لماذا وجد "التديّن الشعبي"؟

لماذا وُجد "التديّن الشعبي" وكيف؟ حول هذا السؤال وغيره يجيبنا الباحث السوسيولوجي المغربي زكرياء مزواري.

  • زكرياء مزواري
    زكرياء مزواري

"التديّن الشعبي والتغيّر الاجتماعي بالمغرب" (دار رؤية للنشر والتوزيع)، هو عنوان الدراسة التي عمل عليها الباحث في علم الاجتماع زكرياء مزواري صدرت أواخر العام 2020. الباحث المغربي حلّ ضيفاً على الميادين الثقافية التي سألته عن الفرق بين "الدين" و"التدين"، والكامن خلف اهتمام الفكر الكولونيالي بــ "التديّن الشعبي". وهنا نصّ الحوار الذي أجراه معه ميلود لقاح.

نبدأ بتعريف المُصطلح الذي كثيراً ما لفّه الغموض، ما المقصود بــ "التديّن الشعبي"؟ 

من الصعب أن تجد في مجال الإنسانيّات تعريفاً جامِعاً مانِعاً للمُصطلحات التي يوظّفها الباحثون في دراساتهم، بل أكثر من ذلك يتلوَّن المُصطلح الواحد بتحيّزات الكاتب المعرفية.

لذلك، يكون الباحث مُطالباً في بحثه بضرورة تحديد مفاهيمه بدقّة، ويحافظ على المدلولات التي يمنحه إياها طوال دراسته، حتى يكون مُنسجماً مع المُقدّمات التي يراهن على الدفاع عنها.

وفي ضوء هذا، نعود إلى مُصطلحنا المركب من شقّين "التديّن" و"الشعبي"؛ ففي الدراسات الاجتماعية والإنسانية يُميّز الباحثون بين "الدين" و"التديّن"، فالدين عموماً يُشير إلى مجموع التصوّرات والمُعتقدات التي تحمل رؤية للعالم، وهو بهذه الصفة الإطلاقية غير قابل للضبط والقياس والمُقاربة الموضوعية، لذلك تولي السوسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا أو غيرهما من علوم الإنسان والمجتمع أهمية للجانب العملي، وذلك من خلال دراسة الأبعاد التطبيقية للمُعتقدات من دون الخوض في أُسُسها النظرية، قصد فَهْم المعاني والدلالات التي يُضفيها الفاعل الاجتماعي على فعله، ومن هنا يأتي مُصطلح "التديّن".

أما من حيث مُصطلح "الشعبي"، فهو هنا يشير إلى تصنيفٍ لأنماط التديّن، أي لِتَجَلٍّ من تجلّيات هذا "الدين"، وهنا في الغالب – مع تحفّظ في التصنيف - نجد المقصود بالتديّن الشعبي ذاك المزيج من المُعتقدات التي تَشَكَّل عبر تراكمٍ تاريخي طويل، واستطاع أن يُدمج بكيفيّة واسعة عناصرَ مشتركة من ديانات متواجدة في منطقة جغرافية معيّنة.

لماذا وُجد "التديّن الشعبي" وكيف؟ مع أن هناك ديانات سماوية منصوص عليها بأدلّة شرعية؟

  • حوار مع الباحِث في عِلم الاجتماع زكرياء مزواري
    غلاف الكتاب

هذا السؤال يجد جوابه في التعريف الذي قدّمناه سابقاً، ونعود إلى التذكير به نظراً لقُدرته التفسيرية. الدين ليس هو التديّن، فالأول يُشير إلى الشقّ النظري الذي تتألّف منه المُعتقدات والشعائر، بينما يُحيل الثاني إلى الجانب التطبيقي لهذا الدين، أو بعبارة أخرى الصفة الإطلاقية للدين في مقابل التنزيلات الإنسانية الدنيوية له.

ويزداد الأمر تعقيداً حينما نتحدَّث عن الديانات السماوية مُقارنة مع ما يُسمّى بالديانات "البدائية". وأمام هذا الجدل بين المُطلق والدنيوي، أو بين الوحي والواقع، ينبغي التأكيد على مسألة في غاية الأهميّة، وهي أن الدين مهما كان نوعه أو مصدره، فهو في النهاية مرتبط  بكينونة الإنسان، ولا يمكن أن تجد في حضارة من الحضارات المُتعاقِبة على طول التاريخ غياب هذا البُعد.

الدين بهذا المعنى مسألة وجودية يقدّم لهذا الكائن الفاني جواباً لخلاصه. هذا الجدل بين المُقدّس والدنيوي، أو بين المُطلَق والنسبي، أو السماوي والأرضي، هو الذي أفرز تنويعات لهذا الدين على أرض الواقع.

إذا أخذنا الإسلام بصفته ديناً توحيدياً، وتأمّلنا جانبه التاريخي، سنجد أنفسنا أمام "إسلامات" بصيغة الجمع، تبعاً لمُتغيّر الجغرافيا، المجتمع، اللسان، التاريخ، أو الثقافة بصفة عامة. فالدين ليس مُجرَّد كيانات أفلاطونية يسبح في عالم المثل، بقدر ما هو تفاعل بين التمثّلات الدينية والسياقات الاجتماعية، وهنا استحضر قولاً للباحث السوسيولوجي المغربي عبد الغني منديب في كتابه الدين والمجتمع، يقول فيه: "الدلالات السوسيولوجية لتغيّر هذه التمثّلات الدينية تقبع بالضرورة داخل البنية الاجتماعية لهذا المجتمع، هذه البنية التي تتميّز بمرونتها الكبيرة في استيعاب التحوّلات واستدماجها" (ص184-185).  

وعلى هذا النحو، نجد في تاريخ الإسلام مذاهب فُقهية عديدة، وفِرَقاً كلامية كثيرة، وأنماطاً من التديّن، وفهوماً مُتنوّعة، كلها خرجت من عباءة الإسلام.

يُفْهًَم من مُصطلح "التديّن الشعبي" أنه يختلف من شعب إلى آخر، ما هي أهمّ مظاهره؟ وما دوره ومدى تأثيره؟

إذا كان التديّن هو التنزيل العملي للشقّ النظري منه، فإن هذا الفعل لا يتمّ بعفو الخاطر، فهو محكوم بفَهْم مُحدّد للنصّ المؤسِّس، وبواقع تاريخي معيّن، ومُتفاعل مع البنية الثقافية لأيّ مجتمع من المجتمعات التي يسود فيها ذلك الدين. وبذلك، يكون في خانة البدهي أن تجد تنويعات لنفس الدين بين المجتمعات عبر التاريخ، بل أكثر من ذلك قد تجد داخل الوطن الواحد تغيّر المدلولات بين الفاعلين الاجتماعيين لنفس الدال، تبعاً لدرجة التحديث الذي يوجد فيه هؤلاء الفاعلون.

إذا سلّمنا بالتعريف القائل بأن "التديّن الشعبي" هو مزيج من المُعتقدات تَشَكّلَ عبر تراكم تاريخي طويل، يختلط فيه الوثني بالروماني واليهودي مع بعض العناصر المشتركة التي تدمجه بكيفية واسعة بالإسلام، فإن له تمظهرات عديدة في المغرب، وما زال يؤدّي أدواراً كبيرة داخل المجتمع، رغم استهجان الخطابات الدينية العالمة أو السياسية له.

ففي كتابي "التديّن الشعبي والتغيّر الاجتماعي بالمغرب"، أخذت جانباً من جوانب هذا التديّن وأنجزت حوله دراسة علمية مُستعيناً بأدوات منهجية مستمدّة من حقل السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا.

هذه العملية اتّخذت من ظاهرة زيارة الأضرحة مجالاً للدراسة، فركّزت على عيّنة تمثيلية تجمع بين صنف الذكور والإناث، ومن مختلف الأعمار، حتى أرصد طبيعة تمثّلاتهم لفعل الزيارة، والمعاني التي يضفونها على أفعالهم، وأتمكّن من ضَبْط الثابت والمُتحوّل لهذا الضرب من التديّن.

هكذا وجدت أن الأضرحة وزيارتها تتجاوز كونها فضاء دينياً، إلى اعتبارها مؤسّسة أنيطت بها جملة من الوظائف مثل: الوظيفة السيكولوجية (الإحساس بالأمن والسكينة)، الوظيفة العلاجية (علاج الصَرَع -العُقم - الأمراض العقلية والنفسية)، الوظيفة الاجتماعية (طلب الزواج - إبرام العقود)، الوظيفة السياحية (الاستجمام بفضاءات الضريح)، الوظيفة الاقتصادية (الأنشطة التجارية الموجودة بفضاءات الضريح).

وإلى جانب هذه الوظائف التي يضطلع بها النمط من التديّن داخل البنية الاجتماعية، وجدت دعماً رسمياً له، وذلك من خلال اعتناء الدولة في شخص وزارتها المُكلّفة بالأوقاف والشؤون الإسلامية، وهذا الاعتناء قد يتّخذ جانباً مادياً مُتمثّلاً في الهبات السنوية التي تقدّم للمكلّفين بالضريح، أو جانباً معنوياً وذلك في الترويج للفضاء عبر أجهزتها الإعلامية. وفي ذلك إشارة قوية لاحتكار الحقل الديني، وسحب البساط من تحت أية فئة اجتماعية تريد الحديث بإسمه، قَصْد إحداث توازن للقوى الدينية وتحريك أوراقها متى دعت الحاجة إلى ذلك.

تحدَّثت عن اهتمام الفكر الكولونيالي بــ "التديّن الشعبي"، ما طبيعة هذا الاهتمام؟ 

  • "الاستشراق" لإدوارد سعيد

عطفاً على ما سبق، وجدتُ وأنا اشتغل على دراستي كمّاً كبيراً من الدراسات الكولونيالية التي اهتمّت بالظاهرة الدينية. ولكي نفهم الأمر أكثر، ينبغي وضع هذه الدراسات في سياقها التاريخي؛ أولاً: لا يمكن تأطير هذه الأبحاث إلا إذا وضعناها في خانة الاستشراق، أيّ في ذلك الصرح المعرفي الكبير الذي وضعه الغرب لدراسة آداب الشرق وحضارته، وهذه البحوث الاستشراقية يمكن تقسيمها إلى شقّين كبيرين، شقّ اهتمّ بكل ما هو مكتوب من فُقه وفلسفة وتصوّف وعِلم كلام ونحو وما إلى ذلك (الثقافة العالمة)، وشقّ آخر صوّب وجهته نحو كل ما هو شفهي وعملي (الثقافة الشعبية).

ثانياً: ارتبطت هذه الدراسات بالهاجِس السياسي، ذلك أن تمويلاتٍ كثيرةَ صرفت للجانب المعرفي من قِبَل الدول الامبريالية الكبرى لبَسْط نفوذها على دول "العالم الثالث"، وما يعنيه ذلك من تحالف بين المعرفة والسلطة كما برع في تشخصيها إدوارد سعيد في كتابه المشهور "الاستشراق".

لقد راكمت الإدارة الكولونيالية دراسات عميقة عن تركيبة المجتمع المغربي، بفضل مجهودات كبيرة لأسماء وازِنة في الساحة المعرفية آنذاك مثل روبير مونتانْي Robert Montagne والفريد بيل Alfred Bel وشارل دوفوكو Charles de Foucauld وإدموند دوتي Edmond Doutté وجاك بيرك Jacques Berque ولويس ماسينينون Louis Massignon وغيرهم من الأعلام البحثية الكبيرة.

وشملت هذه الدراسات مختلف البنيات المغربية من اقتصاد وسياسة ودين واجتماع، ونالت الأبحاث الدينية مكانة مهمّة عند هؤلاء، نظراً لقوّة هذا المُكوّن في نسيج المجتمع، وقُدرته على ضبط المواقف والأفعال، ولما فيه من تجسيد لذهنيّة الإنسان المغربي من جهة، والابتعاد عن التديّن الرسمي المعياري العالم ذي الدراية بالنصوص، والذي كان ينظر بازدراء بل بتبديع (من البدعة) لذلك النمط من التديّن.

من هذا المنطلق كانت الدراسات الكولونيالية مسكونة بهاجس معرفي، وهو البحث عن "بقايا وثنية" قَصْد الإقرار بوجود ديانة بربرية قديمة سابقة على وصول الإسلام إلى شمال إفريقيا، وأن الدين الجديد لم يستطع القضاء بشكل مُطلق عليها.

ثم تطوّرت الدراسات بعد ذلك، وتجدّدت العدّة النظرية والمنهجية، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث سيكون المغرب هذه المرة محطّ اهتمام من طرف الدراسات الأنكلوساكسونية خاضها باحثون لامعون في مجال السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا من قبيل إرنست غيلنر Ernest Gellner ودافييد هارت David Hart وغيرهم كثير.

هؤلاء كانوا على دراية بالتطوّرات الابستمولوجية التي لحقت علوم الإنسان والمجتمع، وحاولوا تطبيق ما استجدّ من النظريات سواء الوظيفية منها أو البنيوية أو التأويلية، مُتّخذين من "التديّن الشعبي" مجالاً للتطبيق.

وهنا تحضر دراسات وازنة لإرنست غيلنر عن "صلحاء الأطلس"، أو مُقارنة (غيرتز) بين نمط التديّن المغربي والأندونيسي في كتابه "الإسلام مُلاحظاً"، أو دراسة تلميذه ديل إيكلمان لــ "الإسلام في المغرب"... فكل هذه الأعمال كانت مسكونة بهاجس فَهْم المجتمع المغربي، ورصد بنياته وذهنياته، قصد ضبط الثابت والمُتحوّل فيها.

كيف ينظر الخطاب الحَداثي الثقافي إلى "التديّن الشعبي"؟

  • حوار مع الباحِث في عِلم الاجتماع زكرياء مزواري
  • حوار مع الباحِث في عِلم الاجتماع زكرياء مزواري
  • حوار مع الباحِث في عِلم الاجتماع زكرياء مزواري

هذا سؤال مهم، وأهميّته تكمُن في الوقوف عند طبيعة هذا الخطاب الذي وسمته بالحَداثي. وللإجابة عن هذا السؤال، سأكون مضطراً للعودة إلى الجواب السابق الذي ألمحت فيه بشكل مُختصر للدراسات الاستشراقية، وأقول: إن أهمّ ما ميَّز هذه الدراسات – رغم هاجسها الأيديولوجي الواضح - هو انضباط أصحابها للتخصّص، إضافة إلى وجود مؤسّسات أكاديمية تنظّم مجهودات الفِرَق العلمية، طبعاً مع تمويل كبير لها.

هذه الأمور ساهمت في تطوير رؤية جديدة للمكوّن الديني، فالغرب نفسه الذي نصَّب ذاته على الطبيعة، وأعلن عن موت الإله، وفُقدان العالم لطابعه السحري، نتيجة تحالف التقنية والعِلم، هو الآن يُفكّك نظرة الحداثة للدين، ويدعو إلى مراجعة نظريات العَلمَنة، ويناقش مسألة عودة الدين إلى الفضاء العمومي، ويُنشئ مؤسَّسات علمية تهتمّ بالحقل الديني على المستوى العالمي، وقِسْ على ذلك الشيء الكثير.

أما عندنا نحن، فالساحة العربية فيها كلام كثير عن الدين، لكن فيها القليل من العِلم. بل المسألة الدينية فيها شديدة الحساسية، والخائض فيها قد لا يسلم من الشُبْهة والاتهامات، نظراً لتضخّم الخطاب الأيديولوجي. فلو أردنا أن نحصي في المغرب أو حتى في العالم العربي عدد المؤسّسات العلمية - وأقول العلمية وليست المُتلبِسة بلبوس العِلم - المهتمّة بعِلم الأديان أو سوسيولوجيا الأديان أو أنثروبولوجيا الأديان أو فلسفة الدين، فإن النتيجة طبعاً تبعث على التشاؤم والإحباط. وإذا كان الأمر العلمي شبه غائبٍ عندنا، فأنّى لنا أن نرصد الخطاب الحداثي للدين، بل أن نقوّمه؟