خيارات المقاومة الفلسطينية في المرحلة المقبلة

الأهداف التي تسعى حركات المقاومة المسلحة لتحقيقها، تتباين جوهرياً عن تلك التي تسعى الأحزاب السياسية لتحقيقها، فبينما تسعى الأولى لتحرير أوطان محتلة، تسعى الثانية للوصول إلى السلطة في أوطان محرّرة.

  • هل يشعر الشعب الفلسطيني بأن قضيته بدأت تدخل مرحلة التصفية الفعلية؟
    هل يشعر الشعب الفلسطيني بأن قضيته بدأت تدخل مرحلة التصفية الفعلية؟

ما إن رفض نتنياهو استكمال تنفيذ الاتفاق، الذي وقّعه يوم الـ19 من كانون الثاني/يناير الماضي، مفضّلاً استئناف الحرب على الدخول في مفاوضات تُلزمه بالبدء في تنفيذ المرحلة الثانية، حتى عاد الجدل ليحتدم من جديد بشأن خيارات المقاومة الفلسطينية في المرحلة المقبلة. لهذا الجدل تفريعات متباينة، لكنه يدور أساساً بين فريقين يقفان على طرفي نقيض.

الأول يرى أن فصائل المقاومة الفلسطينية استطاعت الصمود في حرب إبادة جماعية شنتها آلة الحرب الإسرائيلية طوال ما يقرب من خمسة عشر شهراً متواصلة، وتمكّنت من منع الكيان من تحقيق أي من أهدافه المعلَنة، على رغم تضحيات هائلة تكبّدها الشعب الفلسطيني كله، وأن الخيار الوحيد المطروح أمامها الآن هو مواصلة النضال حتى النهاية، وإلا لذهبت كل التضحيات السابقة سدىً.

أما الثاني، فيرى أن الوضع الجيوسياسي تغير الآن تماماً، وخصوصاً بعد خروج حزب الله من معادلة الصراع، وسقوط نظام بشار الأسد، ودخول ترامب البيت الأبيض، وأن الخيار الوحيد المطروح الآن هو أن تعلن المقاومة استسلامها، وتقبل تسليم أسلحتها وترحيل قياداتها وكوادرها الأساسية إلى خارج الأراضي الفلسطينية، من أجل المحافظة على ما تبقى من أرواح المقاتلين، ولإنقاذ أكثر من مليونَي مدني أصبحوا معرَّضين للتهجير القسري أو الإبادة الجماعية والتطهير العرقي إذا أصرّت فصائل المقاومة على مواصلة القتال.

ليس الهدف من هذا المقال مناقشة وجهتي النظر هاتين، سعياً وراء ترجيح كفّة إحداهما على الأخرى، فكتاباتي السابقة تُفصح بوضوح عن انتمائي إلى التيار الداعم للمقاومة الفلسطينية بكل فصائلها، وتفهّمي التام للدوافع التي حدت بحماس إلى قيادة عملية "طوفان الأقصى" وتنفيذها، وإعجابي اللامحدود بالصمود الأسطوري للمقاتل الفلسطيني أمام آلة حرب جهنمية لم تتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم في حق الإنسانية.

لذا، سأكتفي هنا بمناقشة وجهة النظر النقيضة، التي ترى أن حماس أخطأت في حساباتها وتسبّبت بنكبة كبرى أخرى للشعب الفلسطيني، وبالتالي لم يعد أمامها سوى الاستسلام وإلقاء السلاح والرحيل بعيداً عن قطاع غزة. صحيح أن البعض يرى أنها وجهة نظر لا تستحق النقاش، لأنها تصبّ مباشرة في مصلحة كل من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية، وتتبنى مطالبهما بالكامل، غير أنني أعتقد أن من حق الأجيال الشابة أن نشركها في مناقشة كل وجهات النظر، بأكبر قدر ممكن من الموضوعية، ومن دون تخوين أو تجريح.

تنطلق وجهة النظر الثانية من فرضية مفادها أن حرب الإبادة الجماعية، التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، منذ أكثر من خمسة عشر شهراً، لم تكن سوى رد فعل متوقع من جانبه على عملية "طوفان الأقصى"، غير أن هذه الفرضية تغفل، أو بالأحرى تتغافل عن حقيقة أخرى، مفادها أن عملية "الطوفان" هذه لم تتم إلا بعد ما يقرب من عام كامل من تقلد حكومة يمينية شديدة التطرف مقاليد السلطة في هذا الكيان.

ولأن أكثر أجنحة هذه الحكومة تطرفاً، وخصوصاً تلك التي يمثلها كل من إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، هي التي تشكل مركز الثقل الرئيس فيها، فلقد تمكنت من فرض أجندتها السياسية الخاصة على الائتلاف الحاكم ككل، وخصوصاً في كل الأمور التي تتعلق بالعلاقة بفلسطينيي الداخل وبمصير القضية الفلسطينية بصورة عامة. ويشير سلوك هذه الحكومة، طوال العام الذي سبق اندلاع "الطوفان"، إلى أنها سعت لإغلاق جميع السبل المؤدية إلى التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، وراحت تقوم بتكثيف الأنشطة الاستيطانية بطريقة غير مسبوقة، تمهيداً لإعلان ضم الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين إلى الأردن، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تواصل جهودها الحثيثة لتوسيع نطاق الدول العربية المطبّعة مع "إسرائيل" لتشمل المملكة العربية السعودية.

ولأن احتمال إقدام حكومة إسرائيلية شديدة التطرف على الاعتراف بقيام دولة فلسطينية مستقلة كان مستبعَداً تماماً في هذه الظروف، تولَّدَ لدى الشعب الفلسطيني شعور عميق بأن قضيته بدأت تدخل مرحلة التصفية الفعلية، وهو ما يفسر إقدام حماس على تنفيذ عملية "طوفان الأقصى" في هذا التوقيت بالذات. لذا، لن يكون من الإنصاف أبداً توجيه اللوم إلى حماس، بسبب نجاحها في خداع أجهزة الكيان، وفي تكبيد جيشه ومستوطناته أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية، أو في تحميلها فاتورة الأخطاء التي وقعت فيها هذه المؤسسات، وتسببت بما لحق بسمعتها من عار خلال عملية "الطوفان" وبعدها.

فهذه مسؤولية تقع على عاتق النخب الإسرائيلية، التي كان ينبغي لها أن تضغط بكل قواها للمطالبة بتشكيل لجنة تقصي حقائق تتولى تحديد المسؤوليات، واقتراح التوصيات اللازمة لمعاقبة المتسببين بما وقع للكيان من أضرار، وخصوصاً أن حرب الإبادة الجماعية، التي قرر نتنياهو شنها على الشعب الفلسطيني، كانت، في أحد أبعادها على الأقل، محاولة لتمكينه من التهرب من المسؤولية والبقاء في سدة الحكم أطول فترة ممكنة.

لا يتّسع المجال هنا للتوقف أمام منجزات متعددة حققها "الطوفان" بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فهذا ليس موضوعنا. ومع التسليم بأن وضع المقاومة الفلسطينية المسلحة أصبح اليوم شديد الصعوبة والتعقيد، وخصوصا بعد خروج حزب الله من المواجهة وسقوط نظام بشار الأسد وتولي ترامب مقاليد السلطة من جديد في الولايات المتحدة، إلا أن المقاومة لم تُهزَم ولا تزال صامدة، بل إنها قادرة على مواصلة الصمود أشهراً طويلة بعدُ، وخصوصا أن كل الخيارات المطروحة عليها حالياً ليست سيئة فحسب، وإنما ستؤدي أيضا إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وإلى زعزعة الاستقرار في المنطقة ككل. وكي ندرك حقيقة الخيارات المطروحة حالياً على حماس، علينا أن نميز بين المَطالب الإسرائيلية المتعلقة بالإصرار على عدم مشاركتها في حكم قطاع غزة في مرحلة ما بعد الوقف النهائي لإطلاق النار، وهذا خيار قابل للتعامل معه من دون إلحاق أضرار كبير بمستقبل القضية الفلسطينية نفسها، وبين المَطالب المتعلقة بالإصرار على نزع سلاحها وسلاح سائر فصائل المقاومة، وهو خيار يصعب التعامل معه، ويطرح قضايا شديدة التعقيد تتعلق بأمن الشعب الفلسطيني ككل وحمايته.

معلوم أن الأهداف، التي تسعى حركات المقاومة المسلحة لتحقيقها، تتباين جوهرياً عن تلك التي تسعى الأحزاب السياسية لتحقيقها، فبينما تسعى الأولى لتحرير أوطان محتلة، تسعى الثانية للوصول إلى السلطة في أوطان محرّرة.

ولأن للقضية الفلسطينية خصوصية لا تحتاج إلى بيان، يُتوقع من حركة، لها حجم حماس، أن ترجّح كفة الهدف المتعلق بتحرير الوطن المحتل على كفة الوصول إلى السلطة في حال ظهور تناقض بينهما، الأمر الذي يعني تغليب هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الهدف المتعلق بحكم وطن لم يتحرّر بعدُ، وهو ما تأكَّدَ بالفعل. لقد بات من المسلَّم به أن حركة حماس لم تعد تصرَ على حكم قطاع غزة بعد رحيل القوات الإسرائيلية عنه، وأنها قبلت اقتراحاً مصرياً يقضي بأن تتولى لجنة مشكَّلة من تكنوقراط لا ينتمون إلى أي أحزاب سياسية أو فصائل مسلحة إدارة القطاع تحت إشراف سلطة رام الله، وذلك خلال فترة انتقالية تجرى خلالها انتخابات رئاسية وبرلمانية في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية. لذا، يمكن القول إن الكرة أصبحت الآن في ملعب الكيان الصهيوني بشأن هذه المسألة تحديداً.

كل ما هو مطلوب من هذا الكيان أن يلتزم خريطة طريق، يضمنها المجتمع الدولي، تُفضي إلى قيام دولة فلسطينية خلال فترة زمنية معقولة كي يضمن تخلي حماس عن حكم قطاع غزة عقب انسحاب القوات الإسرائيلية منه. أما المَطلب الخاص بنزع سلاح حماس، ومعه سلاح سائر فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، فتلك قصة أخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأمن الشعب الفلسطيني وحمايته. فلمن يتعين أن تسلم المقاومة الفلسطينية سلاحها، وهل سيقتصر ذلك على فصائل المقاومة الموجودة في قطاع غزة، أم سيشمل الضفة الغربية أيضاً؟ ومن يستطيع ضمان عدم إقدام "إسرائيل" على عمليات تطهير عرقي، أو إبادة جماعية واسعة النطاق، أو تهجير قسري للشعب الفلسطيني، بعد نزع سلاح المقاومة؟ 

الاحتمال الوحيد، الذي يضمن قبول فصائل المقاومة الفلسطينية التخلي عن سلاحها، هو أن يُعهَد بمسؤولية نزع سلاحها إلى قوات تابعة للأمم المتحدة، تشكَّل بقرار من مجلس الأمن، وفقاً للفصل السابع من الميثاق، وتنتشر في الضفة الغربية وقطاع غزة كوحدة واحدة جغرافية واحدة، وتزوَّد بصلاحيات أوسع تشمل الإشراف على تنفيذ خريطة طريق لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا عبر خطوتين أخريين متوازيتين ومتكاملتين، الأولى: تفكيك جميع المستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية.

والثانية: الإشراف على انتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية تتنافس فيها جميع القوى السياسية، وتُفضي إلى تشكيل سلطة تمثل الشعب الفلسطيني بكل تياراته السياسية وفئاته الاجتماعية. ولأن احتمال موافقة الحكومة الإسرائيلية الحالية على تصور من هذا النوع يكاد يرقى إلى مستوى المستحيلات، فإن المطالبة بنزع سلاح فصائل المقاومة الفلسطينية، وبنفي قياداتها إلى خارج الأراضي الفلسطينية، لن تُفضي إلا إلى نتيجة واحدة، هي تمهيد الطريق أمام نظام فصل عنصري لإكمال مهمته الرامية إلى التطهير العرقي للشعب الفلسطيني، ونفي من تبقى منه إلى خارج وطنه. لذا، لا يوجد خيار أمام الشعب الفلسطيني سوى مواصلة الصمود مهما بلغت التضحيات، وعلى الأنظمة العربية والإسلامية والمجتمع الدولي والضمير الإنساني تحمُّل مسؤولياتها التاريخية لمنع الكيان الصهيوني من ارتكاب "هولوكست" آخر في حق الشعب الفلسطيني.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.