بين المعجزة الهندسية والقراءة التاريخية.. الأهرامات أي سر؟

حين يتأمل المرء أهرام الجيزة، يطرح السؤال البديهي: كيف تمكّن المصري القديم من تشييد صروح شامخة ودقيقة قبل أكثر من 4500 عام بلا تقنيات حديثة؟ فذلك لم يكن مجرد إنجاز معماري، بل هو لغز حضاري حيّر العلماء، وجعل الأهرام رمزاً للخلود والعبقرية الإنسانية.

0:00
  • صورة جوية لأهرامات مصر
    صورة جوية لأهرامات مصر (Dario Morandotti)

تظل أهرامات الجيزة في مصر، وخاصة الهرم الأكبر "خوفو"، أحد أكثر المعالم المعمارية التي حيّرت علماء الآثار والمهندسين والباحثين على مدار قرون.

فهذه الهياكل، التي شُيّدت قبل نحو 4500 عام، تمثّل نموذجاً لا مثيل له في دقة البناء والتخطيط الهندسي، ما يطرح سلسلة من الأسئلة حول مدى مهارة المصريين القدماء وطرقهم في تحقيق مثل هذه الإنجازات بدون الأدوات الحديثة، أو حتى معرفة المبادئ العلمية الدقيقة.

الهندسة والدقة في البناء

أحد أكثر جوانب الأهرامات إثارة للدهشة هو دقتها غير المسبوقة. الهرم الأكبر، الذي يبلغ ارتفاعه الأصلي 138.8 متراً، مستوٍ تقريباً على جميع جوانبه، على الرغم من عدم توازيه التام.

وأظهرت دراسة نشرها عالم الآثار والمهندس الأميركي جلين داش في عام 2017، أن محاذاة الأهرامات مع النقاط الأساسية كانت دقيقة جداً، وإن كانت تميل قليلاً عكس اتجاه عقارب الساعة.

وقد اكد داش أن المصريين استخدموا تقنيات بسيطة تعتمد على الظلال خلال الاعتدال الخريفي، حيث يمكن رسم خط مستقيم من الشرق إلى الغرب باستخدام عمود وخيط لتحديد مواقع الظلال بدقة. هذه الطريقة، رغم بساطتها، كانت كافية لضمان دقة مدهشة في محاذاة هذه الهياكل العملاقة.

  •  صفحة داش
    المصريون استخدموا تقنيات بسيطة تعتمد على الظلال خلال الاعتدال الخريفي (Glen Dash)

هذه النتائج تعكس مستوى فهم المصريين القدماء لعلم الفلك والهندسة، من دون الحاجة إلى أدوات ميكانيكية متقدمة أو أجهزة قياس حديثة. فهي تدل على قدرة فكرية وابتكارية غير مسبوقة، في زمن لم يكن يعرف سوى أدوات النحاس والخشب والحبال، وهو ما يجعل الأهرامات نموذجاً للفكر العلمي العملي المبكر.

مصادر المواد وأساليب النقل

إلى جانب الدقة الهندسية، يطرح السؤال حول كيفية نقل الأحجار الضخمة المستخدمة في بناء الأهرامات.

دراسة حديثة لعالم الجغرافيا الطبيعية هادر شيشة من جامعة إيكس مرسيليا الفرنسية، بالتعاون مع الدكتور حسين عبد البصير، كشفت أن المصريين استغلوا مجاري مائية متفرعة من نهر النيل، لم تعد موجودة اليوم، لنقل الأحجار من المحاجر إلى مواقع البناء.

  • Glen Dash Foundation
    Glen Dash Foundation

أمّا الأحجار المخصصة للكساء الخارجي فكانت تأتي من منطقة طرة شرق النيل، بينما كانت أحجار البناء الأساسية من صخر هضبة الجيزة نفسها.

كما استُخدم النحاس المستخرج من سيناء لتصنيع الأدوات اللازمة للأعمال الإنشائية، بما في ذلك المركب الشهير الخاص بخوفو، وهو دليل على أن المصريين لم يبتكروا فقط طرق النقل، بل نظّموا سلسلة لوجستية متكاملة لإدارة مشروع ضخم بهذا الحجم.

البنية الاجتماعية والأهرامات

البحث الأثري الحديث لم يقتصر على دراسة البناء فحسب، بل امتد لفهم المجتمع الذي شيد هذه الهياكل.

ففي دراسة نُشرت في مجلة Journal of Anthropological Archaeology، اكتشف علماء آثار هولنديون وأميركيون أن مقابر الأهرامات لم تكن مخصصة للنبلاء فقط، بل احتوت أيضاً على هياكل عظمية لعمال وحرفيين من الطبقات الدنيا.

هذه الهياكل أظهرت علامات الإجهاد البدني نتيجة الأعمال الشاقة، ما يشير إلى أن هؤلاء العمال ساهموا فعلياً في بناء الأهرامات، لكن تحت رعاية ونفوذ النخبة.

 الاكتشاف المذكور يعيد النظر في تصورنا التقليدي عن المجتمع المصري القديم، الذي كان يُعتقد أنه مقسّم بشكل صارم إلى طبقات متباينة، ويكشف عن وجود مستوى من التقدير المتبادل بين النخبة والطبقات العاملة، على الأقل في نطاق محدود.

الشكل المقعّر للأهرامات

من الناحية الهندسية، أظهرت دراسة يابانية حديثة بقيادة الباحث الياباني أكيو كاتو أن الأهرامات الكبرى ليست هياكل مربعة تقليدية ذات أربعة وجوه، بل هي أهرامات مقعرة ذات ثمانية أوجه عند النظر إليها من الأعلى.

هذا التقعر الطفيف على طول خط كل وجه من القاعدة إلى القمة يعزز الاستقرار البنائي للهياكل، ما يوضح أن المصريين القدماء لم يقتصروا على تحقيق الدقة فقط، بل فكروا أيضاً في الديناميكيات الطبيعية، مثل الضغط الجاذبي والزلازل، لضمان بقاء الهياكل صامدة لآلاف السنين.

الأساطير والاكتشافات المثيرة للجدل

على الرغم من كل هذه الأدلة العلمية، ما زالت الأهرامات محاطة بالأساطير، مثل قاعات آمونتي، التي يُعتقد أنها تحتوي على أسرار وخزائن معرفية مخفية. مؤخراً، ادعى فريق بحثي إيطالي-أسكتلندي اكتشاف مدينة تحت الأهرامات باستخدام رادار ذو فتحة صناعية، وهي ادعاءات لم تحظَ بقبول علمي.

خبراء مثل البروفيسور لورنس كونييرز أكدوا أن الرادار لا يمكنه اختراق أعماق تتجاوز بضعة أمتار تحت الأرض، وأن الاعتماد على مثل هذه التكنولوجيا للوصول إلى آلاف الأقدام غير علمي.

  • Glen Dash Foundation
    Glen Dash Foundation

كما أشار جمال العشيبي، الباحث الفرنسي، إلى أن البيانات المعلنة تفتقر إلى الشفافية والمنهجية العلمية، ما يجعلها غير موثوقة. هذا يسلط الضوء على الفرق بين الحقائق التاريخية المؤكدة والتفسيرات الأسطورية التي تغذي الخيال الشعبي، وهو تذكير بأهمية النقد العلمي في دراسة الحضارة المصرية القديمة.

إن بناء الأهرامات لم يكن مجرد مشروع هندسي، بل كان مرتبطاً بمفاهيم عميقة، خاصة العبادة الشمسية ونظرية خلق الكون وفق مدرسة هليوبوليس. فكرة الهرم كانت تمثل "الأرض الناهضة" التي تتلقى أشعة الشمس، وهو تفسير رمزي لدور الملك كحلقة وصل بين الأرض والآلهة.

كما أن استخدام الحجر الجيري في الكسوة الخارجية وغرانيت أسوان في هرم منكاورع يعكس فهم المصريين للمواد وتوظيفها لتلبية متطلبات الطقوس والرمزية الدينية، وليس فقط لأسباب هندسية أو عملية.

الجهود للحفاظ على الأهرامات

على مرّ العصور، كادت الأهرامات تتعرض للهدم أو إعادة استخدام أحجارها في منشآت أخرى، كما حدث في خطة محمد علي باشا لبناء القناطر الخيري مثلاً.

ومع ذلك، ساهمت النصائح الهندسية الدقيقة التي تلقاها المسؤولون، إضافة إلى وعي بأهمية الحفاظ على التراث، في إنقاذ هذه المعالم. وهذا يوضح أن القيمة المعمارية والثقافية للأهرامات كانت معروفة منذ قرون، حتى قبل ظهور عِلم الآثار الحديث.

الأهرامات بين الواقع والخيال

تظل الأهرامات المصرية علامة بارزة على براعة المصريين القدماء، من حيث الهندسة، والتنظيم الاجتماعي، والفهم الفلكي، والدوافع الدينية.

فهي ليست فقط مقابر ملكية، بل نماذج متقدمة لإدارة مشاريع ضخمة تشمل التخطيط اللوجستي، واستخدام الموارد الطبيعية، وفهم البيئة المحيطة.

  •      News Anthropology
            Anthropology News

كما أن الدراسات الحديثة حول العمال وحياة النخبة والطبقات الدنيا تفتح نافذة لفهم المجتمع المصري القديم بشكلٍ أكثر تعقيداً وواقعية، بعيدًا عن الأساطير أو التفسيرات المبالغ فيها.

وبينما يواصل العلماء استكشاف أسرار الأهرامات، فإن كل اكتشاف، سواء كان هندسياً أو أثرياً أو بيئياً، يعيد تشكيل فهمنا لهذا التراث العالمي.

ومن الواضح أن الأهرامات لم تُبن بالصدفة أو بتدخل قوى خارقة، بل كانت ثمرة معرفة دقيقة، وتخطيط محكم، وجهود متضافرة عبر أجيال، وهو ما يجعلها واحدة من أعظم الإنجازات البشرية في تاريخ الحضارات.

اقرأ أيضاً: اكتشاف جديد حول الأهرامات المصرية يناقض المعتقدات القديمة

اخترنا لك