واثيونغو و"تحرير العقل من الاستعمار"

تنعكس التبعية للبورجوازية الأفريقية في ثقافتها المُقلّدة والمفروضة على سكان مُنتفضين بواسطة جزمات الشرطة؛ والأسلاك الشائِكة وطبقة من رجال الكهنوت والقُضاة ومُثقّفي الدولة.

(تحرير العقل من الاستعمار) للكاتب الكيني نغوغي واثيونغو Ngugi wa Thiong'o. يقف الكاتب في مقدمته هذه ضد الامبريالية الثقافية والفكر الاستعماري في "بلدان الجنوب" (افريقيا، آسيا وأميركا الجنوبية)، كما يناضل من أجل ثقافات وطنية أفريقية مستقلة ومتحررة من التبعية. يثمن نغوغي في نصه هذا اللغات الأم المحلية وثقافة المقاومة والكفاح ضد ثقافة الخضوع والانهزامية. يعتبر نغوغي واثيونغو من أبرز الأسماء في الأدب الأفريقي الحديث والمعاصر. وهنا نص المقدمة.

هذا الكتاب هو خلاصة بعض المواضيع التي درستها بحماس أثناء ممارستي للأدب، للمسرح، للنقد ولتدريس الأدب خلال العشرين سنة الماضية. قد يشعر أولئك الذين قرأوا كتبي Homecoming Writers in Politics، Barrel of a Pen وحتى Detained : a Writer’s Prison Diary أنهم قرأوا من قبل عملاً كهذا.

لن تكون ردّة فعل كهذه بعيدة عن الحقيقة. لكن المحاضرات التي يرتكز عليها هذا الكتاب أعطت لي الفرصة لكي أجمع بشكلٍ مُترابطٍ ومُتناسقٍ المواضيع الرئيسية حول مسألة اللغة في الأدب التي تعرّضت لها بشكلٍ موجَزٍ في أعمالي وحواراتي السابقة.

هذا الكتاب جزء من النقاش المتواصل عبر كامل القارة حول قدر إفريقيا. لقد تم النظر لمدة طويلة إلى الوقائع الإفريقية من زاوية القبائل. فأي شيء يحدث في كينيا، أوغندا، مالاوي يحدث بسبب صراع قبيلة أ ضد قبيلة ب. وأي انفجار في الزائير، نيجيريا، ليبيريا وزامبيا يحدث بسبب العداوة التقليدية بين قبيلة ث وقبيلة ت. وتتمثل نسخة مُغايرة لنفس هذا النوع من التأويلات في صراع المسلمين ضد المسيحيين أو الكاثوليك ضد البروتستانت في الأماكن التي يصعب فيها إدراج شعب ما في خانة "قبائل".

حتى الأدب يتمّ تقييمه أحياناً على أساس الأصول "القَبَليّة" للمؤلفين أو الأصول والتكوين القبلي للشخصيات في رواية ما أو مسرحية ما.

وسائل الإعلام الغربية هي مَن روّجت لهذا النوع من التأويلات المُضلّلة للوقائع الإفريقية، إذ يعجبها أن تصرف أنظار الناس عن رؤية أن الامبريالية لا تزال هي السبب الأصلي لعديد المشاكل في إفريقيا.

للأسف وقع بعض المُثقّفين الإفريقيين ضحايا- قسم منهم وقع بشكل مَرَضي لا علاج له- هذه المكيدة وهم عاجزون عن رؤية الأصول الاستعمارية لسياسة فرِّق تسُد في تفسير أية فروق بين مواقف فكرية أو أية نزاعات سياسية من حيث الأصول العرقية للجهات الفاعِلة. 

لا يوجد رجل ولا امرأة يمكنهما اختيار جنسيتهما البيولوجية. ولا يمكن تفسير النزاعات بين الشعوب من حيث ما هو ثابت (الثوابت). وإلّا فستكون دائماً المشكلة بين أيّ شعبين المشكلة نفسها في كل زمان ومكان؛ أضف إلى ذلك أنه لن يوجد أبداً حلّ للصراعات الاجتماعية إلّا إذا حصل تغيّر في الثوابت، من خلال التحوّل الجيني أو البيولوجي للجهات الفاعِلة.   

 ستكون مُقاربتي مختلفة. سأنظر في الوقائع الإفريقية كما يؤثّر عليها الصراع الكبير بين القوّتين المُتضاربتين المُتصارعتين في إفريقيا اليوم: تقاليد إمبريالية من جهة وتقاليد مقاومة من جهة أخرى.

إنّ التقاليد الامبريالية في إفريقيا تحتفظ بها اليوم البورجوزاية العالمية التي تستعمل الشركات المُتعدّدة الجنسيات وطبعاً الطبقات الحاكِمة المحلية الملوّحة بالرايات. تنعكس التبعية الاقتصادية والسياسية لهذه البورجوازية الإفريقية النيوكولونيالية في ثقافتها المُقلّدة كالقردة والببغاوات والمفروضة على سكان مُنتفضين بواسطة جزمات الشرطة؛ بواسطة الأسلاك الشائِكة وطبقة من رجال الكهنوت ومن القُضاة؛ وتنتشر أفكارهم بواسطة مجموعة من مُثقّفي الدولة، المُختصّين الأكاديميين والصحافيين التابعين للمؤسّسة النيوكولونيالية.

أما تقاليد المقاومة فيحملها العمال (الفلاحون والبروليتاريا) المُسانَدون من قِبَل طلاب وطنيين، مُثقّفين (أكاديميين وغير أكاديميين)، جنود وعناصر أخرى تقدّمية تنحدر من الطبقة المتوسّطة. وتنعكس هذه المقاومة في دفاعهم الوطني عن الجذور الفلاحية/العمالية للثقافات الوطنية، في دفاعهم عن الكفاح الديمقراطي لدى كل الجنسيات التي تسكن نفس الأرض. وكل انفجار ضد الامبريالية، مهما كان الأصل العرقي والجَهَوَي للانفجار، هو انتصار لكل العناصر المُناهِضة للامبريالية لدى كل الجنسيات. ومجموع كل هذه الانفجارات يصنع الإرث الوطني، مهما كان وزنها، حجمها، امتدادها وموقعها في الزمان والمكان.

الامبريالية ليست شعاراً بالنسبة لكل هؤلاء المُدافعين الوطنيين عن الثقافات المُكافحة للشعب الإفريقي. الامبريالية حقيقة ملموسة في محتواها وفي شكلها وفي أساليبها وتأثيراتها. الامبريالية هي حُكم الرأسمال المالي المُترسّخ ومنذ 1884 أثّر ولا يزال يؤثّر هذا الرأسمال الاحتكاري الطفيلي حتى على حياة الفلاحين في الجهات النائية من بلداننا.

وإن كان لكم شك في ما أقول، حسبكم أن تعدّوا كمْ من بلدان إفريقية سقطت إلى حد الساعة رهينة صندوق النقد الدولي- وزارة المالية العالمية الجديدة كما سمّاها جوليوس نييريريه  Julius Nyerere ذات يوم.

مَن يدفع ثمن الرَهن العقاري؟ الذي يدفع الثمن هو كل مُنتِج للثروة الحقيقية (القيمة الاستخدامية) في البلد، أي كل عامل وفلّاح. الامبريالية منظومة شاملة: لها عواقب اقتصادية، سياسية، عسكرية، ثقافية ونفسية على سكان العالم اليوم. وقد تقود الامبريالية حتى إلى إبادة كاملة.

تحمي الأسلحة التقليدية والذرية اليوم حرية الرأسمال المالي الغربي وحرية الاحتكارات الضخمة غير الوطنية المنضوية تحت لوائه لمواصلة نهب بلدان وشعوب أميركا اللاتينية، إفريقيا، آسيا وبولينيزيا.

إنّ الإمبريالية، بقيادة الولايات المتحدة، توجّه إنذاراً نهائياً إلى شعوب الأرض المكافحة وإلى جميع مَن يُنادي بالسلام، بالديمقراطية وبالاشتراكية: إمّا أن تتقبّلوا النهب وإمّا أن تموتوا. ويحافظ مقهورو ومستغَلّو الأرض على مقاومتهم المفتوحة: التحرّر من النهب.

لكن القنبلة الثقافية هي أكبر سلاح في يد الامبريالية والتي تطلقها فعلاً كل يوم على هذه المقاومة الجماعية. إنّ تأثير قنبلة ثقافية هو تدمير إيمان شعوب بأسمائها، بلغاتها، بمحيطها، بإرثها النضالي، بوحدتها، بقدراتها وأخيراً تدمير إيمان الشعوب بأنفسها.

تدفع القنبلة الثقافية الشعوب إلى أن ترى ماضيها كأرضٍ جرداءٍ خاليةٍ من الإنجازات كما تجعل تلك الشعوب ترغب في أن تبتعد عن تلك الأرض الجرداء. تجعلها القنبلة الذرية تتماهى مع أبعد شيء عنها؛ فمثلاً تجعلها تتماهى مع لغات شعوب أخرى بدلاً من لغاتها. تجعلها تتماهى مع الشيء المنحطّ والرجعي، كل تلك القوى التي قد توقف منبع حياتها.

القنبلة الثقافية تغرس حتى شكوكاً خطيرة حول الحق الأخلاقي في الكفاح. ويتم النظر إلى إمكانيات الانتصار أو النصر كأحلامٍ بعيدةٍ وسخيفةٍ. والنتائج المرجوّة هي اليأس، القنوط وتمنِّ جماعي للموت.

وسط هذه الأرض الجرداء التي صنعتها، تقدّم الامبريالية نفسها كالدواء وتطلب من التابع أن يغنّي أناشيد المدح باللازِمة المستمرة: "النهب مقدّس". وتلخّص هذه اللازِمة بالفعل العقيدة الجديدة للبورجوازية النيوكولونيالية في عديد الدول الإفريقية "المستقلة".

إنّ الطبقات المُكافِحة ضد الامبريالية حتى في مرحلتها وهيئتها النيوكولونيالية، يجب أن تجابه هذا الخطر بثقافة الكفاح الحازِم في أعلى مستوياته وإبداعه. ينبغي على هذه الطبقات أن تحمل بحزم أكبر أسلحة الكفاح المُتضمنة في ثقافاتها.

يجب أن تتحدّث لغة الكفاح الموحَّدة المتواجدة في كل واحدة من لغاتها. يجب أن تكتشف ألسنتها المتعدّدة لكي تغنّي النشيد: "شعب مُتّحد لا يُغلَب أبداً".

موضوع هذا الكتاب بسيط. هو مأخوذ عن قصيدة كتبها الشاعر الغويياني مارتن كارتر Martin Carter يرى فيها رجالاً ونساء عاديين يتضوّرون جوعاً ويعيشون في غرف بلا أضواء؛ كل هؤلاء الرجال والنساء في جنوب إفريقيا، ناميبيا، كينيا، الزائير، ساحل العاج، السلفادور، الشيلي، الفيليبين، كوريا الجنوبية، أندونيسيا، غرانادا، "معذّبو الأرض" لفانون، الذين أعلنوا بصوتٍ مدوٍّ وبشكل واضح أنهم لا ينامون لكي يحلموا، وإنما "يحلمون لكي يغيّروا العالم".

أتمنّى أن تجد بعض المواضيع في هذا الكتاب صدى في قلوبكم.

 

نغوغي واثيونغو: مولود سنة 1938 في كينيا، بالقرب من العاصمة نايروبي. كاتب كيني، قاص، مسرحي، ناقد أدبي وأستاذ جامعي في الأدب الإفريقي والإنكليزي وفي الأدب المقارن. يعتبر من أهم الأدباء الإفريقيين المعاصرين. يكتب باللغتين الكيكويو (لغته الأمّ وهي لغة محكية في كينيا) والإنكليزية. له إنتاج فكري وأدبي غزير ومن أبرز أعماله: Weep not, child (لا تبكي يا طفل، وهي أول رواية صدرت له سنة 1964)، A grain of wheat (حبّة من القمح، 1967) ، Caitani Mutharabaini/Devil on the cross (شيطان على الصليب، 1981)، Decolonizing the mind (تحرير العقل من الاستعمار، 1986)، Detained : a writer’s prison diary (معتقل: مذكرات كاتب دوّنها في السجن، 1982)، Writers in politics (الأدباء في السياسة، 1981)، Matigari (ماتيغاري، 1986). "شيطان على الصليب" هي الترجمة العربية الوحيدة لحد الآن لأعمال نغوغي واثيونغو. صدرت هذه الرواية عن منشورات اتحاد الكتّاب العرب سنة 1999 وترجمها عبد العزيز عروس.

 

مصدر النص: Decolonizing the Mind, the Politics of Language in African Literature, Zimbabwe Publishing House, Harare, 1981.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]