كلام حول الدولة الفلسطينية
فيما يخصّ الموجة الأخيرة من الاعترافات الدولية بفكرة الدولة الفلسطينية، فيمكن مقاربتها من زاويتين مختلفتين كلّ الاختلاف، زاوية ثانوية وزاوية أساسية.
-
ما بين قمة الرباط وقمة القاهرة، كانت الأحداث تذهب نحو تحويل المنظمة إلى مشروع كياني.
عندما تقدّمت دولة نفطية كبيرة باقتراح حلّ الدولتين، راحت فضائيات معروفة تروّج الاقتراح كما لو أنه وليد ساعته، وعندما تقدّمت الدولة نفسها باقتراح (الدولة الفلسطينية) كرّرت الفضائيات المذكورة ما فعلته بخصوص اقتراح حلّ الدولتين، علماً بأنّ الاقتراحين المذكورين اقتراحان قديمان أكل الدهر عليهما وشرب.
بعد جولة لجنة بيل على فلسطين والمنطقة عام 1937، اقترحت اللجنة حلّ الدولتين بما في ذلك الدولة الفلسطينية العربية وانتشرت أغنية ساخرة في حينها (دبّرها يا مستر بيل، بلكي على إيدك بتحلّ) وسقط الاقتراح بالرفض المتبادل بين العصابات اليهودية وثورة فلسطين الكبرى.
بعد عقد بالتمام والكمال وتحديداً عام 1947 تبنّت هيئة الأمم الجديدة (وريثة عصبة الأمم السابقة) قراراً يقضي بتقسيم فلسطين بين دولتين بما في ذلك الدولة الفلسطينية العربية إلى جانب الكيان الصهيوني، وقد حظي القرار بتأييد سريع من واشنطن وموسكو معاً؛ الأولى في سياق القرارات السرية لمؤتمر بلتيمور 1944 (أول وأخطر مؤتمر للحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في الولايات المتحدة) والذي بدأ يلحظ تقدّم الإمبريالية الأميركية على سلّم الإمبريالية العالمية وتراجع الإمبريالية البريطانية، ناهيك بالفضاء الثقافي المشترك مع الصهيونية المسيحية (من أشدّ خصومها المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية).
أما موسكو فقد وافقت على القرار في ضوء اعتبارات مختلفة بعد أن ظلّت حتى حلّ الكومنترن الشيوعي عام 1943 من أشدّ الرافضين لفكرة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وهو الموضوع الذي سنتناوله قريباً، وملخّصه تداعيات تعاون الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين مع النازية الألمانية وتحريض الجنود المسلمين في الجيش الأحمر على الانشقاق، وهو التحريض الذي تكرّر أيضاً خلال الحرب الأهلية الإسبانية مع الجنود المغاربة في جيش فرانكو ضدّ اليسار الإسباني.
من المعروف أنه بعيد نكبة فلسطين 1948 تمّ إلحاق قطاع غزة بالإدارة المصرية، الملكية ثمّ الجمهورية، وتمّ إلحاق الضفة الغربية بالأردن في إطار المملكة الأردنية الهاشمية، لكنّ الفلسطينيين بقيادة الهيئة العربية العليا ورئيسها الحاج أمين الحسيني، راحوا يتحدّثون عن دولة فلسطينية مستقلة بدءاً من تشكيل حكومة عرفت باسم حكومة عموم فلسطين.
وقد ظلّت الحكومة المذكورة ومقرّها القاهرة قائمة لعدة سنوات، كما ظلّ القطاع (قطاع غزة) مرتبطاً بالحكم المصري وظلّت الضفة الغربية جزءاً من الأردن حتى قرار الرباط 1974 وفكّ الارتباط 1987، إلى جانب تطوّر العديد من المبادرات العربية نحو صيغة فلسطينية مستقلة.
ففي مطلع ستينيات القرن العشرين، وفي سياقات متباينة بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس العراقي عبد الكريم قاسم وحربهما من مواقع مختلفة مع الأحلاف الاستعمارية مثل حلف بغداد والحلف الإسلامي، احتلت القضية الفلسطينية أهمية بالغة في هذه الحروب كما في الصراع العربي الصهيوني، وتقاطعت أفكار القاهرة وبغداد حول فكرة الكيان الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني من جهة واتحاد الضفتين تحت العرش الهاشمي من جهة أخرى.
كان مؤتمر شتورة الذي عقده وزراء الخارجية العرب عام 1960 محطة أساسية في تلك المناخات، وذلك حين أجمع المؤتمر على فكرة الكيان الفلسطيني، وكانت الضفة الغربية لنهر الأردن هي المقصودة، ومن مفارقات ذلك أنّ الوفد الأردني وافق على مقترح المؤتمر بعد اتصال مع رئيس وزراء الأردن آنذاك، هزّاع المجالي، الذي أيّد الفكرة بالرغم من خلافه المعروف مع القاهرة صاحبة المشروع (قتل المجالي بعد ذلك بأيام بتفجير مقرّ الحكومة في عمان).
انطلاقاً من ذلك وبوحي مؤتمر شتورة، أشرفت القاهرة بقيادة عبد الناصر على إطلاق وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري، لتكون المنظّمة بمثابة صوت الفلسطينيين وممثّلهم، وتكرّس ذلك في القمة العربية في مصر عام 1964، قبل أن تضاف لهذا التمثيل صفة الشرعي والوحيد في قمة الرباط 1974.
ما بين قمة الرباط وقمة القاهرة، كانت الأحداث تذهب نحو تحويل المنظمة إلى مشروع كياني يخلّص النظام الرسمي العربي من هذه المسؤولية، فمن العدوان الصهيوني 1967 الذي سقطت فيه الضفة الغربية وكذلك قطاع غزة تحت الاحتلال الصهيوني وفقدت الأردن ومصر الإدارة والسيطرة المباشرة عليهما، إلى أحداث أيلول 1970 في الأردن، التي جرى تسويقها عمداً كحرب أهلية أردنية ــــــ فلسطينية بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، وذلك في سياق الاقتراب أكثر من كيان فلسطيني، اشترك العدو الصهيوني نفسه في الصراع عليه حين حرّك أعوانه في الضفة الغربية لإقامة كيان منفصل عن الأردن ومرتبط بـ "تل أبيب".
وحيث سنتناول لاحقاً حقيقة أحداث أيلول 1970 كامتداد لاستقطابات إقليمية ودولية وكصراع أفقي، بين تحالف فلسطيني ـــــ أردني ضمّ المقاومة والحركة الوطنية الأردنية وبين تحالف فلسطيني ـــــ أردني من البرجوازيات التي تمثّل الأردنيين والفلسطينيين، فإنّ هذه الأحداث في صبغتها الدموية المؤسفة ساهمت في شرخ عمودي مبرمج تبنّاه السادات الذي كان مع المغرب من أكثر المتحمّسين لقرار فكّ الارتباط وإقامة كيان فلسطيني في الضفة.
وفي كلّ الأحوال، ومع اتساع التداعيات المتتالية أصبح الحديث عن وحدة الضفتين تغميساً خارج الصحن، وأصبحت القضية الفلسطينية أكثر ارتباطاً بفكرة الكيان الفلسطيني، التي تكرّست عملياً مع الانتفاضة الأولى، وكان يمكن أن تحافظ على زخمها الكفاحي الجديد لو ظلّت في إطار حركة التحرّر الوطني العربية واستحقاقات الصراع العربي الصهيوني كصراع ضدّ الإمبريالية ومشاريعها في عموم الشرق الأوسط.
ولقد اتضح في أمثلة عديدة وليس عند الفلسطينيين وحدهم، أنّ حديث الدولة المستقلة في الأقاليم الحسّاسة للجغرافيا السياسية حديث باهظ الثمن من حيث انزلاقاته الأكيدة على رقعة اللاعبين الفاعلين من المعسكر الآخر، وبوسع أيّ منا أن يلمس تداعيات الثمن المذكور عند الكرد وغيرهم الذين انزلقوا مرات عديدة وانتهوا في كلّ مرة في لعبة الصفقات الدولية.
منذ المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الجزائر ورفع الأيدي على طريق الدولة الفلسطينية، لم يتغيّر شيء على الصعيد الفلسطيني فيما العدو وخاصة في مرحلة الصهيونية الدينية واصل جرائمه وابتلاع الأرض (400 مستوطنة وبؤرة استيطانية في الضفة الغربية بعد أوسلو).
أما فيما يخصّ الموجة الأخيرة من الاعترافات الدولية بفكرة الدولة الفلسطينية، فيمكن مقاربتها من زاويتين مختلفتين كلّ الاختلاف، زاوية ثانوية وزاوية أساسية.
الزاوية الثانوية، على ما فيها من صكّ براءة من دم يوسف وإنقاذ الخطاب الليبرالي الذي سقط في رمال غزة، فإنّ هذه الموجة اعتراف بالقضية الفلسطينية وعدالتها، ولا تسر نتنياهو بالتأكيد، وينبغي الاستفادة منها والمراكمة عليها في نقاط محدّدة، مثل التعبئة ضدّ العدو وتأكيد الحقّ العربي الفلسطيني، وما كان لهذه الموجة أن تأخذ هذا الشكل لولا الصمود الفلسطيني من جهة، والجرائم الصهيونية الوحشية غير المسبوقة، ومن المهم التأكيد دائماً أنّنا نتحدّث هنا عن مجال محدّد هو المجال الإعلامي العالمي وخاصة الأوروبي وليس عن المجال العربي للصراع الكبير.
الزاوية الأساسية، مرتبطة بتاريخ فكرة الدولة منذ أن أصبحت في مجال التداول ابتداء من المرحلة الساداتية ومرتبطة أيضاً بالوظيفة السياسية لهذه الفكرة في العقل الإمبريالي والرجعي العربي:
- فهي لم تطرح في سياق الكفاح التحرّري ونتائجه وسياقاته، بل بديلاً عنه.
- إزاحة نحو فكرة الدولة الموهومة على حساب خط المقاومة ومشروع التحرّر الوطني ومقتضياته، وفي المقدّمة منها تأكيد البعد العربي للصراع مع العدو بوصفه صراعاً ضدّ الهيمنة والتبعية وبالتالي تحميل العرب كلّهم عبء هذا الصراع، بل أنّ القضية الفلسطينية أصلاً نتيجة له وليست السبب المباشر فيه، ويتعلّق هذا الصراع منذ أيام محمد علي مروراً بمرحلة عبد الناصر وإلى يومنا هذا بالسيطرة على المفاتيح البرية والبحرية لقلب العالم الجنوبي.
فنشأة هذا الكيان الصهيوني ارتبطت ببعدين خارجيين، محطة بريطانية على طريق الهند الشرقية، ومحطة مصرية أثارتها محاولات محمد علي إقامة قوس مصري شامي، ممّا اقتضى في العقل الغربي إقامة "بافر ستيت" صهيوني يعزل مصر عن بلاد الشام.
- أنها فكرة على طريق كونفدرالية أردنية ـــــ فلسطينية باسم المملكة المتحدة، بحيث يتمّ إلحاق ما تبقّى من الضفة بالأردن بعد إعلان الدولة، وإذا كانت هناك أصوات مؤثّرة أردنياً وفلسطينياً ترفض ذلك، فثمة ما يقال عن سيناريوهات لترويض هذا الرفض وقد تتضمّن أشكالاً مختلفة من إعادة الهيكلة هنا وهناك.