"سمِّي هذا الألم ابنة".. الأمّ الشاعرة: شرخ في نمطيّة العالم؟

العلاقة بين الشعر والأمومة ملتبسة، تصل أحياناً حدّ التزاحم بينهما، وصولاً إلى الانتحار والقتل.. هل هذا يعني أنَّ الأمّهات لا يمكن أن يكنَّ شاعرات؟

اعتمد المؤتمر العام لليونسكو، خلال دورته الــ 30 المنعقدة في باريس عام 1999، ولأول مرة، يوم 21 مارس/آذار يوماً عالمياً للشعر، ومنذ ذلك الحين اعتُبِرَ هذا اليوم فرصة لتكريم الشعراء وإحياء التقليد الشفهي للأمسيات الشعرية. 

قبل ذلك، وتحديداً في العالم العربيّ أوائل القرن العشرين، اختير ذات اليوم الذي يوافق أيضاً أول أيام فصل الربيع، كيوم لتكريم الأمومة سمّي بعيد الأم، على نسقِ تواريخ أخرى كرّمت الأمهات في ثقافات أخرى عديدة. 

هذا التزامن يحيلنا إلى علاقة ملتبسة بين الشعر والأمومة، لا نتحدث هنا عن الربط السطحيّ من خلال فعل الولادة، حيث تجد كثيراً من الشعراء يعبّرون عن إصداراتهم باستخدام مصطلح "مولود". فالكتاب الأول هو المولود الأول مثلاً، ولكنّنا نتحدّث هنا عن علاقة جدليّة أعمق تربط الأمّهات الشاعرات بعملية الصناعة الشعرية. علاقة تصل أحياناً حدّ التزاحم في أهميّة كلّ من الرسالتين، الأمومة والشعر، وتدفع أحياناً بشكل غير مباشر إلى سياقات غير متوقعة، من المشاكل النفسية وصولاً إلى الانتحار، بل والقتل أحياناً! 

هل هذا يعني أنَّ الأمّهات لا يمكن أن يكنَّ شاعرات؟

على العكس تماماً، الشاعرات الخالدات عبر التاريخ كنَّ أمّهات، وبعيداً من "الخنساء" العربيّة، التي رثت "الأخوّة" طويلاً بعد مقتل أخيها "صخر" وحتّى وفاتها، وأورثت بعض أولادها صنعة الشعر، لكنها لم ترث أيّاً من أبنائها الأربعة الذين قتلوا في معركة واحدة حسب المرويات، فإننا سنطلّ في هذه المساحات على شاعرات من ثقافات مختلفة، ارتبطت تجربتهنّ الشعريّة بشكل مباشر بحالة الأمومة. 

سارا شَجُفتَه: فقدان الأمومة، إيجاد القصيدة

قد لا تكون تجربة الشاعرة الباكستانية سارا شجُفتَه معروفة بشكل كاف عربيّاً، لضعف حركة الترجمة من الأُرديّة والبنجابيّة، وهما اللغتان التي كتبت بهما مجموعاتها الشعرية الخمس، قبل أن تموت منتحرة أمام قطار على مشارف الثلاثين من العمر. 

أمّا في باكستان والهند، فتُعَد شجُفتَه رمزاً شعريّاً ونسويّاً يمتاز بغموض سحريّ لسيرة ناقصة، فرغم أثرها الثقافي البالغ، بقيت تفاصيل حياتها مجهولة، لذا دارت حولَ شخصيتها الأحاديث والكتب، ودخلت في أعمال فنيّة عديدة، ثمَّ لم تلبث بأن دعيت "سيلفيا بلاث شبه القارة الهندية" - سيلفيا بلاث التي سنفرد لها مساحة في هذا التحقيق - ولكنَّ ما يهمنا في تجربة سارا شجفته الشعرية هو المؤكّد. أنّها انطلقت أصلاً من حادثة موت رضيعها. الحادثة التي قابلها زوجها الشاعر أحمد جاويد بقسوة ولا مبالاة من وجهة نظرها، فقرّرت بعدها أن تتحدّاه بالشّعر وصنعت أسطورتها من هنا. كأنّ الشعر تقويض لسلطة المذكر وتعويض أسطوريّ لفقدان الأمومة: الأمومة بوصفها فعلاً أنثويّاً خالصاً، والشعر بوصفهِ تأنيثاً للّغة. 

انطلقت شجفته من حادثة موت رضيعها التي قابلها زوجها بقسوة ولا مبالاة من وجهة نظرها، فقرّرت بعدها أن تتحدّاه بالشّعر وصنعت أسطورتها من هنا.

لم تكتب سارا شجفته إلا قصيدة النثر سواء بالأُرديّة أو البنجابية، وهذا أكسب تجربتها ندرةً أصفى، كما يبدو من لغتها أنها كانت مولعةً بكسر الأنماط وتحدّي البديهيات، من نصوصِها اخترنا نصّاً بعنوان "إلى ابنتي شيلي": 

كلما آلمكِ أحد
سمِّي هذا الألم "ابنة" 

عندما يظهر شعري الأبيض
ضاحكاً حول خديك
اِبكِي 
على ألم حلمي
نامي.. 

ثمة حقول عليها أن تنبت الآن
في تلك الحقول 
أرى حمّالة صدركِ أيضاً
خفت أوّلَ مرّةٍ يا ابنتي
كم مرةً خفت يا ابنتي
رماة السهام يتربصون الآن بين الأشجار يا ابنتي
ميلادي لا شيء إلا أنت يا ابنتي
وميلادُكِ ابنتك 

على أمل أن أحمِّمَكِ
تبصقُ أناملي دماً

فروغ فرخزاد: ولدي ليس لي، لكن ليَ الشعر

لا شكَّ أنَّ الشاعرة الإيرانيّة فروغ فرخزاد - على عكس سابقتها الباكستانية - تحظى بشهرةٍ كبيرةٍ عربيّاً وعالمياً، كون قصائدها ترجمت إلى لغات عديدة منها الإنكليزية والعربية طبعاً، وحظيت تجربتها باهتمام واسع في الأوساط الأدبية، حدَّ ذهاب البعض إلى اعتبارها أهم شاعرة إيرانية على الإطلاق، كما أُنتِجَت عن شخصيّتها أعمال فنيّة متنوّعة بلغات مختلفة. 

أكملت فرخزاد حياتها ممتلئة بالأسف والعذاب النفسي السّاحق، من فكرة أن ابنها نشأ مقتنعاً أن أمّهُ تخلّت عنه، ثمّ كان تبنّيها للطفل اليتيم "حسين" لاحقاً محاولة تعويض نفسيّ، ولعلّها رأت فيه لفترة ابنَها الذي حُرمت منه، إلّا أنها بقيت تبحث عن "كامي" في الشعر حتّى النهاية.

هذا الإجلال الذي تُعامَل به تجربة فرخزاد نابع من كونها تجربة قصيرة وفريدة، فعن 32 عاماً، قضت الشاعرة المتمرّدة بحادث سير يشوبه شيء من الغموض، بعد حياة عاصفة بدأت بزواج مبكر ثمّ أمومة مبكرة، ثمّ طلاق، ثمّ اتهامات بتعدّد العلاقات الغرامية أدّت لخسارتها حضانة ابنها "كاميار" أو "كامي" كما كانت تدعوه. 

أكملت فروغ فرخزاد حياتها بعد ذلك ممتلئة بالأسف والعذاب النفسي السّاحق، من فكرة أن ابنها نشأ مقتنعاً أن أمّهُ تخلّت عنه في سبيل رغباتها الجسدية، ثمّ كان تبنّيها للطفل اليتيم "حسين" لاحقاً محاولة تعويض نفسيّ، ولعلّها رأت فيه لفترة ابنَها الذي حُرمت منه، إلّا أنها بقيت تبحث عن "كامي" في الشعر حتّى النهاية. 

أثار شعر فرخزاد، كما حياتها، جدلاً لم ينته بموتها. اللغة الأنثوية الصريحة والحسيّة، التي أثارت حفيظة مجتمعها وحفيظة النقاد أحياناً، حضور مأساتها كأمّ مطلّقة محرومة من طفلها، ووعيها العميق لقضية المرأة أوّلاً والإنسان بصرف النظر عن جندره تالياً ولدور الشعر في هاتين القضيتين، كانت أموراً جعلتها لا تمرُّ في مكان إلا خلّفت عاصفة من الدهشة والأسئلة وراءها. 

اخترنا هنا من نصوصها نصاً بعنوان "بيت مهجور" يتّصل مباشرةً بتجلّيها الأمومي: 

أعرف أن السعادة فرت من ذلك البيت المهجور
وأعرف أن هناك طفلاً يبكي
لرحيل أمه ..
كل حين تخطر في ذهني
رؤية السرير الفارغ المهجور
وتلك الأيدي التي تحصد اليأس
أرى جسداً هناك بألم يتمدد قرب المدفأة
ظل لقامة مهزوزة ومرتجفة
ظل لأكتاف كأنها تركت الحياة بسهولة
بعيداً .. هناك طفل يغفو بأحضان مربيته المتعبة العجوز
كوب من الحليب مندلق على نقوش البساط
النافذة مفتوحة وظل الزهور بلونها الأصفر
الستارة واقعة على كتف الباب
المزهرية دون ماء
قطة بنظرة بائسة
ممشى بهدوء وثقل
الشمعة بآخر شعلتها
ذاهبة للعدم
أعرف أن من ذلك البيت
السعادة قد فرت
وأعرف أن هناك طفلاً يبكي
لرحيل أمه
لكنني متعبة وحزينة
أقول.. إن الشعر هو رفيقي
أمضي لأحصل عليه. 

سيلفيا بلاث: شاعرةٌ مثالية، أمٌّ مثالية.. وفرن

إن كانت ثنائية الشعر/الشاعر تقاس بالأثر، يصحّ القول إنَّ الأميركية سيلفيا بلاث شاعرة مثالية، فأبعد من الأثر الذي تركه نصها الشعري في نصوص شاعرات وشعراء لاحقين، وفي حركة الشعر الأميركي والشعر النسوي عموماً، تركت بلاث اسمها لظاهرة وصفها عالم النفس الأميركي جيمس كاوفمان، وهي قابلية الشعراء أكثر من غيرهم للاضطراب النفسي، فأصبح مصطلح Sylvia Plath effect أو (تأثير سيلفيا بلاث) يصفُ حوادث انتحار عديد الشعراء والشاعرات كالإنكليزية سارة كين والأميركية الهندية ريتيكا فازيراني. 

حاولت بلاث أن تكون أمّاً مثالية أيضاً - بشكلٍ ما - لطفلين هما فريدا ونيكولاس، ولعلَّ هذا كان تجسيداً لرغبتها في أن تكون بارعة في كلِّ شيء من الأمومة إلى الشعر كما ترى التركية أليف شافاق في روايتها "حليب أسود".

ربّما كان إفراط بلاث في مثاليتها يدفعها بسرعة، من حيث لا تشعر، لتتّخذ خطوة معاكسة وعدميّة كالانتحار.

حتّى حادثة انتحارها ذات التفاصيل "الشاعريّة"، حيث سدّت منافذَ الأبواب من المطبخ إلى غرف نوم طفليها بفوطٍ مبللة، لمنع تسرّب الغاز، ثمَّ تناولت حبوب المنوم، فتحت غاز فرن المطبخ، وضعت رأسها فيه ونامت للأبد، أمّاً تفكّرُ في أولادها حتّى وهي تغادرُ العالم، على عكسِ "فازيراني"¹ مثلاً.

قد يقول قائلٌ أين الأمومة المثالية لدى أمٍّ تترك أطفالها لمصيرهم في الحياة وتنتحر؟ وهذا صحيح، ربّما كان إفراط بلاث في مثاليتها يدفعها بسرعة، من حيث لا تشعر، لتتّخذ خطوة معاكسة وعدميّة كالانتحار.

عموماً، فظاهرة الانتحار أعمقُ من أيِّ قراءةٍ سطحيّة أو مجتزأة لأسبابها ودوافعها وهي ليست موضوعنا، ما يهمنا هو علاقة سيلفيا بلاث الشاعرة بفكرة الأمومة، ما سيتجسّدُ من خلال قصيدة بعنوان "أغنية الصباح" كتبتها لابنتها فريدا هيوز هذا نصّها: 

وَضَعكِ الحبُّ مثلَ ساعةٍ مُكتنزةٍ من الذهب
صَفَعتْ القابلةُ قدمَيكِ، وعندما بكيتِ
بكاؤكِ أخذَ مكانهُ بينَ الأشياءِ
أصداءُ أصواتنا تُعَظِّم من حدثِ وصولك
وصول النُّصب الجديد 
إلى متحفٍ تذروه الريح العاتية! 

 عُريكِ يُظلِّلُ أماننا
 نقف حولكِ خاويَين كالجدران
 لا أمتُّ لكوني أمكِ بصِلَةٍ
 أكثر من سحابةٍ يتكاثفُ بخارها على مرآتكِ
 ينعكس فيكِ تلاشي السحابةِ البطيءِ على كفِّ الريحِ 

طوال الليل نَفَسُكِ الرقيقُ يرتعش 
وسط الزهور الوردية المستوية
أستيقظُ حينها لأنصت لكِ؛
يتحرك بحرٌ بعيدٌ في أُذُنيَّ عندئذٍ 
مع صرخةٍ واحدةٍ منكِ،
أتعثَّّرُ في السريرِ بثَقلِ بقرةٍ 
وأزهارُ الريفِ ترفلُ في نقشةِ قميصِ نوميَ الفيكتوريِّ
تفتحين فمَكِ الطاهرَ مثل قطَّةٍ، 
نافذةٌ بيضاءَ مربَّعةٌ تبتلعُ نجماتها الباهتاتِ
والآن أنت تحاولين مع ألعابكِ القليلةِ 
أن تتلفظي بحروفٍ واضحة 
تتصاعد كالبالونات.

عائشة العبد الله: تجربتي نصفان

في حديثها مع "الميادين الثقافية" تصف الشاعرة الكويتيّة عائشة العبد الله، وهي أمٌّ لطفلين، أول لقاءٍ جمعَ الأمومة والشعر في جسدها بالقول: "أتذكر أنني عندما حملتُ للمرة الأولى، وما صاحب هذا الحمل من أعراض غريبة ومضاعفات مؤلمة، توقفت عن كتابة الشعر طوال فترة حملي، كانت هذه هي الفترة الأطول في حياتي التي أتوقف فيها عن كتابة الشعر، حتى شعرتُ أنني فقدت قدرتي على الكتابة، ولشدة ما أرعبتني هذه الفكرة، حاولت قتلها بكتابة مذكراتي اليومية، كنت أكتب كل يوم ما مررت به من أحداث مهما بدت تافهة، فقط كي لا تنسى يدي ممارسة الكتابة".

العبد الله: في كل مرة أذهب فيها وراء الشعر أعود بوخزات في ضميري، وفي المقابل كل مرة أتجاهل فيها حاجتي إلى الكتابة لأقضي وقتاً أكبر مع أطفالي أشعر بالغضب الداخلي والرغبة في الهروب. هذا الصراع يتجلى منذ انفصال جسدين بعد أن كانا جسداً واحداً.

انصرف الشعر تاركاً المكان للأمومة، ولكنهُ لم يلبث أن عاد إذ "بعد مرور 9 أشهر، كتبت قصيدة إلى طفلتي. وفي هذه اللحظة تماماً شعرتُ أن حياتي وتجربتي الشعرية قد انقسمت إلى نصفين، قبل الأمومة، وبعد الأمومة. كنت في كل مرة أذهب فيها وراء الشعر أعود بوخزات في ضميري، وفي المقابل كل مرة أتجاهل فيها حاجتي إلى الكتابة لأقضي وقتاً أكبر مع أطفالي أشعر بالغضب الداخلي والرغبة في الهروب. هذا الصراع يتجلى منذ انفصال جسدين بعد أن كانا جسداً واحداً،
ولكن.. أليست الكتابة في النهاية استدعاءً أبديّاً للذاكرة؟ أليس الشعر مرآةً لشقوقنا ولمقاومتنا، ورقعة نرممّ بها فتق أجسادنا؟ أو كما تقول إيمان مرسال²: أليس هذا الشرخ هو هويتنا التي نتحرك بها في العالم؟". 

وشبه الحقيقة أنَّ الهويّة الشعرية لعبة شروخ فعلاً، الأمر معتمد على الرؤيا والرؤية، واخترنا من قصائد عائشة نصّاً بعنوان "أبواب سريّة" كتبَته كما تقول بشخصيّة المرأة الأم: 

كل امرأةٍ تملك بابا سرّياً على هامش قلبها،
باباً تفتحهُ، ينسدل منه بحرٌ  يحملها إلى ضفةٍ أخرى،
باباً يحملُ لها رائحة الدمى القديمة، يسوّرها بأحلامها الناقصة،
يجمع كدماتها التي أخفتها مراراً بين ركام السنين،
ويفرش في حضنها قصاصات الأمنيات المجنونة.
كل امرأة تقتلُ نهارها بالهرب والنسيان،
تنتظر الليل حتى تتظاهر بالنوم، وتهرع إليه.
وكلما هربت منه، أرسل لها مفاتيحه تلوّح لها، 
مرةً عبر هالات سوداء تحت عينيها،
مرةً في أغنية ترددها وهي ترشّ نباتاتها،
مرّةً وهي تشعل البخور، مرةً وهي ترقص وحيدة،
ومرةً وهي تقصّ حكايةً لأطفالها قبل النوم.
تبتسم له، ثم تخفيه بعناية كتعويذة تحت وسائدهم، وهي تعدهُ بقدوم قريب. 

كل امرأة تظن أنك تراها كتاباً مفتوحاً،
ابتلعت يوماً مفتاحاً لباب سرّي. 

هوامش

¹قتلت الشاعرة الأميركية من أصل هندي ريتيكا فازيراني طفلها طعنا بالسكين ثمَّ قطعت شرايينها منتحرة عام 2003.

²إيمان مرسال: شاعرة مصرية