جامعة ليون، وإجازة لبنانية من الجامعة القديس يوسف.

تولى في "النهار" قرابة 45 سنة، مسؤوليات صحافية عدة، منها رئيس قسم الشباب والطلاب، سكرتير تحرير القسم المحلي، نائب لمدير التحرير، رئيس القسم الاقتصادي والمالي ومدير تحرير الملحق الذي يحمل هذا الاسم، فمدير تحرير النهار العربي والدولي، الذي صدر عام 1978 من باريس. أدار دار النهار لنشر الكتب عام 1985.

أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة "المختار" من "ريدرز دايجست" من 1978 حتى 1993. عاد إلى "النهار" عام 1993 كرئيس للتحرير التنفيذي وبقي فيها حتى تقاعده آخر 2009. واظب على كتابة مقالة أسبوعية في صفحة الرأي في "النهار" قرابة 15 عاماً، بعدها انتقل الى كتابة مقالات سياسية أسبوعية في الصفحة الأولى من جريدة "السفير".