مدينة نيما يوشيج

أخفق في وظيفته الإدارية، لإيمانه بأنّ أصابعه قادرة على خلق أعمال خالدة، وتأثر به كبار شعراء إيران المعاصرين. تعالوا نتعرف إلى نيما يوشيج.

  • مدينة نيما يوشيج
    علي إسفندياري المعروف بــ  "نيما يوشيج"

ربما لم یتصور نيما يوشيج وهو يهربُ من مدرسته أو "مكتب القرية" قاصداً النهرَ القريب منها ليجلسَ متأملاً عناصرَ الطبيعة والكون، مختلقاً القصص وناظماً الأشعار تارة على مسمع رفاقه الذين كانوا يشتاقون إلى حكاياه، وطوراً للشجر والمياه والماشية، لم يكن يتصوّرُ بأنه سيَعمُرُ مدينة جديدة معاصرة للشعر، تتركُ أثراً في كلّ من يرِدُها من شعراء الحداثة في زمانه وما بعد زمانه، فلا تعودُ أنماطُهم كما وجدوها أولَ مرّة، وإنما يخرجونَ من مدينة "نيما" وهم قد استووا "نيمائيّينَ" في الأسلوب والنمط، والفكرة!

قدِمَ "أبو الشعر الحديث" علي إسفندياري (1895- 1960) الذي اختار لنفسه اسم نيما يوشيج، من قريةٍ جبليةٍ شماليةٍ في إيران (يوش)، من أبٍ مزارع وراعٍ للمواشي لكن محبٍّ للفكر والعلم. ونشأ بروحٍ حرّةٍ تصبو للهروب من كل ما يقيّدها وكثيراً ما تلقّى التأديب بكافة الوسائل سواء في المدرسة أم في المنزل.

تجلّى تأثيرُ الطبيعة والبيئة التي نشأ فيها نيما في أشعاره واستعاراته، حتى زخرت قصائده بتضاريس مازندران الشمالية، وبمرادفات الجبل والسهل والكهف والمطر والغيم والبرد والغابة والبحر والشجر والراعي والأغنام وغيرها.

ويمكن القول إن هذه هي الانقلابة الأولى لنيما على الشعر الكلاسيكي، حيث لا يمكن التنبّؤ بمحيط عيش الشاعر وحياته من خلال كلمات القصيدة، إلا في حال ذكر أسماء الأماكن. بينما نرى تأثير المناخ والجغرافيا بشكل أكثر جلاء في أنماط الشعر الحديث. يقول في قصيدة "ذاك الذي يبكي":

يزأرُ الماءُ في مخزنِ الجبل

الجبالُ حزينة

يلتفُّ الغيم، رطبٌ ثوبُه

ومن أسفل الوادي، یطلُّ 

مثلَ شابٍّ خائف (*)

ربما تأثر نيما بمحيطه البيئيّ وطبيعة قريته الخلابة، المشهورة بزراعة الأرز والثوم وبطقسها البارد والرطب طوال العام وأهلها الذين يبتسمونَ على الدوام ويحبون الفرح، يشبه إلى حدٍّ كبير تأثّرَ فيديريكو غارسيا لوركا بطبيعة غرناطة التي وضعت في قصائده كبير الأثر، حتى يشعر القارئ بتفاصيل غرناطة الجميلة وبليلها وشتائها وصيفها من خلال كلمات أشعاره، وهذا ما يظهرُ جليّاً عند لوركا حين يقول: 

في القمر الأسود

قمر قاطعي الطريق

تغني المهاميز

أيها الحصان الأسود

إلى أين تذهبُ بفارسك الميت؟

ويقول:

لا برتقال في البحر

ولا حبّ في إشبيلية

يا سمراءُ أي نورٍ من نار!

أعيريني مظلتك.

وتظهرُ ملامحُ قرية نيما الشمالية في قصيدته التي تجمعُ بين كلاسيكية القالب الطبري الفارسي- حيث تكون القوافي منسجمة مع اللهجة الطبرية الشمالية - وبين حداثة الصور الشعرية التي تبوح بموطن الشاعر وطبيعته ولغته.

  • نيما يوشيج
    نيما يوشيج

يقول نيما في قصيدة "ري را" (وري را هي كلمة يردّدُها الراعي في القرى الشمالية، تحديداً مازندران حينما تضيعُ إحدى بقراته، وعند سماع البقرة لهذه الكلمة تأتي إلى راعيها على الفور، وري را تعني "انتبِه أو كن صاحياً"):

"ري را".. ثمةَ الليلةَ صوتٌ ما

من خلف "السروة" حيث البحرُ

يرسمُ للعينِ بريقًا أسود

لتذبذُبِ مشهدٍ غامض

كأنّ أحدًا ما ينشدُ

لكنّه ليس صوتَ بشريّ

لقد سمعتُ أصواتَ البشر

بدقّتي الخاطفة

في تجوالِ الليلِ الثقيل؛

أثقلَ من أشجاني

وقد انتهيتُ كليًّا

من أناشيد البشر

كانوا ينشدونَ

ذاتَ ليلةٍ في قاربٍ مشتاق؛

حتى أني مازلتُ إلى اليوم

أرى هيبةَ البحرِ في منامي

ري را. ري را ... (*)

لكنّ نيما اضطرّ بعد سنوات عدة، إلى ترك قريته قاصداً المدينةَ بعدما وجدَ أنّ طريق العلم هو ما سيغنيه عن الأصدقاء الذين طغى حسدُهم لمواهب نيما على حبّهم له، فتركوه جميعاً وابتعدوا عنه. وقد شكّلَ هذا الأمر منعطفاً مؤثراً في قرارات نيما وحياته الأدبية. فكان أن فتحت أمامه أبواب العلم والثقافة واللغات في المدينة، حتى تبلورت شخصيته الأدبية وبدأ شعره يتخذ الشكلَ المكتمل والأسلوب الخاص به. 

أما في الحديث عن سياق الشعر وعنصر التجديد في لحظة نيما يوشيج، فلا يمكن إنكار ثقافته الواسعة وتحصيله في المدرسة الفرنسية في طهران، ما سهّلَ اطلاعه على الشعر الفرنسي في زمانه لا سيما أشعار من هم من جيله أو الجيل الذي سبقه من أمثال شاتوبريان، لامارتين، بودلير، رامبو، مالارميه وبول فاليري.

كما كان تأثره بالأدب الروسي كبيراً، من تولستوي إلى دوستويوفسكي وتشيخوف وغوركي،.. من جهةٍ أخرى، لم يستطع نيما أو لم يشأ – إذا صح التعبير- الخروج من روح الشعر الطبري المازندراني الذي ينتمي إليه، ومن الشعر الكلاسيكي خاصة النظامي منه (نظامي كنجوي)، رغم انتقاده للشعر الكلاسيكي وإخفاقه في ما كان يسميه "تقليداً" للشعر القديم وليس شعراً. 

هذه الطبقات الأربع، الشعر الفرنسي والروسي والمازندراني والكلاسيكي، أحدثت خلخلة واضحة في ملامح القصيدة النيمائيّة، لتخلقَ طبقة أو قشرة جديدة مبتكرة تتمتع بالأصالة بذاتها، هي الشعر الحديث بحلّته الجديدة التي كسرت القوالب التقليدية للشعر. فوجدنا نيما الذي كان يهرب في طفولته من المدرسة، ويهرب في شبابه من التساوي الطولي بين المصراعين، فتفلّتت قصيدته من الوزن العروضي، مبتكراً نسيجاً جديداً من اللغة الشعرية، وحبكة جديدة للقصيدة العمودية، كل ذلك لصالحِ "الفكرة" وعمق المعنى في القصيد ودقّة الصورة الشعرية، حيث تُستقى الصور البكر مباشرة من الطبيعة وعناصرها، من خلال تفعيل وتعزيز الحدس الإنساني والخيال الخلّاق. 

  • ربما تأثر نيما يوشيج بمحيطه البيئيّ وطبيعة قريته الخلابة
    ربما تأثر نيما يوشيج بمحيطه البيئيّ وطبيعة قريته الخلابة

غالباً ما تعرّض نيما للانتقاد اللاذع والتنمّر على ما أحدثَه في القصيدة الكلاسيكية من أنصار التقليد في الشعر، لكنه مضى قدُماً في طريقه الذي اختاره عن يقين وشغف، بعدما أخفق في الوظائف الإدارية التي حاول إطاعة والديه والالتزام لها، لإيمانه العميق بأنّ هذه الأصابع التي تقوم بترتيب الأوراق والملفات في الدوائر الرسمية قادرة على خلق أعمالٍ فكرية وأدبية خالدة، ولأنّه عدّ نفسه مكلّفاً بالعمل بما وهبه الله من مقدرة ومواهب وليس أيّ شيء آخر. فقد حلّقَ عالياً في هروبه من تقاليد المجتمع والأدب، فارضاً على البقيّة احترام نمطه الجديد. نجده يعبّر في قصيدة "قصة شاحبة": 

لستُ أدري لمن أشرحُ حالي

قصتي شاحبةٌ، باهتةُ اللون

كلُّ مَن رافقني وسارَ معي

كان مصيرُه الجنونُ والاختلال

قصتي تدمي قلوبَ العاشقين

وفي النهاية تُفقدُ القارئَ صوابَه

هي نارُ الحبِّ إن نالت من أحد

أحرقتهُ وحُرقةُ الحبِّ تَلظّى (*)

تأثر بنيما كبار الشعراء المعاصرون في إيران، حتى سميت الشاعرة سيمين بهبهاني بــ "نيما" الغزل الفارسي، كما تجلت النيمائية في شعر أحمد شاملو، وسهراب سبهري، وفروغ فرخزاد، ومهدي أخوان ثالث وآخرين. 

ربما اختارَ علي إسفندياري لنفسه إسمَ نيما، لأنّ "نيما" تعني الطبيعة، ولأنّه إسمٌ تاريخيٌّ قديم، وإسمٌ لجبل عتيق. لعلّها رمزية ثلاثية تحمل عشق نيما للطبيعة والتاريخ والأصالة.. فأيّ مدينة هي هذه، مدينة الكلمات والقوافي التي شكّلها نيما بأصابعه وخياله!

*قصائد نيما يوشيج الآنفة من ترجمة مريم ميرزاده