الوحدة المصرية السورية في ذكراها.. أعداء الوحدة يتجدّدون والحاجة لها تتضاعف

سنبقى نراوح مكاننا إذا لم تقم تجربة جديدة لبناء القوس المصري – السوري، كرافعة تاريخية مناهضة بالضرورة للتحالف الإمبريالي - الصهيوني- الرجعي – العثماني.

  • أثارت استراتيجية القوس المصري – السوري أحقاد ومخاوف الاستعمار البريطاني
    أثارت استراتيجية القوس المصري – السوري أحقاد ومخاوف الاستعمار البريطاني

شكّلت مصر وسوريا، أهم قوس استراتيجي في تاريخ الأمة التي اعتمد نهوضها في كل مرة على هذا القوس وتكامله ضمن خطاب سياسي – اجتماعي متصادم بالضرورة مع موجات الغزو المتتالية، من أوروبا الإقطاعية، مرحلة ما يعرف بالحملات الصليبية، إلى أوروبا الرأسمالية ثم المنظومة الإمبريالية العالمية ومن يتصدّرها في كل حقبة. 

إضافة إلى الأدبيات الناصرية وخاصة فلسفة الثورة والميثاق لجمال عبد الناصر، وكتابات نديم البيطار وأنور عبد الملك وعصمت سيف الدولة وسمير أمين وياسين الحافظ، فإن كتابات المفكّر المصري، جمال حمدان، شكّلت ولا تزال الخلفية الاستراتيجية لبناء تصوّرات جيوبولوتيكية تدعم وتؤطر فكرة القوس المصري السوري وأهميته الحيوية لاشتباك تاريخي مع الغزاة وللتأسيس للرافعة الكبرى لنهوض الأمة ووحدتها. 

وليس بلا معنى أن محاولات الاقتراب من هذا القوس، اتسمت بملامح وقواسم مشتركة على الصعيدين الإقليمي والدولي، بصرف النظر، أولاً، عن السمات الاجتماعية والطبقية للقوى السياسية النافذة التي تتطلّع إلى دور إقليمي انطلاقاً من هذا القوس، وثانياَ بصرف النظر عن المرحلة التاريخية. 

التجربة الأولى.. محمد علي

في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، اصطدم حاكم مصر القوي، محمد علي باشا، بقوى محلية وإقليمية ودولية لم ترق لها نهضة مصر وترجمة هذه النهضة بدور محوري، يتكامل مع بلاد الشام من موقع الشوكة والاستقلال في مواجهة الغزاة. 

بداية، وبالتقاطع مع مخاوف الباب العالي العثماني من التحالف الوهابي – السعودي (آل السعود وآل الشيخ) اندفعت القوات المصرية إلى الحجاز ثم إلى نجد وخاصة الدرعية وتمكّنت من تصفية الحركة الوهابية، التي كانت قد ارتبطت مع قلم الاستخبارات في شركة الهند الشرقية البريطانية، وفق اعترافات بيركهارت، الذي تحوّل من عالم آثار سويسري إلى مبعوث للمخابرات البريطانية باسم الشيخ عبد الله اللوزاني، وكان من أهم قنوات الاتصال مع الوهابيين وتزويدهم بالمال والبنادق الحديثة. 

في مرحلة لاحقة، وبعد أن استشعر محمد علي ضعف الاحتلال العثماني وسلاطينه في إسطنبول، دفع قواته إلى سوريا الطبيعية (سوريا الحالية أو الشام بلغة القوميين السوريين، فلسطين، الأردن ولبنان)، وتمكّنت القوات المصرية بقيادة إبراهيم باشا من سحق الجيوش العثمانية وقتل وأسر عشرات الآلاف منها، ثم الزحف إلى إسطنبول وضرب حصار عليها مقدّمة لإنهاء السلطنة فيها ونقل المركز إلى القاهرة. 

خلال هذه السنوات، أطلق المصريون مشروعاً جديداً في المناطق التي حرّروها من الاحتلال العثماني ومن ربقة التحالف السعودي الوهابي، ومن ذلك تحديث الإدارة والجيش وسك العملة، وفرض نمط من الضرائب الحديثة بدل الجباية العثمانية الإقطاعية، وكذلك توسيع البيمارستانات وإقامة العديد من مدارس التجهيز الإعدادية، كما أطلقوا موجة واسعة من التسامح بين المذاهب والطوائف وحوّلوا الأزهر إلى مرجعية فقهية ضمن التوجّه الجديد. 

بالطبع وبالتأكيد وبسبب الطبيعة الطبقية للحكم الجديد ونزعاته الرأسمالية المبكرة بالتعاون مع الفرنسيين، ترافقت هذه الإدارة مع أساليب وسياسات استخدمت من قبل خصوم محمد علي للتحريض عليه. 

في المقابل، أثارت استراتيجية القوس المصري – السوري أحقاد ومخاوف الاستعمار البريطاني إضافة إلى الباب العالي العثماني، وكذلك قوى عديدة عشائرية وطائفية منها الحركة الوهابية، فتجمّعت كل هذه القوى حول البعثات البريطانية ومعظمها من الجواسيس وشكّلت (جبهة) واسعة ضد المصريين، ومن ذلك: 

- تحريض تجار الشام وبيروت والقبائل في فلسطين وشرق الأردن ضد محمد علي وشن حملة واسعة في الصحافة البريطانية نفسها، ويشار هنا إلى حصار إبراهيم باشا، قائد الجيوش المصرية لقلعة الكرك في شرق الأردن، بعد أن هرب إليها عدد من قادة التمرد في جبال نابلس المدعومين من المخابرات البريطانية، ومن المؤسف أن هناك من اعتبر التحالف بين قادة التمرد في نابلس والكرك ضد توحيد مصر وسوريا جزءاً من التاريخ الوطني. 

- بيد أن الأخطر من كل ذلك هو مؤتمر لندن الذي عقد بدعم ورعاية عائلة روتشيلد اليهودية وبالتنسيق مع رئيس وزراء الإمبريالية البريطانية آنذاك، وهو دزرائيلي (من أصول يهودية). وقد شارك في المؤتمر إضافة إلى ممثلي الحكومة البريطانية وروتشيلد نفسه، ممثلون عن إمبراطورية النمسا – المجر، وروسيا القيصرية، وقرّروا حشد قوة بحرية وبرية لإجبار محمد علي على فك الحصار عن إسطنبول والانسحاب من سوريا. وعندما أدرك محمد علي صعوبة هذا الموقف بعد تخلّي فرنسا عنه، انصاع لمطالب مؤتمر لندن. 

التجربة الثانية.. عبد الناصر

بعد أقل من قرن على تجربة الوحدة المصرية السورية الأولى، تشكّلت ظروف شبيهة إلى حد ما من حيث، ظهور زعيم قوي بكاريزما تاريخية هو جمال عبد الناصر، ومن حيث الدور البريطاني ومعه القوة الإمبريالية الجديدة ممثلة بالولايات المتحدة، ومن حيث الدور التركي، وكذلك دور الوهابية وجماعات التجار وأوساط من القبائل وتجار الدين. 

بعد سنوات قليلة من ثورة تموز/يوليو 1952 في مصر، وجدت الثورة نفسها بقيادة جمال عبد الناصر في مواجهة تحديات داخلية وخارجية متشابكة: الكيان الصهيوني، رواسب الإقطاع، وشركة قناة السويس البريطانية وأصابعها من البرجوازية الطفيلية وبقايا حكم الملكية الفاسدة وجماعات حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين والإسلام السياسي المموّل من هذه الشركة.

فكان تأميم قناة السويس في الداخل والتصدي لحلف بغداد في الخارج (الحلف هو الذراع العسكري الجنوبي لحلف الأطلسي ومركزه الإقليمي، التركي – العراقي)، كما أدركت الثورة الناصرية مبكراً أن المعركة في بر مصر شديدة الصلة بالمعركة في بر سوريا والأمة عموماً، بل أن المتروبولات الإمبريالية وخاصة لندن وواشنطن سرعان ما راحت تطوّق الثورة المصرية من خلال محاولات الاستحواذ على الشرق العربي وخاصة سوريا.

وعندما فشلت في جر دمشق إلى حلف أنقرة – بغداد، دفعت القوات التركية إلى احتلال شمال سوريا 1957 وشق الجيش السوري (الفتي) بمجموعات منشقة تحت عنوان (الجيش الحر) مرتبطة بحكومة انتقالية تديرها بريطانيا والولايات المتحدة من تركيا (النسخة الأصلية لما شهدته سوريا في العشرية السوداء)، وقد شارك في حكومة الائتلاف العميلة آنذاك بقايا الرواسب الإقطاعية والبرجوازيات الطفيلية وأوساط ليبرالية وجماعة الإخوان المسلمين والإرهاصات الأولى للوهابية خارج حدود السعودية وقطر.

في هذه اللحظة التاريخية، أصرت القوى الوطنية السورية بكل تياراتها على إقامة وحدة كاملة مع مصر برئاسة جمال عبد الناصر، ومع أن مصر لم تكن مستعدة تماماً لهذه التجربة، فقد تجاوبت معها بسرعة.

وكما في مشهد القرن التاسع عشر، وجدت الوحدة المصرية السورية الجديدة (1958 – 1961) نفسها أمام قوى وأساليب وأدوات وتحالفات وسياسات تشبه سابقتها: بريطانيا من جديد ومعها الولايات المتحدة، تركيا المحمولة من الغرب الرأسمالي الاستعماري، والوهابية بثوبها الجديد، إضافة إلى رشوة وتحريض واسعين في أوساط قبلية وطائفية تحت العنوان نفسه (التخلص من الاستعمار المصري). 

أيضاً، إذا كانت اليهودية العالمية قد تحرّكت ضد محمد علي من خلال روتشيلد وبيوتاته المالية في القرن التاسع عشر، فقد عادت في التجربة الجديدة من خلال الروتشيلدية الجديدة وأداتها الكولونيالية الاستياطنية باسم الكيان الإسرائيلي، بل إن هذا الكيان وبتوصية روتشيلد من خلال ما عرف بصندوق اكتشاف فلسطين لتمويل الاستيطان اليهودي، هو الذي نصح بريطانيا والغرب بإقامة "بافر ستيت" يهودي في فلسطين بعد احتلالها، يفصل مصر عن سوريا الطبيعية ولا يسمح بتكرار تجربة محمد علي.

ومن المؤسف أن مصير الوحدة الجديدة لم يكن أفضل من سابقتها بعد الانفصال الذي شاركت فيه قوى متعددة، ولم تشكّل أخطاء الوحدة مبرّراً حقيقياً للانفصال الذي يعود في حقيقته إلى التآمر الخارجي ودور المخابرات البريطانية والأميركية وأعوانهما السياسيين وقوى البرجوازية التي تضرّرت من قوانين التأميم والإصلاح الزراعي. ومن المؤسف كذلك أن مواقف قوى محسوبة على الحركة الوطنية قدّمت غطاء لهذا الانفصال، إضافة إلى رفض جمال عبد الناصر الدفاع عن الوحدة بالقوة، متجاهلاً أنه ما من وحدة قومية في التاريخ قامت بطريقة سلمية ومن دون شلال من الدم.

وما زلنا وسنبقى نراوح مكاننا إذا لم تقم تجربة ثالثة لبناء القوس المصري – السوري كرافعة تاريخية مناهضة بالضرورة للتحالف الإمبريالي - الصهيوني- الرجعي– العثماني، فإما هذا القوس التاريخي وإما كيانات برسم التشظي إلى هويات قاتلة وكانتونات طائفية وجهوية ومجالات حيوية يتقاسمها العدو الصهيوني والعثمانيون الجدد تحت سقف الإمبريالية العالمية.