إنفاق غير مسبوق على الدفاع.. هل ينجح قادة ألمانيا الجدد في استعادة أمجاد الماضي؟
مع تصاعد التهديدات الأمنية في أوروبا وتغيير المشهد السياسي العالمي، أطلقت ألمانيا حملة غير مسبوقة لزيادة إنفاقها الدفاعي، أثارت تساؤلات حول نوايا القيادة الألمانية وطموحاتها المستقبلية.
-
جنود من الجيش الألماني
لدى ألمانيا كل المقومات لكي تملك أقوى الجيوش في أوروبا، وربما أيضاً واحداً من أقواها على المستوى العالمي. فبعد مصادقة مجلسي النواب والشيوخ الألمانيين على خطة "بازوكا للتمويل" التي وضعها المستشار الجديد فريدريش ميرتس، والتي تؤمن 500 مليار يورو للدفاع، بات بمقدور ألمانيا أن تبدأ فعلاً ورشة استنهاض قوتها العسكرية المفقودة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والعودة في سنوات قليلة كقوة يُحسب لها الحساب.
خطة بازوكا، التي وافقت عليها أكثرية النواب وأعضاء مجلس الشيوخ والأحزاب الألمانية المختلفة (عدا حزبي أقصى اليسار واليمين المتطرف)، تتضمن إنشاء صندوق مالي بقيمة 500 مليار يورو من أجل الإنفاق على الدفاع والبنية التحتية خلال السنوات المقبلة. يضاف إلى هذا الصندوق ميزانية الدفاع التقليدية السنوية البالغة 90 مليار يورو.
صحيح أن هذه المبالغ قد تبدو قليلة لإعادة بناء جيش قوي يُعتمد عليه لمواجهة "خطر التهديد الروسي" على ألمانيا وكل أوروبا، لكن الخبراء الألمان يعتقدون أن هذه الخطة، مع التوجهات الألمانية الجديدة، ستكون خطوة أولى باتجاه المزيد من التمويل خلال السنوات المقبلة، خصوصاً وأن ألمانيا تمتلك القدرات المالية لذلك.
في الواقع، تبقى ألمانيا من أقوى الاقتصاديات الأوروبية مع ناتج محلي يساوي 4.9 تريليون دولار، أي ضعفي الناتج المحلي الروسي، والثالث عالمياً بعد الولايات المتحدة والصين وقبل اليابان. كما أن حجم ديونها العامة منخفض جداً مقارنةً بقوى اقتصادية كبرى، إذ لا تتعدى نسبة الديون الألمانية 62% من حجم الناتج المحلي، بينما تصل إلى 113% في فرنسا و123% في الولايات المتحدة، وهذا ما يمنح ألمانيا هامشاً واسعاً للاستدانة، بعكس كل الدول الأوروبية الكبرى، والإنفاق على التسليح وإعادة تشييد البنية التحتية المهترئة.
وبناءً على الرؤية الألمانية لما بعد الحرب الأوكرانية وتحول مفهوم إدارة دونالد ترامب عن حماية أوروبا، أجرت السلطات الجديدة تغييرات جوهرية في سياستها النقدية لكي يتسنى لها استخدام مبالغ ضخمة للإنفاق على الدفاع.
حتى الأمس القريب، كان مبدأ الاستدانة في ألمانيا واحداً من المحرمات التي لا تمس إلا في الحالات القصوى، كما حدث في العام 2020-2021 خلال انتشار وباء كورونا. لكن المستشار الجديد، فريدريش ميرتس، استطاع في أيام قليلة إقناع الألمان وأكثرية أعضاء مجلسي النواب والشيوخ بضرورة اللجوء إلى هذا الخيار من أجل استعداد ألمانيا لمواجهة "التهديد الروسي". فكان التصويت السريع في المجلسين بالتخلي عن قواعد "كبح الديون" المنصوص عليها في الدستور، وبات بإمكان الحكومة المقبلة الحصول على قروض قد تصل إلى 1.5 تريليون يورو خلال سنوات قليلة، بحسب خبراء الاقتصاد الألمان.
قدرات الجيش الألماني
يُعدّ الجيش الألماني من أكثر الجيوش الأوروبية ضعفاً، فقد تراجع الإنفاق العسكري من 3% أو أكثر بقليل من الناتج المحلي خلال الحرب الباردة إلى أقل من 1.2% منذ نهاية الحرب الباردة وحتى بداية الحرب الروسية- الأوكرانية عام 2022، الأمر الذي أفقد هذا الجيش الكثير من قدراته. كما تخلت ألمانيا عن التجنيد الإجباري في عام 2011 بسبب الشعور بأن وقت الحروب قد ولى، وأن الأموال التي تُصرف على الجيش يمكن استغلالها في قطاعات اجتماعية وصحية. أما بالنسبة للأمن، فقد اعتمدت برلين أكثر من أي وقت مضى على الحماية الأميركية داخل حلف شمال الأطلسي.
وقد ظهرت حقيقة ضعف هذا الجيش مع بداية الحرب، حيث تعرض لانتقادات وسخرية من قبل الألمان والأوروبيين على حد سواء، بسبب الأعطال المتكررة في معداته، بما في ذلك الطائرات الهليكوبتر التي لا تحلق بشكل عملي، والبنادق التي لا تطلق النار بدقة. حتى إن فضيحة ظهرت إلى العلن مع بداية الحرب الروسية- الأوكرانية، مفادها أن الجنود الألمان لا يملكون ملابس خاصة بمناطق البرد والثلوج، كما أنهم لا يحصلون على ثياب داخلية من الجيش. إلى أن أعلن المستشار الحالي أولاف شولتس في شباط/فبراير 2022 تخصيص 100 مليار يورو لإنشاء صندوق خاص لتطوير الجيش، يشمل شراء أسلحة جديدة من بينها طائرات F-35 الأميركية وتحسين جاهزية القوات المسلحة.
تم صرف معظم هذا القرض (82% منه) على تحسين قدرات الجيش التسليحية واللوجستية، لكن ذلك لم يظهر فارقاً كبيراً في القدرات العسكرية، إذ "لا يزال الجيش الألماني يمتلك القليل جداً من كل شيء"، حسب ما قالت مفوضة الدفاع البرلمانية إيفا هوجل قبيل تبني خطة إنشاء صندوق الـ500 مليار يورو.
صحيح أن جيش ألمانيا بات يملك اليوم معدات الحماية الأساسية، مثل الخوذات والسترات الواقية من الرصاص، لكن ألمانيا تفتقر إلى الدبابات والمركبات المدرعة والذخيرة، خاصة وأن الكثير منها أُعطي لأوكرانيا. كما أن البنية التحتية ليست على المستوى المطلوب، حيث أصبحت الثكنات "متداعية إلى حد كبير" ولا يوجد عدد كافٍ من الجنود، وفقاً لمفوضة الدفاع البرلمانية إيفا هوجل.
وبالإضافة إلى هذه الاحتياجات، ألمانيا متأخرة جداً في قطاع التقنيات العالية، لا سيما الطائرات من دون طيار، الأقمار الصناعية، الذكاء الاصطناعي، والدفاع الجوي لحماية البنية التحتية والسكان. كما يجب رفع عدد الجنود النظاميين الذين لا يتجاوز عددهم اليوم 181 ألفاً.
تركز خطة "بازوكا" على حصر الاستثمار العسكري في ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي، وخفض مستوى الاعتماد بشكل كامل على المعدات الأميركية، خصوصاً وأن صفقة طائرات F-35 التي كلفت الخزينة الألمانية 10 مليارات يورو تُعدّ صفقة خاسرة ولا قيمة عسكرية لها، لأن برمجيات هذه الطائرة مرتبطة بالولايات المتحدة ولا يمكن لألمانيا استخدامها من دون موافقة الأميركيين. والسؤال بات يُطرح علانية في ألمانيا من قبل العديد من الزعماء السياسيين حول قدرة التنبؤ بالموقف الأميركي تحت قيادة دونالد ترامب.
هل سيكون المال كافياً؟
بات بيد السلطات الألمانية الكثير من الأموال للإنفاق على إعادة التسلح، لكن إلى أي مدى تريد ألمانيا أن تصل بقدراتها العسكرية؟ وهل شعار مواجهة الخطر الروسي هو السبب الفعلي لارتفاع شهية الألمان العسكرية لدرجة إطلاق وزير الدفاع الألماني نداءً، يناقش اليوم بجدية في برلين، حول إعادة العمل بقانون الخدمة العسكرية الألمانية للشباب، الذي توقف العمل به عام 2011؟
يقول رئيس الحكومة المحلية في بافاريا، ماركوس زودر: "لا بدّ من بذل كلّ ما في وسعنا كي تصبح ألمانيا من جديد من أقوى الجيوش في أوروبا وتتمكن من حماية بلدنا"، وهذا يعدّ الهدف الأول لبرلين.
لكن المستشار الجديد يرى أبعد من حدود ألمانيا الجغرافية، فقد اعتبر الموافقة على إنشاء الصندوق الدفاعي بـ "الخطوة الكبيرة الأولى نحو تشكيل كتلة دفاعية أوروبية جديدة"، وهذا ما يحوّل النقاش إلى ما هو أبعد من الاستعدادات الدفاعية، ويطرح السؤال عما إذا كانت ألمانيا، بقدراتها المالية، تريد استعادة صورة الجيش الألماني التي كانت سائدة في ثلاثينيات القرن الماضي.
تعتقد ألمانيا أن الدول الأوروبية التي تولت أمر العسكرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي بريطانيا وفرنسا وبدرجة أقل إيطاليا وإسبانيا، لم تعد قادرة على الاضطلاع بهذه المهمة بسبب وضعها الاقتصادي الهش وعدم القدرة على ضخ الأموال للإنفاق العسكري. ففرنسا تقع تحت ديون تبلغ 3300 مليار يورو، وتتعرض لأزمات اقتصادية غير مسبوقة ومتتالية، ومن المستحيل أن تتمكن من تخصيص ميزانية أعلى من الحالية للدفاع، التي لا تتجاوز 60 مليار يورو سنوياً، من دون اللجوء إلى المساس بالتقديمات الاجتماعية للفرنسيين، وهذا أمر قد يجر على الحكومة الفرنسية اعتراضات شعبية عنيفة.
الوضع في إيطاليا وإسبانيا مشابه لوضع فرنسا، علماً أنهما غير مشجعتين لفكرة إعادة تسليح أوروبا لمواجهة روسيا. فهذان البلدان يعدان الخطر القادم من الجنوب، مثل الهجرة واللجوء والإرهاب، أكبر من الخطر الروسي بالنسبة لهما.
على هذا الأساس، يعتبر قادة برلين الجدد أن ألمانيا وحدها القادرة على الإنفاق عبر الاستدانة بهامش واسع، من دون السقوط في فخ ارتفاع المديونية كما هي حال فرنسا وبريطانيا أيضاً. لكن، هل تأمين الأموال وحده يكفي لجعل ألمانيا قوة عسكرية بحجم قوتها الاقتصادية، أي المرتبة الثالثة أو الرابعة عالمياً؟
يجيب الجنرال الفرنسي المتقاعد دومينيك ديلوراد عن هذا السؤال للميادين، أن أي قوة عسكرية تحتاج إلى ما هو أبعد من المال، فهي تحتاج إلى جيل شاب، وهذا مفقود في معظم الدول الأوروبية، ولا سيما ألمانيا التي تعاني كثيراً من هرم الشعب. وتالياً، وربما هذا الأهم، أن يتحلى من يريد القتال بروح قتالية وطنية ومستعد لبذل حياته إذا تطلب الأمر. وهذه الروح مفقودة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وبناؤها يحتاج إلى برامج تحفيز وطني قد تستغرق أكثر بكثير مما تستغرقه عملية جاهزية المصانع لإنتاج الأسلحة المتطورة.