قرار التقسيم وتداعياته: الوهم السوفياتي

قرار تقسيم فلسطين 1947 شكّل ولا يزال المرجعية السياسية للنظام الرسمي، العربي والدولي ومجمل تصوّراته ومشاريعه حول ما يعرف بحلّ الدولتين.

  • قرار تقسيم فلسطين.. التاريخ والتداعيات.
    قرار تقسيم فلسطين.. التاريخ والتداعيات.

من الصعب فصل أيّة قرارات أو اتفاقيات ومعاهدات ومشاريع طرحت أو رفضت حول القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، عن قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، والقاضي بتمزيق أو تقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، علماً بأنّ القوى التي كانت تمثّل الجانب اليهودي آنذاك كانت عصابات إجرامية إرهابية، بعضها كان مصنّفاً على قوائم الإرهاب في بريطانيا نفسها. 

نستعيد الحديث عن هذا القرار وحيثياته، ليس فقط تزامناً مع تاريخه في تشرين الثاني/نوفمبر بل لأنه شكّل ولا يزال المرجعية السياسية للنظام الرسمي، العربي والدولي ومجمل تصوّراته ومشاريعه حول ما يعرف بحلّ الدولتين، في سياق تغذية الأوهام وصرف الانتباه عن قانون التناقض الرئيسي وخط القتال والمقاومة وعن الحقّ الطبيعي للشعب الفلسطيني في أرضه التاريخية. 

إذا كان موقف المنظومة الإمبريالية عموماً ومعها النظام الرسمي العربي موقفاً متوقّعاً في تبنّي هذا القرار المجحف والمتعسّف والدفاع عنه والتأسيس عليه، فثمّة حاجة لفهم الموقف السوفياتي تحديداً الذي كان حجر الزاوية في تشوّش الموقف العربي العامّ والذي انعكس خصوصاً على مجمل الحركة الشيوعية العربية والعالمية. 

حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية لا يوجد نصّ واحد في الأدبيات الاشتراكية وكتابات روّادها ومؤسسيها من الألمان والروس، متعاطف مع الحركة الصهيونية ومشروعها الكياني في فلسطين المحتلة، بل إنّ ماركس اتهم بالعداء للسامية بسبب كرّاسه المعروف "المسألة اليهودية"، وكذلك رفيقه انجلز، الذي وصف اليهود بأنهم جماعة من القبائل الهمجية الجوّابة والمرتزقة التي سرقت التاريخ الحضاري للشرق ونسبته إلى نفسها.

وبالمثل لينين قائد ثورة أكتوبر الاشتراكية الروسية الذي اعتبر الصهيونية حركة رجعية وعميلة للبرجوازية العالمية وأدان وعد بلفور واستبدال شعب بآخر، كما رفض الاعتراف بأية هيئة يهودية مستقلة في روسيا بما في ذلك اتحاد العمال اليهود (البوند)، وأطلق سياسات لدمج اليهود كمواطنين روس وتفكيك جمعياتهم ومدارسهم ومعابدهم ومؤسساتهم. 

أما ستالين، فظلّ معروفاً بكره اليهود وكان يسمّي المناشفة (الأقلية داخل الحركة الشيوعية الروسية) بالمنظّمة اليهودية مقابل البلاشفة كأكثرية روسية ثورية، ممّا حدا بكاتب يهودي أميركي إلى تخصيص كتاب ضدّه هو، إميل دويتشر. 

وعندما فشلت مساعي الدولة الاشتراكية الروسية في دمج اليهود في المجتمع الروسي اقترح ستالين عام 1928 إقامة منطقة حكم ذاتي لليهود شرق روسيا في منطقة بيروبيدجان بدلاً من مزاعمهم في فلسطين، فما الذي تغيّر بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وفي ضوء تداعياتها، وجعل ستالين يوافق على قرار التقسيم والسماح لتشيكوسلوفاكيا بتزويد الكيان الصهيوني الجديد بالأسلحة، قبل أن يعود عن هذه السياسة ويفتح النار من جديد على الكيان الصهيوني. 

الشائع أنّ اتفاق يالطا بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وبينهم ستالين، أعاد تقسيم العالم، وأنّ الغرب، وخاصة لندن وواشنطن، تنازل عن كلّ أوروبا الشرقية لستالين مقابل وضع يد الغرب على بقية العالم، ومن ضمن ذلك فلسطين، مقدّمة لإقامة الكيان الصهيوني. 

ويعزّز أصحاب هذا الرأي فكرتهم بقيام ستالين عام 1943 بحلّ الكومنترن (المكتب العالمي للأممية الشيوعية) الذي تأسس عام 1919 بمبادرة من لينين رداً على الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية الانتهازية، وظلّ الكومنترن يوصف من قبل الحركة الصهيونية بالتجمّع المناهض للسامية واليهودية، بالنظر إلى أنّ وثائقه تدعو إلى نبذ الصهيونية ورفض التعامل مع اليهود كقومية وتأكيد حقّ الفلسطينيين في أرضهم، فلسطين. 

مقابل موضوع يالطا واقتسام العالم، تلخّص دراسة للباحث حسام عبد الكريم تحت عنوان (تقسيم فلسطين) أسباب التحوّل في موقف ستالين وقد ردّ هذا الموقف إلى مجموعة من المعطيات المتناقضة الآتية: 

1- انقسام مجاميع الاستيطان اليهودي في فلسطين بين الكيبوتسات والموشاف (المستوطنات الزراعية الجماعية) التي كانت حتى ذلك الوقت تعتمد على أشكال جماعية من العمل والحياة الاجتماعية، وتسوّق نفسها تحت عناوين يسارية، وبين عصابات شديدة التطرّف لم تعجبها المناورات السياسية البريطانية في ظروف الحرب العالمية الثانية وإرسالها إشارات (وسطية) للعرب حول تقنين الهجرة اليهودية.

فلعبت المجاميع الأولى على الوتر اليساري لدفع روسيا السوفياتية لتغيير مواقف الكومنترن الشيوعي المناهضة للصهيونية، ووجدت استجابة من أوساط في الحزب الشيوعي في موسكو غالبيتها من اليهود الذين تعود جذورهم إلى تيار المناشفة في الحزب، والذي كان يسمّيه ستالين بالتيار اليهودي قبل الثورة، الذي عاد وركب موجة البلاشفة بعد انتصار الثورة وتبوّأ مواقع أساسية في قيادة الحزب والدولة.

أما المجاميع الثانية من عصابات اليمين الأكثر تطرّفاً، فقد وجدت استجابة لدى بعض الأجهزة الروسية ولا سيما أنّ هذه العصابات مثل شتيرن بدأت تشتبك مع القوات البريطانية في سياق ابتزاز وضغط مسلّح لقطع الطريق على المناورات البريطانية وحاجتها آنذاك لوقف الثورة الفلسطينية، ووصل الأمر بهذه العصابات أن قتلت عشرات الضباط الإنكليز وفجّرت مقرّ الإدارة البريطانية في فندق داوود في القدس، واتهم بعض كوادرها بالارتباط مع الأجهزة الروسية. 

2- الاصطفافات العربية، الرسمية والشعبية بعيداً عن أية مصالح روسية، بل في مواجهتها، فالجانب العربي الرسمي كان خاضعاً بالمطلق لبريطانيا، الخصم المعروف لروسيا الاشتراكية، والجانب الشعبي العربي كان مصطفاً في غالبيته الساحقة خلف الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين الذي أدّى دوراً بارزاً في نسج قنوات وعلاقات علنية وسرية لقادة شعبيين ورسميين عرب مع النظام الهتلري في ألمانيا، وفي تشكيل فيلق إسلامي من دول البلقان والمنطقة العربية للقتال مع الجيوش الألمانية الهتلرية ضدّ الجيش السوفياتي.

وكذلك إطلاق إذاعة بالعربية من برلين تدعو الجنود المسلمين في الجيش الأحمر السوفياتي للعصيان ومغادرة الجيش (الكافر) والالتحاق بجيوش هتلر (صديق المسلمين)، وقد تبيّن أنّ المذيع الأساسي في تلك الإذاعة كان عميلاً للمخابرات البريطانية، وعمل لاحقاً في إذاعة كانت تبثّ من الضفة الغربية بعد اتحادها مع الأردن.

كما يشار كذلك إلى إطلاق إذاعة أخرى خلال الحرب الأهلية الإسبانية كانت مموّلة من المخابرات الألمانية الهتلرية وكانت تدعو المسلمين المؤيّدين للثورة الإسبانية إلى الالتحاق بالكتيبة المغربية في جيش فرانكو المتحالف مع النازية. 

3- ما يقال حول دور علماء يهود في تسريب أسرار القنبلة النووية إلى موسكو. 

4- المعطيات المرتبطة بمحاولات ستالين استقطاب تعاطف يهود أميركا ضدّ ألمانيا الهتلرية التي أظهرت مواقف علنية ضدّ اليهود.

وبعد أن سمح ستالين وللمرّة الأولى بعقد اجتماع موسّع ليهود روسيا وإطلاق نداء ضدّ ألمانيا ومساعدة موسكو وتشكيل لجنة لهذه الغاية، تحوّلت هذه اللجنة مع مرور الزمن وبعد انتهاء الحرب إلى مناخات لحشد اليهود الروس في أطر خاصة، سرعان ما انخرط معظمهم في النشاطات الصهيونية والضغط على الحكومة في موسكو لتأييد المشروع الصهيوني. 

التداعيات الموهومة للمعطيات السابقة

لم تتوقّف التداعيات السياسية للانفتاح الستاليني على اليهود عند ظروف الحرب العالمية الثانية، بل امتدّت إلى ما بعدها وتشكّلت أوهام سوفياتية حول إمكانية تحوّل المشروع اليهودي إلى (دولة اشتراكية) مناهضة لبريطانيا الإمبريالية، ومن جملة ما يذكره الباحث حسام عبد الكريم: 

- إرسال وفد من موسكو إلى فلسطين عام 1942، رغم أنّ الوفد ظلّ يميّز بين اليهودي والصهيوني ولم يلتقِ مع أيّ شخصية صهيونية مثل بن غوريون وغولدا مائير ورفض الالتقاء مع الوكالة اليهودية، إلّا أنه ظلّ مسكوناً بفكرة البحث عن بدائل يهودية اشتراكية، كما التقى مع عدد من الفلسطينيين وبينهم قيادات شيوعية مثل عبد الله البندك وإبراهيم حسن خليل. 

- كما سمح ستالين للسفير الروسي من أصل يهودي في لندن، إيفان مايسكسي، بالتواصل مع أطراف صهيونية تؤيّد تقسيم فلسطين قبل أن يكتشف أنه تورّط أكثر من اللازم حتى مع المخابرات البريطانية. 

- واصلت موسكو البناء على هذه الأوهام وضغطت لإشراك الوكالة اليهودية في نقاشات الجمعية العامّة حول فلسطين في نيسان/أبريل 1947، حتى أنّ مندوب موسكو في الأمم المتحدة، غروميكو، كان من أشدّ المتحمّسين للتقسيم الذي حظي موافقة موسكو فور صياغته في مشروع القرار المعروف والصادر بتاريخ 29/11/1947، ولم يقتصر الأمر على الدولة السوفياتية بل انعكس على غالبية الحركة الشيوعية العربية والعالمية، مع أنّ بعضها كان ضدّ قرار التقسيم  قبل أسابيع فقط من صدور القرار، ونشير هنا إلى الموقف الاستثنائي التاريخي لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي وهو في السجن، يوسف سلمان (فهد) الذي رفض القرار وأعدم بسبب ذلك. 

إعدامات واعتقالات.. الصدام مجدّداً بين موسكو والصهيونية

بعد أن اتضحت حقيقة المشروع الصهيوني كذراع ضارب للإمبريالية، وبعد الفشل الذريع لقوائم (اليسار اليهودي) المنفتحة على موسكو في أوّل انتخابات للكنيست 1949، 24 عضواً من أصل 120، وقبلها التحشيد الصهيوني ليهود روسيا في استقبال غولدا مائير في موسكو 1948، وصولاً إلى مؤامرة الأطباء اليهود لتسميم ستالين والعديد من قادة الحزب الشيوعي السوفياتي عام 1953، حيث قرّر ستالين مراجعة أوهامه السابقة والبطش باللجنة اليهودية الروسية وإعدام 13 عضواً واعتقال الآخرين. 

فأعلن بن غوريون رئيس وزراء العدو آنذاك، أنّ ستالين فتح حرباً مدمّرة على اليهود في روسيا وشرق أوروبا، تلاها إلقاء قنبلة على مقرّ البعثة السوفياتية في "تل أبيب" 1953، فردّت صحيفة البرافدا الروسية بلهجة غير مسبوقة وتحدّثت عن الصهيونية كوجه قذر للإمبريالية، فيما وصفت صحيفة الازفستيا الروسية زعماء "إسرائيل" بالحثالة، وتوّجت موسكو مواقفها الجديدة ضدّ "إسرائيل" والصهيونية عموماً بانفتاح سريع وواسع على حركة التحرّر العربية عموماً وعلى مصر الناصرية خصوصاً، سواء بتسليح الجيش المصري أو بناء السدّ العالي.