الدراما الرمضانية في تونس ... إبداع أم تسويق؟

ما هي الغاية من الدراما في شهر رمضان؟ يجب إعادة النظر في الفلسفة القائمة وراء هذا الإنتاج وتخليّه عن النزعة التجارية.

ترسانة ضخمة جداً من الأعمال التلفزيونية يتمّ التحضير لها وإعدادها خصيصاً لشهر رمضان. ودأبت العادة على أن تتهيّأ القنوات التلفزيونية لهذا الشهر بأنواعٍ مختلفة من الأعمال الفنية سواء عبر البرامج الترفيهية والمسلسلات، يتتالى تقديمها بشكل مُكثّف خلال الفترة الممتدة بين الإفطار والسحور. حيث الفرصة الذهبية لعرض الفقرات الإعلانية، وتحقيق المزيد من الأرباح.

ولئن تميّزت بعض الأعمال الدرامية في السنوات السابقة بتناولها مواضيع تاريخية واجتماعية تخصّ الذاكرة التونسية، وجاءت بطابع توعوي تربوي ترفيهي؛ فإن أغلب ما يتمّ تقديمه اليوم بحسب الكثير من المتابعين للدراما التلفزيونية لا يمتّ بصلة للفن أو لنقد الواقع. إنما، هو سوق تجارية تتحكّم فيها ماكينة اللاعبين الكبار من أصحاب الماركات التجارية الكبرى الذين يموّلون هذه القنوات عبر ما يبثّ خلالها من إعلانات.

فهذه البرامج الدرامية هي في وجه من وجوهها سلعة تجارية بالدرجة الأولى؛ ذلك ما يشير إليه الصحافي المُختصّ بشؤون الفنون والثقافة في (جريدة العرب الدولية) صابر بن عامر، قائلاً للميادين الثقافية "هي لعبة الإعلانات والداعمين الذين فرضوا سوقاً موازية داخل الدراما التلفزيونية العربية أساسها النجومية للنجم على حساب العمل ككل، فغابت الجودة في مواقع كثيرة خاصة منها في السيتكومات التي ملأت الفضائيات العربية من الماء على الماء، والتي يعوزها النص أولاً وأخيراً".

رئيس تحرير جريدة (صوت الشعب) سابقاً الروائي عبد الجبار المدوري يؤيّد هذا الرأي فيقول "بالنسبة لعلب القنوات التلفزية التونسية فإن العقلية التي تقودها خلال شهر رمضان هي جلب أكثر ما يمكن من الإعلانات وهذا يتم بطبيعة الحال عبر الزيادة في عدد المتابعين بكل الطرق بما في ذلك التي تتنافى مع الذوق وتخلّ بالمبادئ الأساسية للعمل التلفزيوني"، مُضيفاً "بصفة عامة فإن الأعمال الدرامية التونسية محكومة بثلاثة عوامل أساسية؛ هي تحقيق نسبة مشاهَدة عالية بغضّ النظر عن المادة المُقدّمة، واحترام الضوابط السلطوية في علاقة بالنصّ والإخراج وخاصة في التعامل مع المؤسّسة الأمنية والعسكرية وعدم نقدها، ثم مُغازلة أصحاب المال والنفوذ لأنهم هم مَن يموّلون هذه القنوات عبر الإعلانات".

هذا "القصف" المتتالي للفقرات الإعلانية قبل وخلال وبعد العمل الدرامي يثير الشكوك حول الهدف من هذه البرامج، وكذلك في مدى جديتها الفنية. فالمعلوم أن أيّ مخرج جاد وحريص علي إيصال فكرته للمشاهد لن يقبل بعملية البتر المتكرّرة لعمله، بما يخلخل تماسكها ويهزّ أركان بنيانها فيفقدها جوهرها الجمالي. وبالتالي لم يعد البرنامج الدرامي هدفاً لذاته بل أصبح وسيلة لاصطياد أكبر عدد ممكن من المشاهدين من أجل جلبهم إلى الساحات التجارية الكبرى؛ وهو ما يفسّر تدنّي الكثير من الأعمال الدرامية وعدم احترامها لأبسط قواعد الجمالية لا سيما في القنوات الخاصة.

ولذلك ترى الممثلة منيرة زكراوي التي شاركت في مسلسل (مايسترو) الذي يُعرَض الآن على (القناة الوطنية التونسية) أن "خصخصة القنوات غيّرت الكثير في المشهد الإعلامي وطغى عليها الجانب التجاري فأصبحت العملية خاضعة لسوق العرض والطلب"، وهنا تشرح زكراوي "شهر رمضان يوفّر بطبيعته مساحة كبيرة للعرض؛ فنسبة استهلاك الإنتاجات التلفزيونية ونسبة المشاهدة ترتفع على خلاف بقية السنة، وبطبيعة الحال فالقنوات لا يهمّها تربية الذوق ولا التثقيف بقدر ما يهمّها تربية فكر استهلاكي بحت، والمنتج يدرس السوق جيداً".

أفرزت الأوضاع الاجتماعية والحراك الاجتماعي ظواهر جديدة تمّ استغلالها في الدراما، فباتت تطرح مواضيع اجتماعية يومية مستوحاة من الواقع التونسي وهذا أمر إيجابي وجيد، لكن كما يؤكّد صابر بن عامر، "تغيّر هذا الطرح في السنوات القليلة الماضية، بداعي ضرورة أن تعرّي الدراما المسكوت عنه وتنبش في الواقع المُعاش كي يتسنّى لها، أن تبني من جديد، ربما؟ وهذا الأمر يبدو محموداً بأوطاننا العربية لو شمل جميع المحرّمات المسكوت عنها، لكن أن يتمّ التطرّق أساساً في التابوهات الاجتماعية من دون سواها، هنا تكون هذه التعرية لثيمة الواقع الاجتماعي فحسب، بمثابة الشجرة التي تحجب غابة السياسي والديني الممنوع الحديث فيهما، ولو بنِسَب متفاوتة من بلد عربي إلى آخر".

توصيف عامر لا تتّفق فيه معه الممثلة ريم عبروق بطلة مسلسل (بنات فضيلة) الذي يعُرَض حالياً على القناة الوطنية، التي تحدّثت للميادين الثقافية معتبرة أن "اللون الاجتماعي مردّه أن العمل موجّه أساساً للمواطن الذي صار لا همّ له سوى تردّي وضعه الاجتماعي والاقتصادي.. هو مُجبَر على ترك الحلم والانغماس في المتاهات".

تنامي الإنتاجات الدرامية ذات الطابع الهزلي التي تتناول مواضيع يومية يطرح السؤال عن غياب الأعمال التاريخية سواء من التاريخ القديم أو الحديث. ولا يُخفى على أحد الدور المهم الذي تقوم به مثل هذه الأعمال من خلال تأثيرها على المشاهد. وبينما يرى عبد الجبار المدوري أن هذه النوعية من الأعمال لم تعد تستقطب الشباب، يقول صابر بن عامر "معلوم أن الدراما التاريخية أساساً، مُكلفة من جانبين وبمعنيين المادي والمعنوي، ولو تابعنا تاريخ الدراما التاريخية العربية على امتداد العشريتين الأخيرتين لوجدنا أنها لم تمر ولو لمرة واحدة من دون أن تثير جدلاً، بين منتصر للطرح المُقدّم ومعارض له على اعتبار أن التاريخ غالباً ما يكتبه المنتصرون، ومن هنا ارتدّت الدراما التاريخية والدينية إلى مراتب دونية في السنوات الأخيرة، لتحل محلها الدراما التي تخاطب العضلات قبل العقول".

ولئن تباينت الآراء حول الدراما الرمضانية في تونس من مُستحسِن إلى مُنتقِد؛ فهناك شبه إجماع على أن بعض الأعمال التي قدّمتها (القناة الوطنية) كانت أكثر من متميّزة، وهو ما تؤكّده منيرة زكراوي قائلة إنه "خلافاً للسنوات السابقة حيث كانت القنوات الخاصة تقريباً تحتكر المشهد الدرامي، إلا أن هذه السنة هناك عودة للقناة الوطنية بإنتاج جد محترم؛ كما تعدّدت الإنتاجات وظهرت كذلك طاقات إبداعية أخرى لمخرجين شبان مختلفين أعطوا لوناً وطعماً جديداً للدراما الرمضانية".

ويظل السؤال ما هي الغاية الأخيرة من الدراما في شهر رمضان؟ فإذا سلّمنا بضرورة تقديم أعمال هدفها الأول الترفيه عن المشاهد والتخفيف من مشاقه اليومية، فهذا لا يعني أن تتم فبركة أي شيء وتقديمه على أساس أنه أعمال فنية. غير أن الأمر يبدو أكثر تعقيداً من ذلك ولعلّه يستوجب إعادة النظر في الفلسفة القائمة وراء هذا الإنتاج وتخليّه عن النزعة التجارية التي تملّكت أصحاب المؤسّسات الإعلامية.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]