"دراكولا" الذي صار أيقونة.. من هو أبوه الحقيقيّ؟

رادو فلوريسكو وريموند ماكنالي، المتخصّصان في تاريخ الرعب، جَزَما في كتابهما حول "دراكولا"، أنَّ النواة التي نسج حولها ستوكر شخصيَّة "الكونت دراكولا" في الرواية هي "فلاد الثالث المخوزِق"!

  • الكونت دراكولا: مصَّاص الدماء الذي صار أيقونة!

"أنا مقتنعٌ تماماً بأنَّه لا يوجد شكّ في أنَّ الأحداث الموصوفة هنا حدثت بالفعل، ولكنها قد تبدو غير معقولة وغير مفهومة للوهلة الأولى، وأنا مقتنعٌ كذلك بأنَّها يجب أن تظل دائماً غير مفهومة إلى حدّ ما".  

من المقدَّمة الأصليَّة التي كتبها برام ستوكر لروايته الأيقونيَّة "دراكولا" في طبعتها الأولى.

عاشَ وماتَ في الظل

  • الكاتب الأيرلندي برام ستوكر
    الكاتب الأيرلندي برام ستوكر

بعد أيَّام قليلة من غرق سفينة تايتانيك إثر اصطدامها بجبل جليدي، وفي غمرة انشغال العالم وصحافته بنقل تفاصيل الحادثة ونعي الأغنياء والمشاهير الذين كانوا على متن السَّفينة، والكشف عن هويَّات أصحاب مئات الجثث التي تمَّ انتشالها من البحر، واستعراض روايات الناجين، مرَّ خبرٌ صغيرٌ لم يأخذ حقَّه كفاية.

كان هذا نعي الكاتب الأيرلندي برام ستوكر (1847 – 1912). تبدو نهايةٌ كهذه خاتمةً مثاليَّةً لحياة رجل عاشَ دائماً في الظل: ظل "دراكولا" بطله ذي الشهرة الخارقة، وظل صديقه الممثل هنري ايرفينغ (1838 – 1905) الذي استوحى منه الكثير من تفاصيل شخصيَّة "دراكولا"، وأيضاً ظل أصدقائه من مشاهير كتّاب ذلك الزمان، أمثال مارك توين (1835 – 1910)، أوسكار وايلد (1854 – 1900)، وآرثر كونان دويل (1859 – 1930).                                                                   

وفاة ستوكر كانت متوائمةً أيضاً مع الجوّ الحافل بالغموض الذي ساد في جميع رواياته، بدءاً من سبب الوفاة المفترض، والذي تداوله كثيرون من دون أن يرد في شهادة الوفاة ولا في إفادة ابن شقيقته دانيال فارسون الذي تولى نشر سيرته الذاتيَّة في العام 1975، وهو مرض الزهري (السفلس)، وصولاً إلى مستوى روايته الأخيرة السيئة السمعة "عرين الدودة البيضاء"، وقبلها زواجه الغريب من الحسناء فلورنس بالكومب (1858 – 1937) التي تخلت عن خطبتها لأوسكار وايلد، وقبلت عرض ستوكر للزواج، ولكنها عادت وآثرت نثر رمادها في الريح وعدم عرضه في جرَّة واحدة مع رماد برام، كما كانت قد أوصت سابقاً، فضلاً عمَّا قيل حول استغراقها في علاقات خاصَّة مع أقرب أصدقائه من الفنَّانين، بالتوازي مع غرقه في الفنّ وتفرّغه شبه الكامل له.

حياة ستوكر وموته - كما أعماله الأدبيَّة - يقومان على رفض الاستسلام لأيّ تفسير نهائي جازم وقاطع!

بعضٌ من حكاية "دراكولا" خارج الورق

  • برام ستوكر ودراكولا
    برام ستوكر ودراكولا

في العام 1890، دخل برام الذي كان يبلغ من العمر 45 عاماً المكتبة العامَّة في ويتبي (شمال يوركشاير). طلب عنواناً محدّداً لكتاب نادر حول تاريخ "والاشيا" و"مولدافيا" لم تعلن المكتبة من قبل أنَّها تمتلكه، ولم يصل إليه بالتالي إلا الذين يطلبونه بالاسم.

فتح الكتاب على صفحات محدَّدة، وقام بتدوين ملاحظات في دفتر يوميَّاته، وأعاد الكتاب. توجَّه بعدها إلى "متحف ويتبي" ليراجع سلسلة من الخرائط، ويضع طريقاً يبدأ في قلب لندن، وينتهي على قمَّة جبل في رومانيا. ومن المتحف، شقَّ طريقه إلى مرفأ ويتبي، ليتحدَّث إلى أعضاء في خفر السواحل الملكي، قدَّموا له تفاصيل عن سفينة شراعيَّة اسمها "ديمتري"، جنحت قبل سنوات على الشاطئ مع حفنة فقط من أفراد طاقمها المتبقين على قيد الحياة، وكانت تحمل شحنة غامضة. وأثناء التحقيق مع أفراد طاقم السفينة، أدلوا بإفادات غريبة عن كلب أسود كبير هرب من السفينة وصعد إلى يوركشاير، وتحديداً إلى مقبرة كنيسة القدّيسة مريم في ويتبي!  

وفاة ستوكر كانت متوائمةً مع الجوّ الحافل بالغموض الذي ساد في جميع رواياته، بدءاً من سبب الوفاة المفترض، وصولاً إلى مستوى روايته الأخيرة السيئة السمعة "عرين الدودة البيضاء".

بعدها، وبالاستناد إلى ما قرأه في المكتبه، وما دوَّنه في دفتر اليوميَّات، وما سمعه من خفر السواحل، باشر ستوكر كتابة روايته عن مصَّاص الدماء "دراكولا"، ولكن سرديَّات الباحثين الكثر في تاريخ ستوكر وبطله دراكولا لن تتوقف كلها عند ويتبي كمصدر وحيد للإلهام، بل سيتحدَّث بعضها عن زيارة إلى قلعة سلينز في أبردين، وزيارة إلى أخرى إلى أقبية كنيسة سانت ميشان في دبلن، وأيضاً عمَّا سمعه ستوكر من الكاتب والرحالة المجري أورمين فامبيري من قصص مظلمة في جبال المجر، فضلاً عن تأثره برواية "كارميلا" التي كتبها شيريدان لوفانو (1814 – 1873).                                                                

وهكذا، وُلِدَت رواية الرعب القوطي الأشهر في العالم "دراكولا" على شكل مجموعة من اليوميَّات الواقعيَّة والخياليَّة في آن، والبرقيَّات، وسجلات السفن، ومقاطع الصحف، وكلها أضافت مستوى من الواقعيَّة التفصيليَّة إلى القصَّة، وهي مهارة طوَّرها ستوكر باعتباره صحافيّاً. وبعد نشرها، اعتُبِرَت "دراكولا" رواية رعب تستند إلى إبداعات خياليَّة لحياة خارقة للطبيعة، وفتحت آفاقاً جديدة للخيال الأدبي، لتصبح بمرور الوقت جزءاً من الثقافة الشعبيَّة في العالم.                                                                           

إيرفينغ أو "المخوزِق": من هو الأب الحقيقيّ للكونت؟

  • فلاد الثالث المخوزق
    فلاد الثالث المخوزق

إذا كان هذا مصدر الإلهام المتعلق بأجواء الرواية وبيئتها الزمانيَّة والمكانيَّة، فإنَّ شخصيَّة "دراكولا" نفسها، كانت تدين – كما كاتبها – لصديق ستوكر الممثل هنري إيرفينغ بمظهرها وسلوكيَّاتها وتفاصيل أخرى. وكان ستوكر الذي برع مبكراً في الكتابة، قد تحوَّل إلى الصحافة والنقد الفني وكتابة المراجعات المسرحيَّة. ومن خلال تغطيته المجانيَّة للأعمال التي قدَّمها إيرفينغ، نشأت صداقة قويَّة بين الرجلين، كانت بدايتها الحقيقيَّة بعد دعوة من إيرفينغ لستوكر إلى تناول العشاء في فندق "شيلبورن"، أعقبت مراجعة ممتازة كتبها حول مسرحيّته "هاملت"، ليعمل بعدها ستوكر في مسرح إيرفينغ لمدَّة 27 عاماً.                          

ولكنَّ رادو فلوريسكو وريموند ماكنالي المتخصّصَين في تاريخ الرعب جَزَما في كتابهما حول "دراكولا" الذي صدر في العام 1974 أنَّ النواة التي نسج حولها ستوكر شخصيَّة "الكونت دراكولا" في الرواية هي "فلاد الثالث المخوزِق"!

سيبدو هذا مقنعاً إذا عرفنا أنّ فلاد الثالث هذا الذي عُرِفَ بالمخوزِق لابتداعه هذه الوسيلة المبتكرة من وسائل التعذيب، كما يحيل اللقب مباشرةً ويوحي، كان حاكماً للأفلاق، و"الأفلاق" ليس سوى الاسم الذي أطلقه العثمانيّون على "والاشيا" أو "فالاتشيا" (منطقة جغرافيَّة وتاريخيَّة في رومانيا تقع شمال نهر الدانوب، وكانت البلقان كلها في تلك الحقبة التاريخيَّة بين قوتين عظمَيين هما المجر والإمبراطوريَّة العثمانيَّة)، وهو ما يتقاطع مع ما ورد أعلاه حول موضوع الكتاب النادر في المكتبة العامَّة في ويتبي.

وفلاد الثالث هو أحد أفراد عائلة دراكوليشتي، و"دراكولا" هو لقبه الأوَّل قبل أن تظهر مواهبه في "خوزقة" 40 ألف رجل من أعدائه وأسرى الحرب، ودراكولا في لغة والاشيا تعني الشيطان!

رادو فلوريسكو وريموند ماكنالي المتخصّصَين في تاريخ الرعب جَزَما في كتابهما حول "دراكولا"، أنَّ النواة التي نسج حولها ستوكر شخصيَّة "الكونت دراكولا" هي "فلاد الثالث المخوزِق"!

حسناً، هذه خلطة ممتازة لرواية رعب قوطي: بعض ملامح هنري إيرفينغ القاسية وسلوكياته الغريبة، مضافة إلى سيرة حاكم روماني شديد القسوة والبطش وغريب الأطوار، وسفينة روسيَّة اسمها "ديمتري" تبحر من فارنا، فيضربها إعصار، ليُعثَر عليها قبالة سواحل ويتبي وقد مات قائدها، وعليها صناديق خشبيَّة مليئة بالتراب، ومنها يهرب كلب ضخم يركض إلى أعلى التلة، وخبز مقدَّس، ومقابر، ومصَّاص دماء لا يعرف الموت، يستريح في النهار في قلعته في البلقان، ويتجوَّل في الليل، وينقل العدوى إلى ضحاياه بلدغة واحدة، يغرز فيها أسنانه البيضاء الحادَّة في حناجرهم، فيتحوَّلون إلى مصَّاصي دماء مثله، ويخشى الصّلبان والثوم. يا له من كتاب مشوّق يغري القارئ بأن يغرز أسنانه فيه أكثر فأكثر!                                               

البطل القومي المحارب أصبح مصَّاص دماء: هل كانت "ظلامة"؟

  • رسم متخيل لدراكولا
    رسم متخيل لدراكولا

تسليم البعض بأنَّ رواية دراكولا هي سيرة فلاد الثالث، كما جاء في عنوان كتاب ماكنالي وفلوريسكو "دراكولا: سيرة فلاد الثالث"، قادهم إلى الحديث عن ظلامة كبيرة في تحويل محارب كفلاد واجَه الأتراك ببسالة حتى تحوَّل إلى بطل قومي وخلَّد اسمه كأسطورة، إلى مصَّاص دماء لا يخطر سواه في بال من يسمع الاسم في شتى أنحاء الكرة الأرضيَّة!                    

يبدو هذا للوهلة الأولى مقنعاً ومؤثراً، ولكن مهلاً، هل كان دراكولا "الأصلي" المحارب أقل وحشيَّةً من ذاك "المقلَّد" مصاص الدماء؟    

كانت هواية فلاد الأثيرة وضع أعدائه على الخازوق والاستمتاع بمشاهدتهم بينما يتلذَّذ بتناول طعامه، مراعياً ألا يكون الخازوق حادّاً ليتيح للضحيَّة موتاً أبطأ وقدراً أكبر من الألم، مع ابتكارات تتغير كل مرَّة كربط قدمي الضحيَّة أحياناً في حصانين، أو خزق البعض بصورة عكسيَّة (من خلال الفم)، أو قتل طفل وأمه في الوقت نفسه، وصولاً إلى الابتكار الأفظع الذي عرف بـ "غابة المخوزقين"، وتمثل في تعليق 20 ألف جندي عثماني دفعة واحدة خارج المدينة خلعت رؤيتهم قلب السلطان محمد الفاتح، فضلاً عن هوايات أخرى لم تترك أثرها على شكل لقب يتبع اسمه إلى الأبد، منها غرز المسامير في الرؤوس والخنق والحرق والسلخ وقطع الأطراف والأنوف والآذان لأشخاص أحياء لا يشترط حتى أن يكونوا جنوداً في جيوش معادية، فبينهم نساء وأطفال وفلاحون ولوردات وسفراء دول أجنبيَّة وتجَّار ونبلاء وغير ذلك.                            

في الثمانينيات، تمَّ اكتشاف مخطوطة "دراكولا" الأصليَّة في حظيرة في ريف شمال غرب بنسلفانيا، ولم يعرف أحد كيف شقَّت طريقها عبر المحيط الأطلسي. وتظهر هذه المخطوطة التي يملكها الآن بول ألين الشريك المؤسّس لشركة "مايكروسوفت" أنَّه تمَّ اقتطاع أوَّل 101 صفحة من الرواية، وأُجريَت العديد من التعديلات على النصّ، ومنها تقصير الخاتمة، وبالتالي تغيير مصير دراكولا ومصير قلعته مع اختفاء عشرات الآلاف من الكلمات، فماذا كانت تحمله الصفحات المحذوفة حتى اعتُبِرَ مخيفاً إلى هذا الحدّ؟                    

"دراكولا" بين الشاشة والخشبة: تحوّلات وعمليَّات تجميل

  • فلورنس بالكومب
    فلورنس بالكومب

كثير من الكتّاب غرزوا أسنانهم في اللحم الطريّ للرواية القوطيَّة الأكثر شهرةً، حتى تناسل منها عدد كبير من المسرحيَّات وأكثر من 200 فيلم سينمائي، خضع في بعضها "الكونت" لتحوّلات وعمليَّات تجميل أو تشويه عديدة، فهو مرَّة يكون أصمّ، ومرَّة أخرى يصبح عجوزاً، أو امرأة، أو شاذاً، ولكنَّه لم يفقد قوته وسحر لدغته إلا في مرَّة واحدة ظهر فيها في سلسلة رسوم متحرّكة للأطفال!                                            

ومن أبرز الذين لعبوا دور "دراكولا" على الشاشة والمسرح: ريموند هنتلي، ودانيال دي لويس، وغاري أولدمان، ودنهولم إليوت، وفرانك لانجيلا، وديفيد نيفن، وكلاوس كينسكي، ولويس جوردان، وجاك بالانس، وكريستوفر لي.                            

والمفارقة أنَّ النسخة التي اعتُبِرَت الأفضل من قبل معظم النقَّاد هي ذاتها النسخة التي حاولت فلورنس أرملة ستوكر حجبها وإتلافها حفاظاً على حقوق زوجها الراحل، واحتجاجاً على عدم الاتفاق معها مسبقاً بخصوص العائدات الماليَّة، حيث كان دراكولا في هذه النسخة أشبه بوحش قديم بشع، بدلاً من كونه رجلاً وسيماً مغوياً مبتسماً يرتدي ثياب السهرة الأنيقة.              

كثير من الكتّاب غرزوا أسنانهم في اللحم الطريّ للرواية القوطيَّة الأكثر شهرة، حتى تناسل منها عدد كبير من المسرحيَّات وأكثر من 200 فيلم سينمائي.                                                                   

لم يشتهر "دراكولا" على حساب صانعه فحسب، بل لعله أوحى لمن تسنّى لهم السّماع باسم برام ستوكر أن الرجل لم يكتب في حياته سوى هذه الرواية، إذ بقيت أعماله الأخرى في الظل، ولم تحقق النجاح الذي حققته "دراكولا"، وهي كثيرة، ومنها: "ممر الأفعى" (1890)، "مذبح الماء" (1895)، "سرّ البحر" (1902)، "وادي السَّاحر" (1903)، "سيّدة الكفن" (1909)، "عرين الدودة البيضاء" (1909).