خطة ترامب لإنقاذ الكيان وتصفية القضية الفلسطينية
تبدو الخيارات المتاحة أمام الشعب الفلسطيني محدودة، وربما معدومة، تستوي في ذلك الخيارات المتاحة أمام سلطة رام الله أو الخيارات المتاحة أمام الفصائل المسلحة في قطاع غزة.
-
خطة ترامب تتضمن مثالب كثيرة، أخطرها أنها تبنّت رؤية إسرائيلية.
الخطة المقترحة من ترامب لوضع نهاية للحرب في غزة هي خطة أميركية-إسرائيلية، رغم أنها رسمياً تحمل اسمه وحده. صحيح أن مسودتها الأولية أعدّت في المطبخ الأميركي، لكن الكيان الصهيوني هو الطرف الوحيد من بين جميع حلفاء أميركا في المنطقة الذي منح حقاً حصرياً في مناقشة بنودها، وفي المشاركة الفعلية في صياغة مسودتها النهائية، بدليل أن الإعلان عنها تم في أعقاب لقاء جمع بين ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض، وفي ختام مؤتمر صحفي اقتصر عليهما.
صحيح أنه سبق لترامب أن اجتمع بقيادات من دول عربية وإسلامية عدة على هامش الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة، غير أنه لم يكن لدى أي من هذه القيادات علم مسبق بتفاصيل الخطة التي كان يعكف على إعدادها مع مساعديه، واقتصر هذا الاجتماع على مناقشة أفكار عامة كان يعلم مسبقاً أنها تحظى بتأييدهم، ما يفسر سعادتهم بموافقته على التخلي عن فكرة التهجير القسري لسكان القطاع، وتأكيده أنه لن يسمح للكيان بضم الضفة الغربية، وتجاوبهم معه في العديد مما طرح من أفكار حول تشكيل الحكومة التي ستتولى إدارة قطاع غزة خلال المرحلة الانتقالية، وكذلك حول تشكيل "مجلس السلام" الذي سيتولى توجيه هذه الحكومة والإشراف عليها.
لكن، تجدر ملاحظة أن الكيان الصهيوني سعى بكل قوته للحيلولة دون تمكين أي طرف فلسطيني من الاطلاع على هذه الخطة قبل إعلانها رسمياً، ناهيك بالمشاركة في صياغتها، وليس أمام ممثلي الشعب الفلسطيني، سواء من ينتمي منهم إلى سلطة رام الله أو إلى فصائل المقاومة، سوى قبولها كما هي أو رفضها كما هي، ما ينطوي على ظلم فادح لشعب يعاني منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن من احتلال أراضيه وانتهاك حقوقه الوطنية، ما يعني أن الخيار الوحيد المطروح أمامه هو الانصياع لإرادة الغير في كل ما يتعلق بتقرير مصيره ومستقبله، وهو خيار لا عدل فيه على الإطلاق.
تضمنت خطة ترامب مثالب كثيرة، أخطرها أنها تبنّت رؤية إسرائيلية تدّعي أن ما يحدث في قطاع غزة منذ عامين، هو نتيجة منطقية وردة فعل طبيعية على ما قامت به حماس يوم 7/10/2023، وبالتالي له ما يبرره، وعلى حماس وحدها تحمّل كل ما ينجم عنه من مسؤولية، وهي رؤية تتجاهل كل ما ارتكبته "إسرائيل" من فظائع. فقد أصدرت محكمة العدل الدولية أوامر لـ"إسرائيل" كي تتخذ إجراءات تنفي بها شبهة القيام بأعمال إبادة جماعية، لكنها لم تنصَع لهذه الأوامر، وأصدر العلماء المتخصصون في الإبادة الجماعية والعديد من المنظمات الحقوقية المشهود لها بالحياد والنزاهة بيانات وتقارير عديدة تؤكد أن ما تقوم به يشكل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان، غير أن "إسرائيل" لم تلتفت إلى هذه التقارير والبيانات.
وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال في حق كل من بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء "إسرائيل"، ويوآف غالانت، وزير دفاعه السابق، بعد توفر أدلة عديدة على ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، غير أن "إسرائيل" لم تعر هذه الأوامر أي اهتمام.
ورغم ذلك كله، تعاملت "خطة ترامب" مع ما جرى في قطاع غزة باعتباره المصدر الرئيس للتطرف والإرهاب، واعتبرت أن هدفها الرئيسي يجب أن ينحصر في "إخلاء غزة من التطرف والإرهاب وضمان ألا تشكل تهديداً لجيرانها"، وهو ما تضمنه البند الأول من خطة ترامب التي تجاهلت كل ما أقدمت عليه "إسرائيل" من انتهاكات صارخة لقواعد القانون الدولي الإنساني، حين أقدمت على تدمير قطاع غزة بالكامل، بكل ما يحتويه من مدارس ومستشفيات ومرافق عامة، وحوّلته إلى مكان غير قابل للحياة، وحين قتلت وجرحت وتسببت في اختفاء ما يقرب من ربع مليون نسمة، أي ما يعادل 10 % من إجمالي سكان قطاع غزة، معظمهم من الأطفال والنساء، وحين تعمّدت تجويع وتشريد ومطاردة ما تبقى منهم، وحين حوّلت مراكز توزيع المعونات إلى "مصائد للموت"، بينما كان يجب أن تتضمن خطة ترامب، على الأقل، تشكيل لجنة دولية للتحقيق في ما جرى، سواء إبان عملية "طوفان الأقصى" نفسها أو إبان حرب الإبادة التي شنتها "إسرائيل" على القطاع.
وتأسيساً على هذه الرؤية المنحازة بالمطلق إلى "إسرائيل"، راحت "خطة ترامب" تنسج خيوط ما تقترحه من ألوان الحركة والنشاط، بدءاً بنزع سلاح حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية، وانتهاء بتشكيل حكومة مؤقتة تعمل تحت إشراف "مجلس سلام" يقوده ترامب بنفسه ويضم في عضويته توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، مروراً بتفكيك مصانع الذخيرة والسلاح وتدمير شبكة الأنفاق المقامة تحت الأرض، بينما تجاهلت تماماً الحقوق المتعلقة بالشعب الفلسطيني، خصوصاً ما يمس منها حقه في تقرير مصيره وفي إقامة دولته المستقلة.
فرغم كل ما تفرضه هذه الخطة من أعباء والتزامات على الطرف الفلسطيني، بجميع مكوّناته، حرصت في المقابل على إعفاء الطرف الإسرائيلي من أي أعباء أو تحميله أي التزامات. وعلى سبيل المثال، لم تطالبه الخطة بوقف الاستيطان في الضفة الغربية، أو بوقف الاقتحامات المستفزة لباحات المسجد الأقصى من جانب متدينين متطرفين، أو بتوقف السلطات عن مصادرة الأراضي وهدم البيوت من دون وجه حق، أو بنزع سلاح المستوطنين أو القبض على عناصر متطرفة تطالب بهدم المسجد الأقصى أو تستخدم شعارات عنصرية تحضّ على كراهية الفلسطينيين، من مسلمين ومسيحيين على حد السواء. الأهم من ذلك كله أنها خطة تخلو من أي خارطة طريق تضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة في الأمد المنظور، حتى لو تمكنت السلطة الفلسطينية من إنجاز الإصلاحات المطلوبة منها، وهي كثيرة وغريبة، كما سنشير لاحقاً.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الخطة تنطوي على ألغام كثيرة يتعين الانتباه إلى ما قد تثيره من مخاطر أو تفضي إليه من أزمات. ولأن المجال لا يتسع هنا لاستعراضها بالتفصيل، نكتفي بالإشارة إلى أهمها. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فهي تلقي بمهمة نزع السلاح وتدمير شبكة الأنفاق الضخمة التي قامت حماس بتشييدها على مدى سنوات طوال، على عاتق الدول العربية والإسلامية التي ستتولى تشكيل القوات المسؤولة عن حفظ الأمن في القطاع، وهو ما أكده ترامب في الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الصحفي، ما يحمل في طياته خطر اندلاع مواجهات مع العناصر الفلسطينية المسلحة الرافضة لخطة ترامب، وهو أمر ليس بالمستبعد، خصوصاً أن الكيان يربط انسحابه التدريجي من القطاع بما يحدث من تقدم على صعيد نزع سلاح الفصائل وتدمير الأنفاق. فإذا أضفنا إلى ما تقدم إصرار الكيان على الاحتفاظ بمنطقة عازلة على طول حدوده مع القطاع، ما يعني أن انسحابه من القطاع لن يكون كاملاً، لتبيّن لنا أن وضع خطة ترامب موضع التنفيذ لن يكون بالأمر السهل وسيواجه بصعوبات جمة.
تبدو الخيارات المتاحة أمام الشعب الفلسطيني محدودة، وربما معدومة، تستوي في ذلك الخيارات المتاحة أمام سلطة رام الله أو الخيارات المتاحة أمام الفصائل المسلحة في قطاع غزة. فالخطة تؤكد أنها لن تسمح لسلطة رام الله بلعب أي دور في إدارة شؤون القطاع، بشكل عام، أو في تحديد مستقبل الشعب الفلسطيني، بشكل خاص، إلا بعد قيامها بإصلاحات جذرية.
وحدد نتنياهو مفهومه لهذه الإصلاحات، في الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الصحفي أمام ترامب، على النحو الآتي: "إنهاء سياسة الدفع مقابل القتل، تغيير الكتب المدرسية السامة التي تُعلّم الأطفال الفلسطينيين كراهية اليهود، وقف التحريض في وسائل الإعلام، إنهاء الحرب القانونية المعلنة على "إسرائيل" أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، الاعتراف بالدولة اليهودية، وكذلك العديد من الإصلاحات الأخرى".
ويكفي أن نتوقف أمام أحد هذه المطالب، ألا وهو سحب الدعوى التي رفعتها أمام المحكمة الجنائية الدولية، كي ندرك بوضوح تام أن خطة ترامب تستهدف، ضمن أشياء أخرى كثيرة، غسل يد الكيان تماماً من دم الفلسطينيين وتبرئته من تهمة ما لحق به من إبادة جماعية، وهو مطلب يستحيل على السلطة أن تستجيب له.
أما المطلوب من حماس، ومعها بقية الفصائل الفلسطينية المسلحة، فهو الاستسلام الكامل، بما في ذلك إلقاء السلاح، مقابل "ضمان ممر آمن لمغادرة القطاع". ولأن خطة ترامب ليست معروضة للنقاش أو للأخذ والرد، فلا يوجد أمام حماس سوى الاختيار بين بديلين كلاهما مر: قبول الخطة كما هي أو رفضها كما هي. فقبولها يعني إهدار كل ما تكبّده الشعب الفلسطيني من تضحيات، والاعتراف ضمناً بأن عملية "طوفان الأقصى" تسببت في كل ما عاناه من آلام، وتعدّ بالتالي جريمة ارتكبت في حقه وليست وسيلة لتحريره وانعتاقه، ورفضها سيفسر بعدم المبالاة بمعاناة الشعب الفلسطيني بسبب إصرارها على التمسك بالبقاء في السلطة، وبالتالي تحميلها كامل المسؤولية عن كل ما قد يحدث في المستقبل.
ومع ذلك، فلا شيء يحول في الواقع دون أن تعلن حماس بكل وضوح عن استعدادها لتسليم جميع الأسرى دفعة واحدة، الأحياء منهم والأموات، شريطة الحصول على ضمانات أميركية قاطعة بانسحاب "إسرائيل" من كل شبر من القطاع، وعن استعدادها لتسليم السلاح، ولكن في حالة واحدة فقط هي الحصول على ضمانات أميركية قاطعة تتمن خارطة طريق محددة زمنياً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على جميع الأراضي المحتلة عام 1967.
صحيح أن ذلك قد يعد من جانب الولايات المتحدة والكيان رفضاً للخطة المطروحة، غير أنه يجب أن لا ننسى أن الكيان الصهيوني في مأزق شديد هو الآخر، لأن الرأي العام العالمي انقلب ضده تماماً، وأن القبول بخريطة ترامب في مثل هذه الحالة سيكون أقصر الطرق لإخراجه من مأزقه. ويفترض أن هذا ليس هو ما تسعى إليه حماس، وعلينا ألا نفقد الثقة أبداً بأن النصر سيكون من نصيب الشعب الفلسطيني في النهاية، طال الزمن أم قصر.