التجنيس في البحرين: هكذا تصنع السلطات أعداءها

تبقى مشكلة إسقاط الجنسية أو سحبها من البحرينيين مثار أخذ وردّ حقوقي بين طرفي الأزمة البحرينية، لكنها في المحصّلة باتت تشكل قضيّة سياسية. الموضوع القديم نسبياً راح يحتلّ حيّزاً مهماً، بعدما جرى استخدامه لأغراض سياسية. لا توجد إحصاءات رسمية حديثة تمنح المتقصّي القدرة على رسم الصورة كاملة، ليتمكن من إقامة الفصل بين مَن فقدوا جنسيّتهم لأسباب سياسية، وبين مَن خسروها لمخالفتهم "النظام العام"، وبالتالي خضوعهم لإجراء قانوني بحت.

تشكّل أزمة إسقاط الجنسية وسحبها مَدعاة لــ "قلق" دولي مستمر على "حقوق الإنسان" في البحرين
تقول المعارضة البحرينية، وعمادها شيعة البلاد، إن السلطات تستخدم التجنيس وإسقاط الجنسية وسحبها، للوصول إلى إحداث تغيير ديمغرافي (تعادل سنّي - شيعي أو غلَبة سنيّة) يجعل العائلة الحاكمة في حِلّ من الإنصات لمطالب المعارضة بتحسين شروط تمثيل الشيعة السياسي وحياتهم الاقتصادية.

ربما من المفيد هنا التذكير بــ "تقرير البندر" الذي سُرّب في العام 2006، والذي كشف حينها عن "شبكة سرّية" برئاسة أحمد بن عطية آل خليفة، أحد أفراد العائلة الحاكمة. التقرير تناول من بين جملة الأهداف المستقبلية "التغيير الديمغرافي للحصول على أكثرية موالية للسلطة". ويأتي تلازم حملة التجنيس وإسقاط الجنسية اليوم، وكأنه التطبيق العملي للخطة "السرّية" الواردة في التقرير، جاعلة تقدير مسار الاحتجاجات البحرينية مستقبلاً أمراً صعباً.

تشكّل أزمة إسقاط الجنسية وسحبها مَدعاة لــ "قلق" دولي مستمر على "حقوق الإنسان" في البحرين، والتي لا يُتوقع أن يُتعاطى معها بغير لازمة "القلق" الجاهزة لمقارعة كل فظاعات العالم. بيد أن ما يجري فعلياً بعد خمس سنوات، لن تنفع معه وصفات "القلق"، حيث أضحى أقرب إلى "صناعة عدوّ". يبدو اليوم، أن هذه الصناعة أضحت مكتملة الشروط. بدءاً من الاستراتيجية ثم الخطاب وصولاً إلى "المحددين"، وهم جملة الكتاّب والصحافيين و"المحللين" الذين يأخذون على عاتقهم منح الخصم الهوية الكاملة ليصبح عدواً.

جزء من البحرينيين كان ضحية "المحددين" هؤلاء، حيث أسبغوا المعارضين شيعة وسنّة بأكثر من صفة ليس أقلّها "الإرهاب والتآمر" محوّلين إياهم عدواً يجب محقه واجتثاثه بأكثر من وسيلة ومنها التجنيس. الأرقام التي يمكن العثور عليها حول التجنيس لا تزال قديمة. بالطبع، لا يمكن الركون كلياً إلى الأرقام التي تعلنها المعارضة، والتي تبقى تقديرية في أحسن الأحوال. المتوافر حتى الساعة بحسب "جمعية الوفاق" يفيد بأن السلطات البحرينية جنسّت أكثر من 95000 شخص بين الأعوام 2004 – 2014، والرقم قد يصل إلى 120000 مجنّس في حين كان يبلغ عدد سكان البحرين في العام 2004، نحو 465000 نسمة.

أما مَن أسقطت عنهم الجنسية في العام 2016 فقد فاق عددهم 50 شخصاً بتهم تشكيل تنظيمات إرهابية، فضلاً عن ترحيل العشرات. وقد تسبّب إسقاط الجنسية في أكثر من مأساة إنسانية. حيث حرم نحو 14 مولوداً جديداً من حقهم في الجنسية بعد إسقاطها عن آبائهم. وأدت تلك النتيجة بحسب "مرآة البحرين" إلى وفاة الطفل عباس الخباز (4 سنوات) نجل المعتقل محمّد الخباز (محكوم بالمؤبد وإسقاط الجنسية)، بعد أن رفضت السلطات إصدار جواز سفر له يمكّنه من العلاج في الخارج.

السلطات البحرينية باستخدامها المستمر للقوة ثم حملة التجنيس المتواصلة وإسقاطها عن آخرين، يدفع المعارضين إلى التكتل في موقع أقرب إلى الدفاع الغريزي عن الذات والوجود الإنسانيين (لا يمكن اليوم أن يحيا مطلق أي إنسان بلا جنسية تربطه بدولة)، وليس في الحيّز الطبيعي كخصم سياسي (رغم غلبته الطائفية)، قد يتم التوصل معه إلى صيغة حلّ معقولة. فالبحرين لم تعرف مشكلة فعلية مع حكم "سنّي" رغم الغلَبة الديمغرافية للشيعة، ولا كراهية سنّية للأخيرة (يمكن قراءة الفصل المتعلق بصحيفة الوطن والعلاقة مع الشيعة في تقرير البندر). كما أنها تاريخياً، بلاد (أرخبيل) مفتوحة على التنوع العرقي والإتني والمذهبي لموقعها التجاري في الخليج العربي الفارسي (حملات التجنيس قبل الاحتجاجات شملت سنّة وشيعة عرباً كما شملت شيعة وسنّة إيرانيين).

لا تشكل عملية التجنيس مشكلة بذاتها، فما يجري اليوم هو تحايل واستخدام غير مشروع سياسياً وأخلاقياً وحقوقياً على عملية بدأت وفقاً لدستور 1963، وكانت تهدف إلى زيادة عدد السكان وتنشيط الدورة الاقتصادية في بلد صغير، رغم ما أثارته وتثيره من تحفّظ وانتقاد عند البحرينيين خاصة تجاه الجنسيات غير العربية.

مشكلة ما يحصل أنه تفصيل في سياق أزمة تتجاوز حدود الأرخبيل البحريني. أزمة الصراعات التي باتت تتّخذ وجهاً طائفياً وإثنياً، ولم تعرف السلطات البحرينية كيف تتعامل معها بحكمة، جاعلة الصراع في البلاد ينحو نحو المذهَبَة. مَن يدري، قد تكون الجغرافيا لعنة أحياناً! 

اخترنا لك