الدين العام الأميركي إلى 33 تريليون دولار .. ماذا في الأسباب والانعكاسات على واشنطن؟

الناخب الأميركي عادة، عند أي أزمة اقتصادية تلوح في الأفق، يلجأ إلى المزاج الجمهوري في إدارة السياسات الداخلية، والذي يتميز بالحمائية والتشدد في إدارة موارد البلاد، وتغليب المصالح الداخلية على السياسات الخارجية، الأمر الذي يفاقم الضغط على بايدن وإدارته.

  • لماذا وصل الدين العام الأميركي إلى 33 تريليون دولار.. وما انعكاساته على واشنطن؟
    لماذا وصل الدين العام الأميركي إلى 33 تريليون دولار.. وما انعكاساته على واشنطن؟

يُعَدّ ارتفاع الدين العامّ للولايات المتحدة، والذي تجاوز 33 تريليون دولار، بحسب ما أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، قضية معقدة، متعددة الأسباب، ومتشعّبة في مفاعيلها وتداعياتها، وتطوّرت بالتدريج على مدى عدة عقود.

فما العوامل التي ساهمت في هذه الظاهرة؟ وماذا يمكن أن يكون تأثيرها المحتمل في الدولار وفي الاقتصاد الأميركي؟ وكيف ستكون تداعياتها على الاقتصاد والسياسة العالميين، في حال استمرّت في هذا المسار؟

يشرح الخبير في الأسواق المالية والاستثمار المالي في الولايات المتحدة، سامر غدار، في مقابلة مع الميادين نت، أنّ الدين العام هو عملياً "مجموع سندات الخزينة، التي تصدرها الدولة الأميركية، أي دين الحكومة الفدرالية، والتي تتدرج من فترة شهر إلى سنة، ثم 5 و7 و10 سنوات.. وتصدرها الدولة الفدرالية لتغطية عجز الميزانية العامة".

وبحسب غدار، يمكن إحصاء 4 عوامل أساسية لأزمة تنامي الدين الحكومي الأميركي:

العامل الأول، كما يؤكد غدار، هو الإنفاق الحكومي. فالدافع الرئيس لتنامي الدين العامّ الأميركي هو إنفاق الحكومة الفدرالية المتزايد. فمع مرور الوقت، قامت إدارات متعددة بزيادة الإنفاق الحكومي على برامج، مثل الرعاية الصحية والدفاع والرعاية الاجتماعية، وتمّ ذلك في الغالب من دون زيادات مقابلة في الإيرادات، وأدّى، بطبيعة الحال، إلى عجز في الميزانية التجارية، الأمر الذي اضطُر الحكومة إلى اقتراض أموال لتغطية نفقاتها.

فالدولة الأميركية لديها إيرادات، تتمثل بالضرائب على الدخل والشركات ورسوم الجمارك وغير ذلك، كما لديها مصاريف، تشمل البنى التحتية والدفاع والرعاية الصحية وغيرها. وحالياً، يسجّل الميزان التجاري الأميركي عجزاً، الأمر الذي يعني أنّ مصاريف البلاد أكبر من دخلها.

وتُعَدّ السياسات الضريبية سبباً آخر مهماً في تنامي الدين العام، وساهمت، عبر التخفيضات الضريبية والثغرات، في انخفاض الإيرادات الحكومية. يضاف إليها، بصورة غير مباشرة، التساهل في موضوع تقييد حركة المهاجرين إلى الولايات المتحدة والرسوم الجمركية.

وفي حين أنّ المزاج السياسي للديمقراطيين عادة ما يقدّر أنّ التخفيضات الضريبية يمكن أن تحفّز النمو الاقتصادي، لكن، في المقلب الآخر، يمكن أن تؤدي أيضاً إلى انخفاض في الإيرادات، الأمر الذي يسبّب تفاقم العجز في الميزانية وتراكم الدين.

وأدّى الانكماش الاقتصادي، وهو العامل الثالث، دوراً كبيراً في تنامي الدين العام، إذ استلزمت فترات الركود والأزمات الاقتصادية، مثل الأزمة المالية في عام 2008، وجائحة كوفيد-19، إنفاقاً حكومياً كبيراً من أجل تحفيز الاقتصاد، ودعم الشركات، وتوفير شبكات الأمان الاجتماعي. وعلى الرغم من أن هذه النفقات تُعَدّ ضروريةً وأساسية في حماية الاقتصاد في أوقات الأزمات، فإنها أدّت، بصورة طبيعية، إلى تفاقم أعباء الديون.

بدورها، ساهمت مدفوعات الفائدة المتزايدة في تراكم الديون. فمع نمو الدين الوطني، تنمو أيضاً مدفوعات الفائدة على هذا الدين، وتستهلك هذه المدفوعات جزءاً كبيراً من الميزانية الفيدرالية، الأمر الذي يحوّل الموارد بعيداً عن البرامج والخدمات الحيوية الأخرى، كما يضيف غدار.

ما التأثير المحتمل في الاقتصاد الأميركي؟

ويشير الخبير المالي إلى أنه "في حال لم تحدث تدخلات قيصرية" لتخفيض الإنفاق وإعادة التوازن إلى الميزان التجاري، فستعوّق تكاليف الفائدة المتزايدة على الدين، والتي ستؤدي إلى إجهاد الميزانية الفدرالية العامة، على مدى الأعوام المقبلة، قدرةَ الحكومة على الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والمجالات الحيوية الأخرى.

وبطبيعة الحال، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يعوّق النموَّ الاقتصادي في الولايات المتحدة، ويمنعه من إصابة أهدافه المحددة له، ويُضعف القدرة التنافسية للبلاد في المدى الطويل، وهي التي تراهن عليها مع خطط الرئيس بايدن الحديثة لاجتذاب الصناعات الأوروبية والأميركية الموجودة خارج البلاد، ولا سيما في الصين ودول آسيا.

كما أنّ المخاوف من عودة المستويات العالية للتضخم، والتي سجلها الاقتصاد الأميركي العام الماضي، مع ارتفاع أسعار الغاز والنفط بسبب الحرب في أوكرانيا، يمكن أن تضاعفها الزيادة الكبيرة في الدين العامّ، والتي يمكن علاجها نظرياً عبر أن تلجأ الحكومة إلى طباعة مزيد من النقود من أجل تسديد التزاماتها بالدولار، الأمر الذي قد يؤدي إلى تأكُّل القوة الشرائية للدولار، محلياً وعالمياً.

كذلك، فإنّ ارتفاع أسعار الفائدة، الذي يمكن أن ينتج من المستويات المرتفعة للدين الحكومي، قد يؤدي إلى مزاحمة الاستثمار الخاص، والذي يعتمد على القروض منخفضة الفائدة. ويمكن لذلك أن يعوّق توسّع الأعمال التجارية، ويخلق بالتالي مشاكل في تأمين فرص عمل جديدة، ويساهم في مخاوف الركود الاقتصادي، التي يثيرها التضخم المرتفع وعوامل أخرى.

وتشكّل الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة نقطة قوة أساسية للوضع المالي في الاقتصاد الأقوى في العالم، وقد تؤدّي مستويات الدين المرتفعة، بصورة مفرطة وغير مضبوطة، إلى الإضرار بالجدارة الائتمانية للحكومة الأميركية.

وكانت وكالة "فيتش" العالمية للتصنيف الائتماني خفّضت، الشهر الفائت، تصنيف الولايات المتحدة من درجة (AAA) إلى (AA+)، وعللت ذلك بـ"التدهور المالي المتوقع على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة، وتكرار مفاوضات سقف الدين الحكومي، التي تهدد قدرة الإدارة الأميركية على تسديد التزاماتها". وشهد الدولار، على إثر ذلك، انخفاضاً، كما ارتفعت أسعار الذهب، قبل أن تعود إلى الاستقرار لاحقاً.

وبحسب وكالة "فيتش"، فإنّ قرارها "استند إلى عدة أسباب، أبرزها التدهور الملحوظ في الحوكمة الأميركية، والذي أكد أنه يقلل الثقة بقدرة الحكومة على معالجة المسائل المالية والديون"، الأمر الذي قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض وفقدان الثقة بالدولار كعملة احتياطية عالمية.

الولايات المتحدة تخشى تراجع قوة الدولار

يؤكد غدّار أنّ "الدولار الأميركي يُعَدّ العملة الاحتياطية الرئيسة في العالم، ومن غير منافس واضح حالياً. وبالتالي، فإنّ تزعزع الثقة بالدولار، والذي يمكن أن يحدث في حال استمرّت مستويات الديون الحكومية، يمكن أن يدفع الدول إلى تنويع احتياطياتها من النقد الأجنبي، بعيداً عن الدولار، بصورة أكبر كثيراً مما يحدث حالياً في بعض الدول، الأمر الذي سيؤثر بصورة كبيرة في وضعه العالمي".

فحالياً، تقوم بلدان، أبرزها روسيا والصين وإيران والسعودية والهند، بإنجاز عدد من التبادلات التجارية فيما بينها بالعملات المحلية، كما تسعى دول "بريكس" لوضع أسس لنظام مالي _ مصرفي مشترك، الأمر الذي سيعني مزيداً من الضغط على الدولار الأميركي كعملة احتياطية لا منافس لها.

كذلك، قد يؤدي التخلف عن تسديد الديون الأميركية، أو خفض تصنيفها، إلى إثارة اضطرابات في الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم، لأنّه قد يخلّف تداعيات بعيدة المدى على الاستقرار المالي العالمي، بحيث تُعَدّ سندات الخزانة الأميركية واحدة من أكثر الأصول أماناً، وتسمّى عادة استثمار "صفر مخاطرة"، في إشارة إلى طبيعة الأرباح المضمونة. 

وبينما قد يؤدي انخفاض قيمة الدولار إلى جعل الصادرات الأميركية أكثر قدرة على المنافسة عالمياً، من جهة مقابلة، لكنه يزيد أيضاً في تكلفة الواردات، الأمر الذي قد يؤدي إلى اختلال التوازن التجاري، لأنّ الواردات الأميركية أكبر من الصادرات، وهو ما يعني أنّ كميات أكبر من الدولار ستخرج من البلاد.

التداعيات السياسية

أمّا على مستوى السياسة، فلتراكم الديون السيادية في الولايات المتحدة انعكاسان أساسيان:

قد يتأثر مزاج الناخب الأميركي بصورة كبيرة بزيادة الديون العامة للولايات المتحدة، وهو ما تتحمل مسؤوليته، على نحو أساسي، بحسب كثير من المعلقين الأميركيين المعارضين للسياسات الديمقراطية، إدارةُ بايدن، التي أَوْلَت البيروقراطية الشديدة في إدارة اقتصاد البلاد، على الاهتمام بتطوير القدرات التجارية للبلاد، والاهتمام بالعلاقات التجارية مع البلدان الأخرى، بحسب معلقين أميركيين.

ويلجأ الناخب الأميركي، عادة، عند الشعور بوطأة أزمة اقتصادية تلوح في الأفق، إلى التحوّل نحو المزاج الجمهوري في إدارة السياسات الداخلية، والذي يتميز بالحمائية والتشدد في إدارة موارد البلاد، وتغليب المصالح الداخلية على السياسات الخارجية والصراعات الكبرى، الأمر الذي يعني فرصة في استعادة التوازن على صعيد إدارة اقتصاد البلاد، وهو ما قد لا يشكل خبراً جيداً لـ"حلف الحرب" في واشنطن.

وسيزيد هذا الأمر، بالتالي، في الضغوط على إدارة الرئيس بايدن قبل عام على الانتخابات الرئاسية، في وقت سيعطي فرصة لمنافسه الجمهوري، أياً يكن اسمه، في ادّعاء مفاده أنّ التحوّل نحو الإدارة الجمهورية هو الحلّ لمشاكل البلاد المتراكمة.

اخترنا لك