عن أحمد الفقيه ... صاحب أطول رواية عربية

كان لليبي أحمد الفقيه ذوق معماري يشبه ذوق صديقه الروائي المصري الراحل جمال الغيطاني، حيث يصف طرابلس بــ "المدينة الحائرة التي لم تعد قرية ولم تصبح مدينة، لا هي شرقية ولا غربية، لا تعيش في الماضي ولا في الحاضر".

رحيل صاحب أطول رواية عربية

الكتابة عن أحمد إبراهيم الفقيه الذي رحل مؤخراً تعني الكتابة عن ليبيا، فهما وجهان لعملة واحدة. فهو أحد أعلامها البارزين منذ ستينيات القرن الماضي، ومن أبرز أصواتها التي تمثّل مرحلة ازدهار السرد في ليبيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى جانب إبراهيم الكوني وخليفة حسين مصطفى. وإن كان حظ الفقيه من الجوائز لا يشبه أبداً حظوظ زملائه من الأدباء العرب الذي حصلوا على "البوكر" و"كتارا" وغيرهما. 

تعتبر رواية الفقيه "خرائط الروح" أطول رواية عربية، إذ تتألف من 12 جزءاً، وتتناول تاريخ الاستعمار في ليبيا عبر رحلة عثمان الحبشي الهارب من الملاحقة الأخلاقية والنبذ القبلي في صحراء قاحلة، وهو يرصد من خلالها تاريخ الاحتلال الإيطالي لبلاده.

اما روايته "سأهبك مدينة أخرى"، والمكوّنة من ثلاثة أجزاء، التي تصوّر الصدام بين الشرق والغرب من خلال قصة رجل شرقي سافر إلى أوروبا، فقد اختيرت واحدة من ضمن أفضل 100 رواية عربية.

وفي هذا السياق، قال الفقيه مرة عن تجربته الأدبية "لقد جئتُ إلى الرواية من بيئة ومكان لطالما اعتُبرا ممكنَين كعالم يمكن حيازته وإعادة بنائه في القصة القصيرة. وحتى التراث القصصي الشعبي يكاد يكون شاهداً على هذا المنحى، فهو تراثٌ يتألف من شذرات وحواديث قصيرة وحكايات بسيطة وموجزة، وهي نتيجة لبيئة تضرب جذورها في مجتمع صحراوي وواحات متباعدة وتقاليد صحراوية تفصل بين النساء والرجال، مما يتعذر معه خلق حالة تشابك واحتدام في العلاقات وتنوع في التجارب والشخصيات والنماذج الإنسانية التي تغذي عادة العمل الروائي الطويل الذي تنتج عنه أعمال سردية ضخمة كالرواية".

كان للفقيه ذوق معماري يشبه ذوق صديقه الروائي الراحل جمال الغيطاني، حيث يصف عاصمة بلاده طرابلس بــ "المدينة الحائرة التي لم تعد قرية ولم تصبح مدينة، لا هي شرقية ولا غربية، لا تعيش في الماضي ولا في الحاضر. مدينة تعيش مأزقها التاريخي منذ أن تخلّت عن طبيعتها القروية وفشلت في اكتساب طبيعة جديدة".

وما يقوله الفقيه عن طرابلس يعطي صورة حقيقة عن أغلب العواصم العربية فهي "فقدت رونقها أو فقدت هويتها بعدما انتهى الزمن القديم بأفراحه البدوية وحلقاته الشعبية التي تعقد في الأسواق وموالد الأولياء وحفلات ختانه وأعراسه وبيوته المتداخلة المندمجة في بعضها البعض. وقد اكتظت بسكانها الذين يصنعون لكل مناسبة عيداً، وباغتها زمن جديد لم تكن مهيأة له، أو راغبة في أساليب حياته العصرية، فرفضت الانتماء اليه. وظلت معلقة بين ماضيها وحاضرها لا تجد شيئاً تنتمي إليه أو ينتمي إليها، تنظر بريبة وخوف إلى العالم الذي يحيط بها".

ويضيف الفقيه: "أخذت (طرابلس) من العصر الجديد شبكات الطرق الإسفلتية التي تحرقها الشمس، وصناديق العمارات التي تصفعها الريح وتتكدس حولها الأتربة ويسكنها بشر خرجوا من خباء القبيلة ولا يعرفون التعامل مع جيرانهم الذين جاؤوا من قبيلة أخرى، إلا بمنطق النظرات المذعورة التي تطل من وجه إنسان مشنوق، ثم ركام هائل من الحديد الذي يقذف به البحر على شواطئها كل يوم، في شكل سيارات ومصاعد ومطابخ ومدافع وأسياخ، تصنع منها منصات الخطابة. ومع ذلك فقد ظل هذا الجديد شيئاً لا تقوى على الإقتراب منه حتى أدركت أن بعضه ضروري لاستكمال شكلها الحضاري، فقلبها البدوي يرتعد عندما يأتي ذكر الأندية والمسارح والملاهي والحانات والمكتبات وقاعات".

كان للفقيه حصته من نظام معمر القذافي وجناياته التي لا تعد ولا تحصى، ومنها حسبما يروي الفقيه أن القذافي "لاحق كل كتاب يتحدث عن الحزبية او يناصر الرأسمالية او نظم أوروبا السياسية، وحرّم دواوين نزار قباني وروايات إحسان عبدالقدوس. وأقيمت تلال من هذه الكتب وأحرقت في الميادين العامة، وطال سوء الطالع الفيلسوف المعروف عبدالرحمن بدوي الذي كان يدرّس في الجامعة الليبية في بنغازي حيث أخذت كتبه للمحرقة واقتيد هو للسجن ولم يخرج إلا بوساطة من السادات".

يحكي أحد أصدقاء أحمد إبراهيم الفقيه "في آخر زيارة له في المستشفى، إذ توفي بعدها بأيام، وجدته حبوراً ومتدفقاً، وأخذ يحكي لي بحرارة عن مصدر لقصة كتبها، وتوقف عن السرد ليسألني هل طالعتها، ولم ينتظر جواباً: هي قصة رجل أمن قابلته عند وصولي إلى اليونان، بعد أن عُينت كدبلوماسي في السفارة الليبية هناك، جلست في مقهى للحظات حتى وجدت شخصاً يندلف نحوي مرحباً بي، لهنيهة لم أتذكره بسبب أن طلعته ولباسه الفاخر قد غيرا سحنته، لقد عمل معي كإداري عندما كنت رئيساً للأسبوع الثقافي وكان جلفاً كسولاً ولا يهتم بمظهره لذا طلبت إبعاده عن العمل في الجريدة، والآن ها هو وفي اليونان يرأس فندق الخمس نجوم وتوابعه الذي تملكه الدولة الليبية". هذا، آخر حديث لي معه، عن القصة التي كتب، عن رجل الأمن الذي طرده، ليجده يدير مؤسسة سياحية كبرى حيث جاء ليعمل".

يذكر أن للراحل العديد من الروايات منها "الصحراء وأشجار النفط"، "حقول الرماد"، "فئران بلا حجور"، "ابنة بانايوتي"، "الحالة الكلبية لفيلسوف الحزب"، "الطريق إلى قنطرارة"، واَخرها "خالتي غزالة تسافر في فندق عائم إلى أميركا"، وأكثر من ثلاثين مجموعة قصصية، فضلاً عن كتب أخرى في السيرة الذاتية والتراجم وأدب الرحلات والبحوث والدراسات والمقالات الفكرية والسياسية.

والفقيه من مواليد العام 1942، بدأ مسيرته الأدبية في العام 1959 في صحف ليبية، قل أن يؤسس اتحاداً للأدباء والكتاب في ليبيا، ويتولى منصب أمينه العام. كما عمل سفيراً لبلاده في أثينا وبوخارست، وأستاذاً جامعياً ومحاضراً في الأدب العربي الحديث في الجامعات الليبية، والمصرية، والمغربية. وجسّد سيرته الذاتية في ستة أجزاء، مقسمة على ثُلاثيتين: "ثلاثية مرافئ الطفولة"، و"ثلاثية طرابلس".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]