متى يدير "حنظلة" ظهره؟

متى يستدير "حنظلة"؟ لا بل متى يدير لنا ظهره؟ السؤال قد يلقى جواباً لا لُبس فيه لدى الرجال"من مسافة صفر"، الذين يرون فلسطين بوضوح، من دون غشاوة، ويقولون لــ "السمينين" في رسومات ناجي: "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف".

  • متى يدير
    بوصلة "حنظلة" نحو فلسطين لا تحيد (غرافيك: حوراء علي)

"حنظلة" هو ذاك الطفل الفسطيني الذي لم يكبر منذ عقود! ما برح في العقد العاشر من عمره، هو من توقّف عند تلك العشرية الوحيدة ولم يكبر!

 "الطفل"  الشهير ما برح شائحاً بوجهه عمّا يجري في العالم العربي من المحيط إلى الخليج، لا يريد لغشاوة أن تشوّش مقلتيه الصغيرتين، ولا  لـ"أعراب" الردّة، ولا لمحاولات التطبيع كلّها أن تثنيه عن النظر إلى هناك.. إلى حيث ثرى فلسطين.

"حنظلة" الفلسطيني -  لا بل العربي العروبي الأصيل- يدير ظهره ويشبك يديه خلفه، إلى وجهة واحدة، بوصلته لا تحيد عن فلسطين، وإن كان قد وُلد في الخامس من شهر حزيران/يونيو 1967، أي عام النكسة، ولم يفارق رسوم العلي.

في منتصف التسعينيات، كنت أشرف على ما أسّسه يومها.. "نادي الإعلام والصحافة" المكوّن من طلاب في مدارس لبنانية، وأذكر أنني اصطحبت مجموعة منهم إلى معرض حول رسومات ناجي العلي، يومها توقّفوا عند رسم "حنظلة"، المرافق للشخصيات.

"في كلّ المواقف كان حنظلة حاضراً، فلسطين وجهته الأبدية"، قالها الشاب المرافق للطلاب، سألته إحداهن بببراءة الطفولة: "ومين هيدول الناصحين اللي عندهم كروش بالصور"؟ ضحك بهدوء وأجاب بطريقة مبسّطة: "هم اللي ما عم يخلونا نحرر فلسطين"!

فيلم معبّر: ناجي الرافض

سرعان ما جلبت فيلم ناجي العلي ليشاهده الطلاب في مدارسهم (فيلمٌ سيرة ذاتية مصري فلسطيني من إنتاج سنة 1992، من إخراج عاطف الطيب، وتأليف بشير الديك)، فلمسوا مدى قوة شكيمة ناجي ورفضه لكلّ مستغلي القضية، منتحلي الهوية.

-ضحكوا كثيراً على ما فعله "ناجي" عندما أعلن أحد "تجار القضية"، أنه زرع "بيّارة البرتقال" فوق سطح فيلته في الشتات، ولا حاجة له للعودة إلى بيّارته في فلسطين!

-شاهَدوا كيف يقدّم الصحافي الحرّ  روحه قرباناً للقضية، وكيف لا يتحمّل بعض المسؤولين "الضخمين" رأياً و كلمة  لا بل حتى رسماً كاريكاتورياً! 

لهذا السبب كتّف يديه! 

برسوماته، كان ناجي يميط اللثام عن أقنعة كثيرة، ويدكّ عروشاً أو "كروشاً" كثيرة، ويحمل لواء قضية حملها منذ نعومة أظافره.

- سمعوا ما يقوله الشهيد "أنا شخصياً منحاز لطبقتي، منحاز للفقراء، وأنا لا أغالط روحي، ولا أتملّق أحداً. القضية واضحة، ولا تتحمّل الاجتهاد، الفقراء هم الذين يموتون، وهم الذين يُسجنون، وهم الذين يُعانون المعاناة الحقيقية".

اقرأ أيضاً: "حنظلة" يواجه "أم هارون".. منعاً لتزوير التاريخ

-اسنتتجوا أن ناجي كان صريحاً مع نفسه ومع الآخرين، لا يُراوغ، لا يُناور، يعبّر عمّا في داخله صراحةً، إذ يقول: "لي موقف من الجماهير الكادحة والمسحوقة والمغبونة تاريخياً، أحاول التقاط همومها، فتمتزج في داخلي الهموم".

-خلَصوا إلى أن ناجي العلي  ابن عائلة مُزارِعة، إذ لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، فطبيعي أن ينحاز ويصطفّ إلى جانب من هم مثله، إلى جانب من هم تحت.

-سمعوا الفنان المصري نور الشريف (ناجي العلي في الفيلم) وهو يُعرّف عن حنظلة في الفيلم فأحبوا كلامه لا بل ترك بصماتٍ كنت أسعى لتجسيدها في نفوسهم: "عزيزي القارئ اسمح لي أن أقدّم لك نفسي.. أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا..اسمي: حنظلة، اسم أبي مش ضروري، أمي.. اسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة.. نمرة رجلي :ما بعرف لأني دايماًً حافي.. تاريخ الولادة: ولدت في (5 حزيران 67) جنسيتي: أنا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا.. إلخ،باختصار معيش هوية ولا ناوي إتجنس.. محسوبك إنسان عربي وبس..".

 يقول ناجي العلي: "أسميتهُ حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدّمته كطفل فلسطيني، لكنّ وعيه تطوّر، أصبح له أفق قومي، ثم أفق كوني إنساني".

-استغربوا عمر "حنظلة" الأيقونة الذي لا يكبر، فكان الجواب ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائماً في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إليها، سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء! 

-سألوا عن سر تأبّطه ليديه خلف ظهره.. فعوجلوا بجوابٍ لا أعرف إذا ما استوعبته عقولهم النضرة الفتية "كتّف يديه بعد حرب أكتوبر 1973 لأن المنطقة كانت تشهد محاولات تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف حنظلة ليديه بشكلٍ رمزيّ في إشارةٍ إلى  رفضه المهادنة ومصافحة العدو والتسويات والتطبيع مع المحتل.. إلخ.

-بعد كل ذلك، تيّقنوا أنه  ثائر، خاصةً عندما أعلن أن "حنظلة" سيدير وجهه "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدّدة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته"، و أيضاً عندما تتحرّر الأرض العربية من المحتلين.

من هو ناجي العلي؟

هو ناجي سليم حسين العلي. وُلد عام 1937 في قرية الشجرة التي تقع على تلة متوسطة الارتفاع إلى الجنوب الغربي من مدينة طبريا.

وفي أيار/مايو 1949 احتلت "العصابات الصهيونية" (الهاغاناه)  قريته، وغادرت عائلة ناجي العلي إلى لبنان وسكنت في مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا جنوب البلاد..

كبر الولد اللاجئ وتزوّج من وداد صالح نصر وأنجب منها 4 أولاد: خالد وأسامة وليال وجودي. حصل على شهادة ميكانيك السيارات من طرابلس في لبنان.

زار الأديب الفلسطيني غسان كنفاني مخيم عين الحلوة يوماً، فأعجب برسوم ناجي العلي ونشر له رسماً في صحيفة "الهدف" التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن هناك اشتهر كرسام كاريكاتير. بعدها بعامين انتقل للعمل في صحف ومجلات كويتية، ومنها سافر إلى لندن ليرسم في صحيفة "القبس" الدولية الكويتية التي كانت تصدر من هناك.

لبيروت صباح.. و "قلم الحرية الذهبي"

عمل العلي في العديد من الصحف والمجلات، منها: مجلة الطليعة الكويتية (1963)، وجريدة السياسة الكويتية (1968 – 1975)، وجريدة السفير اللبنانية (1974 – 1983)، وجريدة القبس الكويتية (1983 – 1985).

وهنا نذكر أن الرسام المبدع أجزل العطاء الكاريكاتوري المعبّر الموازي للعمل الميداني، في جريدة  "السفير" اللبنانية، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، فتعايش مع ناسها ومقاوميها خلال حصارها الشهير، وبقي يناجيها كل يوم "صباح الخير يا بيروت".

إضافة إلى امتهانه مهنة المتاعب، انتُخب سنة 1979، رئيساً لرابطة الكاريكاتير العرب، وشغلَ أيضاً عضوية الأمانة العامة لاتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين، وقد شاركت رسوماته التي بلغت الـ 40 ألف رسم في عشرات المعارض العربية والدولية، وأصدرَ 3 كتب خلال الأعوام 1977 و1983 و1985، ضمّت مجموعةً من رسومه المختارة، وقد كان يتهيأ لإصدار كتاب رابع، إلا أن اغتياله حال دون ذلك.

وقد  لا يستغرب أحد كيف اختارته صحيفة "أساهي" اليابانية كواحد من أشهر رسامي الكاريكاتير العشرة في العالم، وكذلك وصفه من قبل "الاتحاد الدولي لناشري الصحف"، كونه واحداً من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومنحه "قلم الحرية الذهبي"، بُعيد أقل من ستة أشهر على اغتياله، ليكون بذلك أول صحافي عربي ورسام يحصل على جائزة واعتراف من ذاك العيار.

اغتيل ناجي العلي في لندن في 22 تموز/يوليو 1987، وتوفي يوم السبت 29 آب/أغسطس 1987، متأثراً بإصابته برصاصة غادرة من مسدس كاتم للصوت، وهو الذي رسم كاريكاتيراً يجسّد هواجسه من هذا الأسلوب مع عبارة "لا لكاتم الصوت"!

والجدير بالذكر هنا، أن ناجي قالها مرة وباللهجة الفلسطينية "اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم عن فلسطين، بدو يعرف حالو ميت"، فكيف بمن يدافع عن فلسطين كوطن"؟

 وناجي ذاته أطلقها مراراً: "لا أفهم المناورات، لا أفهم السياسة، لفلسطين طريق واحد ووحيد هو البندقية"! كما يقول الشاعر السوري العربي نزار قباني في القصيدة التي غنّاها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم.

ويبقى "حنظلة" ناجي!

في هذا الزمن حيث العدوان على غزة والضفة الغربية، بالتزامن مع دور جبهات الإسناد العربية، نستذكر قول ناجي العلي يبقى "حنظلة" ناجي "الأيقونة والشاهد الأسطورة"، كما يقول عبد الرحمن علال في مركز  دراسات الوحدة العربية، "إنه الشاهد على الموت بالجملة والموت بالتقسيط، الشاهد على تغوّل الصهيونية والإمبريالية الأميركية، شاهد على همجية قتلة الأطفال والنساء والشيوخ، شاهد على قصف المساجد والمدارس والمستشفيات، شاهد على نفاق "المجتمع الدولي"، وعلى سياسة الكيل بأكثر من مكيال".

اقرأ أيضاً: في ظل التطبيع العربي مع "إسرائيل".. "حنظلة" يعود على الميادين

حضور المرأة في المعركة

ويضيف "لـعـلّ من أبرز العناصر التي تدعم التكامل في رسومات ناجي العلي، هو توفيقه بين حضور الرجل والمرأة على قدم المساواة داخل الصورة التعبيرية، فهو لم يَسعَ قط إلى إقصاء أي طرف، لأنه يعرف جيداً ما معنى حضور المرأة إلى جانب الرجل في أي معركة تحريرية، فهو يدرك جيداً حاجة الرجل إلى نصفه الثاني الذي هو المرأة في أي قضية، فما بالك إذا كانت القضية تتعلق باستئصال ورم خبيث من جسم الوطن، هو الكيان الغاصب المحتل؟

  • ناجي العلي في لندن
    ناجي العلي في لندن

المقاومون يعرفون!

بعد عملية طوفان الأقصى، تداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي كاريكاتيراً نُسب إلى ناجي العلي، يظهر فيه حنظلة وهو يراقب هبوطاً مظلياً لقتلى من الجنود الإسرائيليين في محيط المسجد الأقصى، في إشارة إلى النظرة الثاقبة التي امتلكها الفنان .

يحضر  ناجي برسومه مع كل عملية للمقاومة الفلسطينية، وبعد "طوفان الأقصى"،و يُظهر  البعض "حنظلة" أثناء هبوطه بمظلته في المستوطنات الإسرائيلية، في مشهدٍ مستوحى من الحدث الذي استفاق العالم عليه في يوم عملية طوفان الأقصى. 

  • حنظلة المظلّي. رسم من تصميم نادر أسمر
    حنظلة المظلّي. رسم من تصميم نادر أسمر

يذكر أن "حنظلة" ظهر عبر شاشة  الميادين، عام 2020  التي تبنت مشروع حنظلة الفني والثوري والثقافي والهادف إلى بعث رسومات الشهيد ناجي العلي الكاريكاتورية الساخرة والموجعة بصيغة متحركة.

ويبقى السؤال بعد 37 عاماً، متى يستدير "حنظلة"، لا بل متى يدير لنا ظهره؟ السؤال قد يلقى جواباً لا لُبس فيه لدى المقاومين "من مسافة صفر"، الذي يرون فلسطين بوضوح، من دون غشاوة، ويقولون لـ "السمينين أصحاب الكروش" في رسومات ناجي: "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف".

* المراجع: الميادين -مركز دراسات الوحدة العربية- صحيفة السفير- شبكة نينوى- درج.