خانات تراثية قديمة على شاطئ "الميناء" اللبناني
آخر الخانات على الساحل الطرابلسي اللبناني هما خان الإسفنج وخان التماثيلي، وهما من بقايا الزمن الماضي، ضربهما الإهمال، وصار كلّ منهما مأوىً لعائلات متشرّدة لا تملك منازل، ولا قدرة لها على الاستئجار.
-
مدخل خان التماثيلي
أدّت الخانات دوراً تاريخياً هاماً، خصوصاً في الصلة مع الخارج، وتؤشّر مخلّفاتها، ووثائقها إلى صورة الحياة الاقتصادية، والتجارية في عصرها، خصوصاً زمن المماليك والعثمانيين.
آخر الخانات على الساحل الطرابلسي اللبناني هما خان الإسفنج وخان التماثيلي، وهما من بقايا الزمن الماضي، ضربهما الإهمال، وصار كلّ منهما مأوىً لعائلات متشرّدة لا تملك منازل، ولا قدرة لها على الاستئجار.
كان هذان الخانان بحريّين، وكانت الأمواج تتكسّر عندهما، وذلك حتى أواسط ثمانينيات القرن الماضي قبل أن تعمد بلدية الميناء إلى ردم البحر وإقامة الكورنيش الذي بات يحيط بالمدينة من جهات ثلاث: شمال، وغرب، وجنوب، ليحوّل وجهتها من تجارية بحتة، إلى تجارية سياحية بامتياز.
أقيمت الخانات زمن المماليك، وربما قبل ذلك، لاستضافة الوافدين من الخارج إلى المدينة، وأدّى الخان دور الفندق الحالي، مع تلبية حاجات تلك المرحلة، منها العناية بالدواب للوافدين براً.
أما الوافدون بحراً، فقد كانوا إجمالاً من التجار، أو القناصل، أو موفدي الدول من الخارج، يقصدون المدينة لما أداه مرفأها من دور تجاري كبير في عصور مختلفة، فكانت طرابلس مدينة تجارية مزدهرة على مرّ العصور.
يصل مركب أو سفينة إلى نقطة في البحر، وبحسب الحجم وعمق المياه، يتوقّف لينتقل الركاب بالزوارق الصغيرة إلى الخانات مباشرة، وربما دخل الزورق إلى داخل المبنى إذا كانت المياه تصل إلى باحاته، كما في قصر غازي القريب من الخانين.
خان الإسفنج: غرابة عمرانية
مبنى مستطيل يفصل بينه وبين مياه البحر كورنيش الميناء الحديث، ولا يوحي شكله أنه خان على الطريقة التقليدية التي اتسمت بها بقية خانات المدينة التي ناهزت الستين.
ولطالما أثار الخان تساؤلات المواطنين عن نوعه، ودوره، وغرابته العمرانية.
إلّا أن موثّق الميناء بتفاصيله، الدكتور جان توما، عرّف المبنى، وتحدّث عن دور له منذ العام 1860 ، ذلك أنّ تاريخ بنائه مجهول، وقال لـ الميادين نت إنه "خاصّ لتجار الإسفنج الوافدين من أوروبا، ينزلون فيه لشراء مواسم الإسفنج من بحّارة الميناء يوم كان بحر طرابلس يعجّ بهذا الإنتاج البحري، وكان بحّارة الميناء يسعون إليه في النصف الأول من القرن التاسع عشر".
-
خانات الإسفنج حالياً
بحارة الميناء كانوا يعرفون ثرواتهم البحرية وقيمتها، وسعوا للحفاظ عليها محترمين دورة الحياة تحت الماء، وذلك "قبل أن تقضي الحرب العالمية، والحرب اللبنانية، والصيد بالديناميت، ومصبّات المجارير على الثروة البحرية، فتنقرض التوتياء، والإسفنج، وتوابعها في غياب السياسة الزراعية البحرية المستدامة"، بحسب توما.
ويروي توما أنه ذات مرة، دفع ازدحام صيادي الإسفنج، وبعد مخاطر تعرّضوا لها في إبحارهم، ثم نجاتهم من عاصفة شبه قاتلة، إلى بناء كنيسة باسم النبي إلياس، عام 1861، وجعلوا قناطرها الخارجية بوصلة استدلال لخط عودتهم من عمق البحر، وما زالت الزوارق حتى اليوم تتخذ من جدران الكنيسة اتجاه عودة آمنة وسالمة.
عند الخان، وتحته على الشاطئ، أقيمت احتفالات أربعاء أيوب، حيث ينزل الناس ليتناولوا طعاماً بسيطاً احتفاءً بالمناسبة، في وقت ينزل الأطفال جورتَي "المطران" و"العبد" تعلّماً للسباحة، وتمريناً على "الشكّات" (الغطس)، الخاصة بأهل الميناء.
-
خان الإسفنج قبل ردم البحر
ويذكر توما أنّ أهل هذه المنطقة قبل العمران فيها، كانت معروفة باسم عائلتي "مابرو" و"يزبك"، وأفاد أنه "هنا كانت تدور معارك السفن الحربية الوافدة أو الهاربة في القرون الغابرة. لذا كانت هذه المنطقة تعجّ بأعمدة الغرانيت على شاطئها، وقد رفع بعضها على مدخل الميناء وفي بعض الأماكن تأكيد العمارة في المدينة منذ أيام الفينيقيين وصولاً إلى اليوم".
وفي تعمّق أكثر بالخان، قال إنه "ليس بالخان المتعارف عليه هندسياً، والأصحّ القول إنه أقرب إلى منزول تجار الإسفنج في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولا يزال في حالته السابقة تمتد أمامه ساحة كبيرة".
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنذ الخمسينيات، انتفى عمله كخان لاستضافة تجار الإسفنج، لأنّ تجارته كانت تتمّ على هذا الساحل وصولاً إلى كنيسة النبي إلياس، زهاء مئتي متر أبعد من الخان لجهة الشمال، وتحوّل إلى غرف إقامة لكثير من العائلات".
خان التماثيلي: مقر السفراء والقناصل!
أدّى خان التماثيلي دور بقية الخانات المملوكية وأهميته أنه جار لمرفأ المدينة التاريخي، يستقبل الوافدين بحراً من الأماكن كافة، خصوصاً من دول البحر المتوسط، بينما كان التجار والزوار من الشرق يفدون إلى المدينة عبر البر شرقاً، وتخزّن فيه البضائع المستوردة والمصدّرة عبر المرفأ، وكان مقراً للسفراء والقناصل لقرون مضت.
يتميّز خان التماثيلي بخصائصه المعمارية التي اشتهر بها المماليك، والمتمثّلة في المقرنصات والتجويفات التي تعلو الزوايا الأربع للخان في الرواقات العليا.
وهو من طبقتين، تشكّل الأولى منهما مستودعاً للبضائع، ومَسْرَجاً، ومعلفاً للخيول، ومخازن، ووسطه كبقية الخانات باحة مكشوفة واسعة تتوسّطها بركة ماء صغيرة، وقد تولّى إدارته شخص من آل التماثيلي في زمن العثمانيين فنسب الخان إليه.
واقع الحال
خان التماثيلي المدلل في عصره، والمتميّز عن سواه بإطلاله على البحر، وبالروّاد من الطبقات الاجتماعية الأرستقراطية، يواجه اليوم حالة مأساوية، إذ يسوده الإهمال، وتنمو الطحالب والحشائش البرية في جدرانه وزواياه، وتَسْوَدّ جدرانه بالغبائر.
وتذكر دراسة أعدتها بلدية الميناء بالتعاون مع "مجلس منطقة البيرينيه الوسطى" أنّ الخان شيّد زمن المماليك بين سنة 1316 و1341 ميلادياً، وكان بمثابة فندق للمفاوضين والمسافرين.
-
زركشات ومنمنمات في خان التماثيلي
وعن تاريخ بنائه، يوضح المؤرّخ الطرابلسي المتخصص بالعصر المملوكي الدكتور عمر التدمري أنّ "مدينة الميناء كانت بحاجة إلى استقبال البواخر، فبني الخان في الميناء. وعندما دخل العثمانيون الى طرابلس، دخل الخان في ملكية السلطان سليم الأول،مع بقية خانات طرابلس".
ويتابع قائلاً: "الخانات هي الأسواق التجارية التي تدر الربح والمال وتعتمد عليها الحركة الاقتصادية. وكانت الأموال التي تدرها الخانات تدخل في خزانة السلطنة.
ويفيد تدمري أنّ "الغرف التي تطلّ على الشارع جميعها وكالات أجنبية هولندية ويونانية وغيرها، وكان القناصل يجلسون فيها فيستقبلون بواخرهم الى جانب التجار القادمين. وكلّ باخرة كانت ترفع علم دولتها. كانت المدينة منطقة حيوية ومركزاً تجارياً، لكن للأسف، هي مهملة اليوم كما كل آثار المدينة".