نظامي كنجوي.. ابن کنجة العاشق ترك لنا كنوزه الخمسة

أعاد صياغة حكاية "مجنون ليلى" شعراً بأكثر من 10 آلاف بيت، وخلدت إيران ذكراه.. تعالوا نتعرف إلى نظامي كنجوي.

اسمه الياس بن يوسف بن زكي بن موئد، لكنه اختار لنفسه اسم نظامي الذي كان يختتم فيه أبياته الشعرية. أما اسم كنجوي فيعود إلى أصوله من مدينة كنجة الإيرانية والتي لم يغادرها طوال حياته إلا مرةً واحدة. 

ترحلُ زوجته الأولى وحبّه الأول "آفاق" التي كان يعشقها في عمر مبكّر، حيث يذكرها في ديوانه "خسرو وشيرين" تلميحاً قائلًا: 

فلتأخذنّ من هذه القصة عبرةً

وليذهب بك الظنّ بعيدًا وأنت تقرأها

فذرفُ الدموعِ شرطٌ من شروط قراءتها

ونثر ماء الوردِ المضمّخ بالأسى، على قبر شيرين

فحياتها كانت قصيرةً كومضة

وردةٌ اقتلعتها الرياحُ في عزّ الصبا

وجهها كان جميلًا كوجه معشوقتي المعبودة

حتى ليخيّل أنها هي هي "آفاقي"[1]

ويتزوّج بعد ذلك مرتين وله ولدٌ وحيد من آفاق اسمه محمد. ربما يمكن تقصّي أثر الروح الكنجوية في أعمال الكثيرين من رواد الشعر والأدب الفارسي مثل خواجوي الكرماني، وعبد الرحمن الجامي والدهلوي وآخرین. غير أنّ الشاعر نظامي كنجوي كان من الشعراء المبتكرين في زمانه. فقد تميّز بإعادة صياغة حكاية مجنون ليلى في ديوانه "ليلى والمجنون" باللغة الفارسية رغم أنّ أحداثها كانت كما هي في التراث العربي القديم.

ويقوم نظامي كنجوي (1140 - 1203) بنظم القصة في 10 آلاف بيت، ويعدّ النقّاد أن ما قام به الشاعر في الواقع هو أنه جعل من أخبار المجنون المتناثرة بناء متماسكاً لقصة عاطفية فارسية تختلف بعض الشيء عن القصة الأصلية، حيث تتحول البيئة البدوية إلى أخرى حضرية تلائم الشاعر وجمهوره [2]. 

 تميّز كنجوي بإعادة صياغة حكاية مجنون ليلى في ديوانه "ليلى والمجنون" باللغة الفارسية، رغم أنّ أحداثها كانت كما هي في التراث العربي القديم.

من هنا، يمكن القول إنّ كنجوي كان مبتكراً ومبدعاً في النمط والأسلوب وروح القصص في سرده حكاية عربية بالطريقة التي تجعل قرّاءه من الجمهور الفارسي، يشعرون ويصدّقون بأنها كتبت من عمق حضارتهم وثقافتهم الفارسية. ذلك أنّ عناصر شتّى تتداخلُ في أبياته في هذا الديوان تحديداً، فنرى مع كلّ بيت مشهديّة بارزة الألوان والأشكال كما لو كانت القصيدة لوحة شاخصة أمام بصر القارئ الذي يستحيلُ ذوّاقاً للريشة من دون أن يشعر. يقول فيها: 

وبينما ليلى تسرّحُ خصلةَ شعرِها

كان الدمعُ ينهمرُ من عينِ المجنون درةً درّة

وبينما هي تعبرُ الغاباتِ غابةً غابة

يتقلّبُه الشوقُ احتراقاً 

وحين ابتلَّتِ الهُدبُ بالعبرات

توجّهَ المجنون إلى نسيمِ الصبا

قم يا نسيمَ الصبا في هذا الصباح

قم وتأرجح على خصلة شعرها الأسود [3]

يجمع نمط كنجوي الشعريّ ما بين الخراساني والعراقي، مع غلبة النمط العراقي في شعره، والذي يتّخذ قالب المثنوي بمعظمه. يتميزّ شعره بكثافة الصور الخيالية، وتوظيف التركيبات العربية والأمثال المتداولة، والتمثيلات البديعة، وذكر الفلاسفة القدامى في العالم، لا سيما فلسفة ما قبل سقراط، وصولاً إلى التأثر بالعرفان الإسلامي والإيراني خصوصاً. وعرفت أعمال كنجوي الأبرز بالكنوز الخمسة أو "الخمسة" وهي: "مخزن الأسرار"  3400 بیت، "خسرو وشیرین" 7700 بیت، "لیلی والمجنون" 5100 بیت،"بهرام نامة" (التماثيل السبعة) 5600 بیت، "اسکندرنامة" 7100 بیت.

تتجلّى الروح العرفانية النظامية في مقدمة مخزن أسراره حيث يقول: 

وجدَّ العقلُ في السفر، لكنه لم يتعرّف عليه، 

وجدّ البصرُ في البحث عنه، لكنه لم يجد من يشبهه

ودخل العقلُ قائلًا "لقد طلبتُه"- وكان هذا تجاوزاً منه - فأدّبتُه

وقد لحقت بنا كل الكائنات في البحث عنه

فطيور السدرة تحلّق بحثاً عنه، ويدقُّ سالكو درب السماء نفس الباب كذلك

وكما ترتدي السماء طوق عبوديّته، فإن قلب الأرض مفعمٌ بحبّه 

ويدّعي القلب – الذي هو أطهر من الروح - أنه تراب أعتابه

وتتضاءل جنةُ إرم أمام عشب نما على أعتابه

وما تراب نظامي – الذي يحيا بتأييده - إلا مزرعة لبذور توحيده [4]

ويعدّ "مخزن الأسرار" كتاباً في العرفان وفي الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، لما يحمله من تعقيد في الكلام المنظوم والتمثيلات الوازنة والفاخرة. كتبَ نظامي القصّة وتبحّر في علم النجوم والرياضيات، مما يفسّرُ تأثره بهذا العلم في أبيات كثيرة له منها:

وانفض غبار الليل عن جبهة الفلك

ومُر الجبهةَ بالسقوط والأخبية بالتواري

حطّم النمط، وحرّر رقبة الفلك من الحركة والسكون..

وأحرق دفتر المنجّمين ...

وأخلِ هذا البرج من مدار القمر..

حمل كنجوي من بحر كلّ علم ومجال قطرة ساهمت في إغناء شخصيّته، حتى عرف عنه أنه أثّر بالكثيرين لكن لم يكن في حياته مقلّداً لأحد أو على خطى أحد، على رغم تأثره بالشاعر سنائي الغزنوي، حيث تتجلّى الروح الأخلاقية العالية في أسلوب الشاعرين، لا سيما في نظم "مخزن الأسرار" الذي يعدّ من أكثر أعمال نظامي تعقيداً وصعوبة. كما يمكن القول إن كنجوي تأثر كذلك بالشاعر الفردوسي والأنوري. 

أشهر الذين حققوا في الأدب الكنجوي كان ويلهلم باخر الذي كتب قرابة 132 صفحة عن نظامي حيث طبعت أطروحته بعنوان "حياة نظامي وأعماله" عام 1871، وهي دراسة تعدّ مصدراً ومرجعاً رئيساً من الناحية العلمية والمنهجية.

يجمع نمط كنجوي الشعريّ ما بين الخراساني والعراقي، مع غلبة النمط العراقي في شعره، والذي يتّخذ قالب المثنوي بمعظمه. يتميزّ شعره بكثافة الصور الخيالية، وتوظيف التركيبات العربية والأمثال المتداولة، والتمثيلات البديعة، وذكر الفلاسفة القدامى في العالم، لا سيما فلسفة ما قبل سقراط، وصولاً إلى التأثر بالعرفان الإسلامي والإيراني خصوصاً.

کما کتب المستشرق الألماني والمتخصص في التصوف والعرفان العربي والفارسي هيلموت ريتر، حول كنجوي كتاباً بعنوان "اللغة الخيالية عند نظامي الكنجوي"، يقدّم فيه الباحث دراسة حول مكانة الإنسان والطبيعة في أعمال كنجوي، عارضاً لآراء شعراء وفلاسفة كبار مثل غوته وإرنست كاسيرر حول الفكر الأسطوري. كما يقدّم ريتر عرضاً للعنصر الجمالي في ديوان "خسرو وشيرين" حيث التوصيفات الجمالية تتجلّى في استعارات وظّفها نظامي في أبياته بشكل بديع. 

كذلك قدمت أعمال جوزيف فون هامر صورة عن الأدب الكنجوي للأوروبيين، حيث جاء في كتاب "هامر" نماذج من أعمال نظامي كنجوي المترجمة إلى اللغة الألمانية بشكل ملخص نثراً وشعراً. رغم ذلك، فإنّ ترجمات "هامر" لم تكن قادرة على عكس عبقرية نظامي كنجوي الحقيقيّة، إلا أن غوته، عبقري الشعر الألماني، أشاد بنظامي كنجوي ووصفه بأنه "شاعر ذو معنوية وشاعر موهوب" في كتابه "الديوان الغربي الشرقي" ردّاً على الأمثلة غير الوافية التي قدمها هامر في كتابه "تاريخ الأدب الفارسي" [5]. 

يقول كنجوي في ديوان "خسرو وشيرين": 

ها دخانُ حرقتِكِ يرتفعُ من تلك النار

لا ينفعُكِ الندمُ الآنَ يا شيرين

ذاك الملاكُ السعيدُ الآن في السماء

تركتِهِ وبحثتِ عن سعادتِكِ في مكانٍ آخر [6]

ما بين الرومنطيقيّة العميقة، وتجليات التماهي الوجداني مع الطبيعة والألم، والعبقريّة في تصوير القصائد رسماً وموسيقى مثنويّة، يبقى هذا الشاعر العظيم رائداً في نمطه وأسلوبه، وجديراً بأن يكون شاعر الكنوز الخمسة الذي ترك ميراثاً زاخراً في منطقته والعالم، الذي ينتظر المزيد من الترجمة لأعماله الخالدة. 

المصادر

[1] الحكيم نظامي الكنجوي في حياته وآثاره، دلال عباس، مجلة الدراسات الأدبية، ع102، ص260
[2] ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي، إبراهيم عوض، مجلة الألوكة الأدبية واللغوية الإلكترونية
[3] ترجمة مريم ميرزاده
[4] مخزن الأسرار، نظامي الكنجوي، ص14-15
[5] دراسة تراث نظامي كنجوي، مركز الترجمة الحكومي الآذربايجاني
[6] ترجمة مريم ميرزاده