الدروبي وكاسوحة ومنزلجي: بصمات سوريّة في عالم الترجمة

ساهم الكثير من المُترجمين السوريين في إغناء المكتبة العربية بأمّهات الكتب العالمية.

سامي الدروبي

إذا كانت الترجمة مهمَّة شاقة لا تقلّ صعوبةً وأهميةً عن العملية الإبداعية نفسها، فإن المُترجمين هم جنود مجهولون ساهموا في تنويرنا ونقل الفكر الغربي إلى لغتنا العربية. ولا ننكر أن الترجمة تلعب دوراً فاعلاً في حياة الأمم لكونها وسيلة التعرّف على العالم، ومصدراً من مصادر المعرفة ونافذة على ثقافات العالم وآدابه وعلومه.

ولأن العالم بات قرية صغيرة، أصبح الإقبال على اللغات الأخرى كبيراً، وتوسّعت مجالات الترجمة وتخصّصاتها. إحدى تلك الأنواع هي الترجمة الأدبية وهي الأكثر صعوبة، كون الترجمة تتطّلب نقل المشاعر الصادقة والمعاني السامية التي تطرّق إليها الأديب في نصّه بشكلٍ دقيقٍ ليصل إلى القارئ بجماليّة تعبيرية واضحة.

وفي العصر الحديث ساهم الكثير من المُترجمين السوريين في إغناء المكتبة العربية بأمّهات الكتب العالمية، باذلين جهداً كبيراً في نقلها من مختلف اللغات إلى لغتنا العربية الأمّ ليساهموا في بلورة عالم الترجمة، ليس في سوريا وحدها بل في مختلف الدول العربية.

 

سامي الدروبي: معبرنا إلى الأدب الروسي

لا يمكن أن نذكر الأدب الروسي من دون أن نذكر المُترجم السوري الراحل سامي الدروبي الذي يُعتَبر علامة فارِقة في حركة الترجمة العربية، مع العِلم أن أعمال عبقري الأدب الروسي فيودور دوستويفسكي قد تُرجِمت أكثر من مرَّة، لكنّ أشهر الترجمات العربية تبقى تلك التي عمل عليها الدبلوماسي السوري سامي الدروبي.

حمل الدروبي المولود في حمص على عاتقه مهمَّة ترجمة الأعمال الكاملة لدوستويفسكي، التي صدرت في 18 مجلداً، وترجم لكل مجلّد مقدّمة، وكتب المقدّمة النقدية بنفسه حيث ألّف كتاباً بعنوان: "الرواية في الأدب الروسيّ" صدر بعد وفاته بست سنوات 1982م عن دار الكرمل في دمشق.

وكان قد قرأ مؤلّفات هذا الكاتِب الروسي وهو في السادسة عشرة من عمره، فما انقضت بضع سنوات، حتى أتى على آثاره كلها، وأعاد قراءتها بلا كلل أو ملل. ومنذ ذلك الحين أخذ يُترجم بعض فصول كتبه. ولم يكتف بترجمة أعمال دوستويفسكي من اللغة الفرنسية لأنه لم يكن يعرف اللغة الروسية، بل أيضاً أعمال أدباء روس آخرين كتولستوي برائعته "الحرب والسلم" وليرمنتوف "بطل من هذا الزمان" وبوشكين "إبنة الضابط"، ومؤلّفات الأديب اليوغوسلافي البوسني إيفو أندريتش  "وقائع مدينة ترافنك"،  و"جسر على نهر درينا" الحائزة جائزة نوبل للآداب والتي تعتبر من روائع الأدب العالمي.  

بلغت ترجمات الدروبي - الذي كان سفيراً لسوريا في يوغسلافيا ومصر وإسبانيا - 80 كتاباً بأكثر من 40 ألف صفحة، ومنها ترجماتٌ في الفلسفة والعلوم السياسية وعلم النفس والتربية، وألّف كتابين في هذا المجال وهما "علم النفس والأدب" وكتاب "علم النفس والتربية" وهو الحاصل على دكتوراه في الفلسفة من باريس، ولذلك فإنّ مادة الترجمة لم تكن بعيدة من اهتماماته، لأنّ علماء النفس كثيراً ما يستفيدون من روايات دوستويفسكي الذي ركزّ اهتمامه على عالم اللاوعي واللاشعور لدى أبطاله.

كان الدروبي - الذي تبوّأ منصب وزير المعارف في سوريا - يحترم عمله، ويؤمن بأننا نمرّ بعصر النهضة الثانية، بعد نهضة العصر العباسي عندما نشطت الترجمة من وإلى اللغة العربية، ويعتبر أن القرن العشرين يشكّل تتمة لتلك المرحلة،‏ ويرى أنّ التمكّن من اللغة العربية يعني ضرورة قراءة "الجاحظ" و"المُتنبي" و"المعري" وعمالقة الأدب العربي، وبالتالي لا يتم التمكّن من اللغة الأجنبية إلا بقراءة أدباء تلك اللغة.‏

فَهِمَ الدروبي الترجمة الأدبية على أنّها رسالة سامية وعظيمة، وليست مجرد عمل يتقاضى عنه المُترجم مكافأة مادية معيّنة، ولذلك فإنّه قام أحياناً بالترجمة مجاناً في ما إذا أعجبه العمل الأدبي، ومن هذا المنطلق قام بترجمة كتاب "الموسيقي الأعمى" للروسيّ كورولينكو وأهدى الترجمة لدار التقدّم بموسكو من دون مكافأة مادية، وفي ما بعد دخَل هذا الكتاب كل بيت في سوريا ككتاب للمُطالعة في الصف الثالث الإعدادي عام 1967. وبلغ عدد نسخ الكتاب التي صدرت خلال ثلاثة أعوام 275 ألف نسخة ما شكّل برأيه أكبر مُكافأة ينالها في حياته.

بعيداً من الأدب الروسي ترجم سامي الدروبي ثلاثية الكاتب الجزائري محمّد ديب: "الدار الكبيرة، الحريق، النول (عن اللغة الفرنسيّة)"، كما ترجم عن اللغة الفرنسيّة الأدب المُقارَن" لفان تيغم وهو من المراجع الأساسية في هذا العلم. وفي أواخر حياته أنجز خمسة مجلّدات من المؤلّفات الكاملة لتولستوي، والتي يصل عدد صفحاتها إلى خمسة آلاف صفحة وهو في صراع بين الحياة والموت.

حياة الدروبي كانت قصيرة نسبياً (1921- 1976) ولكنها غنية بالعطاءات، ولأنّه صفحة مُشرقة في تاريخ الترجمة إلى اللغة العربية قيل في ترجماته: إذا ما قرأت ترجماته، تنسى نفسك، وتتوهّم أنك تقرأ نصاً عربياً أصيلاً. وما لا يعرفه كثيرون أنه لم يترجم عن الروسية مباشرةً، بل ترجم عن الفرنسية.

سامي الدروبي الذي أهدى مكتبته لجامعة دمشق يقول في أحد لقاءاته: "شعرت أن بيني وبين دوستويفسكي أنساباً روحية، ووجدت نفسي فيه، وصرت أتحرّك في عالمه كتحرّكي في بيتي، وأعرف شخوصه معرفة أصدقاء طالت صحبتي معهم، حتى لأكاد أحاورهم همْساً في بعض الأحيان".

أسامة منزلجي: مُعايشة الانفعالات والمنعطفات

من المُترجمين السوريين أيضاً أسامة منزلجي المولود في اللاذقية والذي قدّم الكثير بترجماته من الإنكليزية إلى المكتبة العربية، وعُرِف بترجماته لأغلب كتب هنري ميللر وكذلك رواية كازانتزاكس "الإغواء الأخير للمسيح" وغيرها من أعمال جان جينيه ونورمان ميللر وهرمان هسه وتينسي وليامز وجيمس جويس وتيري إيغلتون والكثير غيرهم.

بدأ بترجمة ميللر لأنَّ أسلوبه ومدخله إلى مواضيعه حفّزه على ذلك، فقد وجده جريئاً، غير تقليديّ، ويقول ما يريد قوله من دون مواربة أو مُقدّمات طويلة، على الرغم من أنه أحياناً لا يعرف بالضبط ماذا يريد أنْ يقول.

وما حثّه على ترجمة أعمال ميللر كان نبضه السريع والواضح، وآراؤه غير التقليدية والمتحرّرة من الأوهام.

وعن بداياته في الترجمة قال منزلجي في أحد لقاءاته: بعد تعلّم اللغة الإنكليزية بدأتُ أكتشف حقائق صادِمة، كنتُ أقرأ كتاباً مُترجماً فأجد أسلوبه صعباً ومُبهماً وبعيداً من السلاسة، وأتساءل تُرى هل الكتاب الأصلي صعبٌ هكذا أم أنَّ هناك شيئاً ضاع في الترجمة – وأثناء دراستي في جامعة دمشق اكتشفت السبب اليقيني: السرّ كله يكمن في الترجمة، ففي حين أنَّ همنغواي كان في أسلوبه رقراقاً، ومُمتعاً، وسلِساً، لم تكن ترجمته إلى العربية ترقى أبداً إلى أسلوبه وضاع أفضل ما فيه.

من هنا بدأ منزلجي التفكير في محاولة المساهمة بوضع الأمور في نصابها، وإعادة الاعتبار إلى الترجمة وإلى اللغة العربية وسلاستها. إذ ينبغي ألا تقلّ الترجمة العربية في مستواها عن النصّ الأصلي، وعلى المُترجم أنْ يضع نُصب عينيه طوال الوقت المُحافظة على ذلك المستوى قدر استطاعته .

وينتهي إلى القول إن الترجمة هي إعادة مُعايشة الكتاب، انفعالاته، مُنعطفات مساره، تناغُم الانتقال بين الفقرات والجُمَل، والتعاطف مع روحه.

إنها مسؤولية ليس من السهل قبول شروط تحمّلها. ومع كل كتاب جديد يبدأ بترجمته كان يشعر كأنه يُترجم للمرة الأولى، فكل كتاب مغامرةٌ جديدة، خاصةً عندما يختلف في أسلوبه عن سابقه.

وعن أهمية الترجمة رأى منزلجي إن نقل الكتب من لغةٍ إلى أخرى عمل راقٍ ونبيل وسام، لأنه تطوير للغة نفسها وللمفاهيم ولوجهات النظر، وفي الوقت نفسه هو دراسة للغة الأخرى ومعرفةٌ لسراديبها وإضاءةٌ للّغة المنقولِ إليها النصّ.

وبالتالي فإن ترجمة أيّ كتاب هي إضافة وإغناء للفكر وللذائقة الأدبية. ويعتبر أنَّ انتقاء الكتب لترجمتها أمر ليس بالسهل، إذ ينبغي أنْ يعي المُترجم - والناشِر أيضاً - ما هي التيارات الفكرية والأدبية التي يحتاجها القارئ للّغة المنقول إليها الكتاب، و"عند نقطة معيّنة من مسيرتي المهنية، كنتُ أنتقي ما أعتبره لازماً للقارئ العربي، ولكن بعد ذلك وجدتُ هذا أمراً غير معقول، لأنَّ كل كتاب يُضاف إلى المكتبة عبر الترجمة هو ربح ومكسب للغة، ولذلك فإنَّ حركة الترجمة بحد ذاتها هي التي يجب المُحافظة عليها قبل كل شيء".

من ترجماته أيضاً: شعائرُ الجنازة لجان جينيه، أتغيّر لليف أولمن، تحت الدولاب، وذئب السهوب لهرمان هسه، مذكرات تنيسي ويليامز، ثلاثية الصلب الوردي، ومدار السرطان، ومدار الجدي، وربيع أسود، وفنانة الجسد لهنري ميللر.. وغيرها.

عبود كاسوحة: المتصدي للصعاب يحترم القارىء

ترجم عبود كاسوحة المولود في حمص الكثير من روائع الأدب العالمي من الفرنسية إلى اللغة العربية ومن العربية إلى الفرنسية ما أغنى المكتبة العربية بإرث ثقافي مهم، إضافة إلى ما ناله من أوسمة وجوائز تقديرية عن أعماله وكتاباته.

اشتهر كاسوحة بأنه أول من ترجم أعمال الفيلسوف الموسوعي الفرنسي دينيس ديدرو إلى العربية، وهذه الترجمات كانت وراء منحه وسام"فارس من رتبة السعف الأكاديمية" من الحكومة الفرنسية تقديراً لجهوده المبذولة في مجال الترجمة عن الثقافة الفرنسية.

بدايات كاسوحة كانت بالترجمة عن المجلات الفرنسية لصحيفة "الثورة" السورية منذ تأسيسها 1963.

أمّا ترجمة الروايات فبدأت مع مطلع الثمانينيات، بتشجيع من أنطون مقدسي مدير التأليف والترجمة والنشر في وزارة الثقافة، بعد أن لمس لديه ميلاً للتصدّي لكل ما هو صعب، فكان كاسوحة يقوم بترجمة الكتاب الذي يستهويه وكل همّه أن يروق القارىء العربي مثلما راقه بالفرنسية وأكثر وإلا فالترجمة فاشلة.

وكان يرى أن على المُترجم أن يحترم القارىء لأن الترجمة أمانة.‏

ترجم كاسوحة المتوفّى عام 2013 من كافة الأجناس الأدبية: القصة القصيرة والرواية والمسرحية والنقد والفلسفة وفلسفة السياسة، ونال جائزة سامي الدروبي للترجمة من وزارة الثقافة السورية.

وقال آنذاك: لقد نلتُ حقّي، إنها جائزة مميّزة خاصة لكونها حملت إسم عالم بارز كسامي الدروبي، آمل أن نزيد من اهتمامنا بعالم الترجمة وبالمترجم السوري على وجه الخصوص.

ونال هذه الجائزة عام 2009 عن ترجمته لرواية أدريين موزورا للفرنسي جوليان غريف التي تحكي قصة فتاة يتيمة الأمّ تعيش مع والدها القاسي وأختها الأكبر التي لا تقلّ قساوة عنه.

وتصوّر الرواية واقع المجتمع الفرنسي في الريف والمدينة في النصف الأول من القرن الماضي.

وقال كاسوحة إنه اختار ترجمة هذه الرواية لإعجابه بأسلوب غريف الذي يغوص عبر أعماله الأدبية في أعماق النفس البشرية ويجسّد الواقع بأحداثه وشخصيّاته.

من ترجماته: ما الديموقراطية؟، اللغة والأدب في الخطاب الأدبي، جاك المؤمن بالقدر، العميان، مقالة العبودية الطوعية، معجزة القدّيس أنطونيوس، رواية القانون، في مخادع المَلكات، نوادر أهل شيلد.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]