هل تستسلم الأنظمة العربية لمخططات نتنياهو؟
الفصائل الفلسطينية لم تستسلم، وما تزال تقاتل بشراسة تصل إلى مستوى الإعجاز، بل وتحتفظ بعدد لا يستهان به من الرهائن، معظمهم من العسكريين، والشعب الفلسطيني ما زال يقاوم كل محاولات التهجير.
-
نتنياهو والمخططات الأخرى.
في جلسة عقدها يوم الأحد الماضي (31/8/2025) واستغرقت ما يقرب من ست ساعات، رفض المجلس الإسرائيلي المصغر، الذي يطلق عليه "المجلس الأمني" أو "الحكومة الفرعية"، إدراج قضية الرهائن على جدول أعماله، أو إرسال وفد لاستكمال عملية التفاوض غير المباشر مع حماس، ولم يناقش سوى "توسيع نطاق العمليات العسكرية في مدينة غزة"، ما يعني إغلاق الباب أمام الجهود الرامية للتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، واعتماد القوة العسكرية وحدها وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية من حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على قطاع غزة منذ 7/10/2023، ألا وهي:
1- استسلام جميع الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة والقبول بوقف دائم لإطلاق النار من جانب واحد.
2- إعادة جميع الرهائن المحتجزين لديها، الأحياء منهم والأموات.
3- تسليم الأسلحة التي بحوزتها لقوات دولية وعربية تشكل لحفظ الأمن في القطاع تحت إشراف أجهزة الأمن الإسرائيلية.
4- إبعاد قادة جميع الأجنحة العسكرية إلى خارج قطاع غزة. ولنتنياهو أهداف أخرى لم تعد تخفى على أحد، أهمها التهجير القسري لسكان القطاع وإعادة احتلاله واستيطانه.
ولأن جميع هذه الأهداف، المعلنة منها والخفية، تنطوي على شروط تعجيزية يستحيل أن يقبل بها أي من الفصائل الفلسطينية المسلحة، لا حماس وحدها، يبدو واضحاً أمام الجميع أن نتنياهو قرّر مواصلة الحرب حتى النهاية. فما هي النتائج التي يمكن أن تترتب على هذا القرار؟ وما تأثيراتها المحتملة على مجمل الأوضاع في المنطقة، وهل سيكون بوسع الأنظمة العربية الرسمية التكيف أو التعايش معها؟
في البحث عن إجابة لهذه الأسئلة الصعبة، علينا أن نتذكر أولاً أن الحرب على غزة لم تتوقف منذ أكثر من 700 يوم، باستثناء فترات هدنة قصيرة جداً أمكن خلالها استبدال معظم المحتجزين الإسرائيليين في القطاع بآلاف الأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، وأنها أسفرت عن إحالة القطاع كله إلى كومة هائلة من الرماد، وأدت إلى قتل وجرح وفقد ما يقرب من 10% من سكانه، إلا أنها لم تنجح رغم ذلك في تحقيق أي من الأهداف السياسية المرجوة.
فالفصائل الفلسطينية لم تستسلم، وما تزال تقاتل بشراسة تصل إلى مستوى الإعجاز، بل وتحتفظ بعدد لا يستهان به من الرهائن، معظمهم من العسكريين، والشعب الفلسطيني ما زال يقاوم كل محاولات التهجير، الطوعي منه والقسري على حد سواء، على الرغم من قسوة الجرائم التي ارتكبت في حقه، والتي تتجاوز في وحشيتها جرائم "الهولوكوست" الذي ارتكبه النظام النازي في حق اليهود أنفسهم إبان الحرب العالمية الثانية. لذا يتوقع أن تأخذ العمليات العسكرية المزمع القيام بها في المرحلة المقبلة طابعاً مختلفاً كلياً عمّا جرى حتى الآن، وأن تكون له نتائج بعيدة المدى وبالغة الخطورة في الوقت نفسه.
كان "الجيش" الإسرائيلي قد وافق، تحت ضغط سياسي هائل مارسه نتنياهو ومعه الجناح الأكثر تطرفاً في حكومته، على إعداد خطة عسكرية جديدة أطلق عليها اسم "مركبات جدعون"، بدأ تنفيذها بالفعل في مايو/أيار الماضي.
وعلى الرغم من فشلها في تحقيق نتائج تذكر، باعتراف العديد من الخبراء الأمنيين الإسرائيليين أنفسهم، إلا أن نتنياهو عاد وطلب تطويرها لتشمل مرحلة ثانية، هي التي ناقش المجلس المصغر تفاصيلها في جلسة الأحد الماضي.
وبينما استهدفت مرحلتها الأولى "التمهيدية" توسيع نقاط العبور إلى القطاع وإنشاء ممرات آمنة جديدة وعزل الوحدات المقاتلة بعضها عن بعض، تستهدف مرحلتها الحالية، "التكميلية"، احتلال مدينة غزة بالكامل، بعد إفراغها من سكانها البالغ تعدادهم أكثر من مليون نسمة وترحيلهم إلى مناطق بعيدة، وتدمير كل ما تبقى من مبانيها كي تصبح التربة سهلة ومنبسطة أمامها بطريقة تسمح باكتشاف ما خفي من أنفاق ترغب في اقتحامها لتدمير ما تبقى من قوات لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، تمهيداً لإعلان "نصر مطلق" يتوق إليه نتنياهو ولم يتمكن منه حتى الآن.
ورغم قيام مصر وقطر ببذل جهود مضنية لتجنب الوصول إلى هذا المستوى من التصعيد العسكري، ونجحا بالفعل في إقناع حماس بالموافقة على صيغة لوقف مؤقت لإطلاق النار، تكاد تكون مطابقة تماماً لتلك التي اقترحها "ويتكوف" ووافقت عليها "إسرائيل" من قبل، إلا أن نتنياهو سحب موافقته على هذه الصيغة وراح يطالب بصفقة "نهائية" تؤدي إلى الإفراج عن جميع المحتجزين بالشروط الإسرائيلية، ما يعني استسلام جميع فصائل المقاومة الفلسطينية وتسليم أسلحتها وخروج قياداتها من القطاع.
كان البعض، حتى أسابيع قليلة مضت، يعتقد أن مواقف نتنياهو المتشددة تستهدف ممارسة أكبر قدر من الضغوط العسكرية على حماس لإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات السياسية، وبالتالي لن يذهب أبداً إلى حد الموافقة على إعادة احتلال القطاع واستيطانه، كما يطالب الجناح الأكثر تطرفاً في حكومته.
غير أن جميع المؤشرات التي أمكن رصدها خلال الأسابيع الأخيرة تقطع بأن نتنياهو لا يقل تطرفاً عن هذا الجناح، وأنه قرر إغلاق الطريق نهائياً أمام الجهود الدبلوماسية، مرجحاً بذلك كفة الحسم العسكري، ولو لجأ إلى أكثر أساليبه عنفاً ووحشية. فقد بدأ بالفعل تنفيذ المرحلة الثانية من "مركبات جدعون"، وهو ما يتضح بجلاء من خلال الإنذارات التي صدرت لجميع سكان مدينة غزة بمغادرتها، وأيضاً من خلال أوامر الاستدعاء التي صدرت لما يقرب من 60 ألفاً من جنود الاحتياط. لذا علينا أن نتوقع أن يشهد قطاع غزة خلال الأسابيع والشهور القليلة المقبلة تصعيداً عسكريا غير مسبوق.
تجدر الإشارة هنا إلى أن نتنياهو لا ينظر إلى ما يجري في قطاع غزة باعتباره معركة منفصلة عن المعارك التي جرت على بقية الجبهات الأخرى، وإنما باعتبارها ليس فقط مرتبطة عضوياً ببقية الجبهات، بل تشكل حلقتها الرئيسية أو المركزية. ولأنه يعتقد أنه أجبر الجبهات الأخرى على التزام الصمت، بعد أن ألحق بها هزائم متتالية، يدرك نتنياهو جيداً أنه لن يستطيع الإعلان عن "النصر المطلق" الذي ينشده ما لم ينجح في تركيع حماس نهائياً. ومن الواضح أنه لم يدرك بعد أنه لم يترك أمام حماس من خيار آخر سوى مواصلة القتال حتى آخر جندي مقاوم، وإلا ذهبت كل التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني طوال تاريخه سدى، كما لم يدرك بعد أن موقفه السياسي والقانوني والأخلاقي أضعف كثيراً من موقف حماس، رغم ما بينهما من فجوة هائلة في موازين القوة العسكرية التي تميل لصالحه بشكل حاسم.
فشعوب العالم كله، ومعها قسط لا يستهان به من الحكومات، تعي الآن بوضوح تام أن حماس تدافع عن أرض محتلة اغتصبها الكيان الصهيوني تدريجياً على مدى ما يقرب من سبعين عاماً، وأنها تدافع عن شعب لم يكفّ الكيان الصهيوني عن العمل على استئصاله وإبادته طوال هذه الفترة. ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن تدرك حماس أن تمسكها بالمقاومة حتى النهاية هو المان الوحيد لصيانة حقوق الشعب الفلسطيني والإبقاء على قضيته حية، بينما لن يؤدي الاستسلام إلا إلى نتيجة واحدة، هي تصفية القضية الفلسطينية نهائياً وإفساح المجال لتحميل حماس المسؤولية عن كل ما جرى لهذا الشعب، بما في ذلك نكبة 1948!!!. لكن هل يستطيع نتنياهو أن يحقق خلال المرحلة المقبلة ما عجز عن تحقيقه طوال العامين القادمين؟
لا يتمتع نتنياهو بمهلة واسعة لتحقيق أهدافه المستحيلة، والأرجح أن هذه المهلة لن تتجاوز نهاية العام الحالي، أي الموعد المقترح لزيارة ترامب المقبلة للكيان، إذا صحت تسريبات نشرت مؤخراً في بعض وسائل الإعلام الأميركية. ولأنه سبق للرئيس ترامب أن طلب من نتنياهو "إنهاء المهمة بسرعة"، كي يتمكن بعد ذلك من إعلان تفاصيل خطته الرامية إلى تحويل قطاع غزة إلى "ريفييرا شرق أوسطية"، يتوقع ترامب أن يكون نتنياهو قد "أنهى مهمته"، وبالتالي أعلن "انتصاره المطلق" قبل أن يبدأ هو زيارته المقبلة للكيان. لذا ليس من المستبعد أن تشهد الشهور الثلاثة أو الأربعة المقبلة أحداثاً جساماً يُتوقع أن تسلك مسارين متوازيين ومتناقضين، الأول: يجسده تصعيد عسكري خطير، يتوقع أن يصل إلى ذروته مع اجتياح آلاف الجنود الإسرائيليين مدينة غزة ومع ما سيواجه به هذا الاجتياح من عمليات مضادة تستعد لها فصائل المقاومة الفلسطينية منذ الآن. الثاني: يجسده تصعيد دبلوماسي وشعبي، يتوقع أن يصل إلى ذروته مع انعقاد الجمعية العامة في نهاية الشهر الحالي، من ناحية، حيث سيزداد زخم التحركات الرامية للاعتراف القانوني بالدولة الفلسطينية والجهود التي تستهدف تثبيت حل الدولتين، ومع بدء العام الدراسي الجديد، من ناحية أخرى، حيث سيتصاعد الحراك الشعبي المندد بالوحشية الإسرائيلية والمُطالب بوقف الحرب، خاصة داخل الجامعات.
لدي قناعة تامة بأن نتنياهو لن يتمكن قط من الإعلان عن "انتصار مطلق" خلال المهلة المتاحة له أو حتى المتبقية من ولايته، خصوصاً إذا تطلب ذلك قيام المقاومة الفلسطينية بتسليم أسلحتها وخروج قادتها من القطاع، لكنني لا أستبعد مطلقاً إقدامه على ارتكاب مجازر أوسع بكثير مما ارتكبه حتى الآن، أو قيامه بعمليات تهجير قسري واسعة النطاق، حتى ولو من خلال دفع الأمور نحو حافة الهاوية.
لذا على العالم العربي، بمكوناته الرسمية والشعبية كافة، أن يكون مستعداً لأسوأ الاحتمالات والسيناريوهات، وأن يدرك أن هزيمة واستسلام حماس في جولة الصراع التي بدأت مع "طوفان الأقصى" لا يتيحان لها فرصة للتخلص من فصيل سياسي معارض، كما يتمنى البعض، وإنما سيؤدي إلى وقوع كارثة كبرى تشمل المنطقة برمتها وتفوق بكثير ما جرى لها إبان "نكبة 48" و "نكسة 67". لذا حان الوقت لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني أولاً والبيت العربي ثانياً، إذا ما أرادت المنطقة أن تقف على قدميها من جديد.