هل يحقق نزع سلاح المقاومة أي مصلحة للشعب الفلسطيني؟

تسليم سلاح المقاومة الفلسطينية المسلحة لأي جهة كانت، حتى ولو كانت السلطة الفلسطينية بوضعها الحالي، يعني المصادرة أصلاً على إمكانية إقامة دولة فلسطينية قبل أن تولد،

  • المجتمقيام الدولة الفلسطينية هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام.
    المجتمقيام الدولة الفلسطينية هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام.

نشرت وكالات الأنباء العالمية، يوم الاثنين الماضي، فحوى رسالة قيل إن السيد محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، وجهها إلى كل من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بصفتهما راعيَي المؤتمر الدولي المقرر عقده في نيويورك خلال الفترة من 17 – 21 حزيران/يونيو الحالي، والذي يستهدف تنشيط الجهود الدولية الرامية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967.  تتضمن هذه الرسالة مجموعة من الأفكار، أهمها:

1- إدانة ما قامت به حماس يوم  7 تشرين الأول 2023 واعتباره "أمراً غير مقبول" ودعوتها للإفراج الفوري عن جميع الرهائن.

2- الموافقة على نزع سلاح حماس وعدم تمكينها من القيام بأي دور في حكم قطاع غزة مستقبلاً، ومطالبتها بتسليم أسلحتها وقدراتها العسكرية كافة لقوات أمن فلسطينية تشرف على إخراجها من الأراضي الفلسطينية المحتلة بدعم عربي ودولي.

3- دعوة قوات عربية ودولية للانتشار في قطاع غزة بتفويض من مجلس الأمن، "كجزء من مهمة تحقيق الاستقرار وحماية الفلسطينين".

4- الالتزام بمواصلة الجهود الرامية لإصلاح السلطة الفلسطينية وبإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية تحت إشراف دولي، وذلك "خلال عام من بدء مسار موثوق لا عودة فيه نحو إنهاء الاحتلال، والتحرك نحو إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وتنفيذ حل الدولتين، في إطار جدول زمني واضح، ومع ضمانات دولية قوية".

من يقرأ هذه الرسالة يتولد لديه انطباع مفاده أن مأساة الشعب الفلسطيني تكمن في وجود فصيل فلسطيني متطرف، يحمل سلاحاً لا يُستخدم سوى في قتل وخطف المدنيين الأبرياء، وأن سلطة رام الله التي خرجت من عباءة "أوسلو"، والتي يقودها عباس بنفسه، هي وحدها التي تمثل الشعب الفلسطيني وتعبر عن طموحاته وأمانية، وبالتالي فهي وحدها من يحق له أن يحظى بشرف الدفاع عن حقوقه ومصالحه، وصاحب الحق الأوحد في نزع سلاح حماس وقيادة المرحلة الانتقالية التي يفترض أن تمهد لقيام دولة فلسطينية مستقلة، والإشراف على تنظيم الانتخابات التي ستؤدي إلى تشكيل السلطة المسؤولة عن قيادة هذه الدولة.

غير أن الفحص المدقق لما يجري على الساحة الفلسطينية يوحي بأن رسالة عباس كتبت بروح فصائلية صرفة، وأن هدفها الوحيد هو تبرير السياسات التي انتهجها منذ قيادته لسلطة رام الله عقب رحيل الرئيس ياسر عرفات عام 2004. فعباس، المهندس الحقيقي لاتفاقية أوسلو، كان من أكثر القيادات الفلسطينية تحمساً لإلقاء السلاح والتخلي عن المقاومة المسلحة، ومن أشد المطالبين باعتماد الوسائل السلمية وحدها كنهج لاسترداد الحقوق المغتصبة.

صحيح أن ياسر عرفات اضطر للتوقيع على اتفاقية أوسلو، في ظل أوضاع عربية متردية نجمت عن الغزو العراقي للكويت عام 1990، غير أنه لم يكن مستعداً لقبول الإملاءات الإسرائيلية كافة، بدليل رفضه للعرض الذي قدم في مؤتمر كامب ديفيد الذي عُقد تحت إشراف الرئيس الأميركي بيل كلينتون نهاية عام 2000، بسبب إصرار إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، على استمرار الهيمنة الإسرائيلية على القدس القديمة، وبالتالي على المسجد الأقصى، وعلى رفض تطبيق القرار 194 الخاص بتسوية مشكلة اللاجئيين.

وعندما أقدمت "إسرائيل" على محاصرة عرفات داخل المقاطعة، وراحت تبحث عن شخصية فلسطينية بديلة أكثر استعداداً للتعاون، لم تجد سوى عباس، ومن ثم راحت تضغط على عرفات لتعيينه رئيساً للوزراء، وهو ما تم بالفعل عام 2003، لكنه لم يصمد في موقعه كرئيس للوزراء سوى أشهر قليلة، قدم بعدها استقالة مسببة، عكست عمق الخلافات التي كانت قائمة بينه وبين ياسر عرفات آنذاك. وحين قررت إسرائيل التخلص من عرفات بالسم عام 2004، أصبح عباس رئيساً لحركة فتح ثم رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، المعترف بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.

وحين رشح نفسه في انتخابات الرئاسة الفلسطينية التي جرت عام 2005، وفاز فيها، جمع بين يديه الخيوط كافة التي تمكنه من السيطرة على المؤسسات الوطنية الفلسطينية كافة، تماماً مثلما كان عليه وضع ياسر عرفات الذي لم يكن يشبهه في أي شيء، باستثاء الحرص على الهيمنة المنفردة على كل مفاتيح السلطة.

لم ترشح حماس أحداً من كوادرها لمنافسة عباس في انتخابات الرئاسة، وحسناً فعلت. لكن حين حصلت فتح على 74 مقعداً من إجمالي المقاعد المخصصة للمجلس التشريعي الفلسطيني، وعددها 132 مقعداً، بينما لم تحصل حركة فتح في هذه الانتخابات سوى على 45 مقعداً فقط، كان على عباس أن يدرك أن الشعب الفلسطيني أصبح أكبر من حركة فتح التي لم تعد تحظى بالثقل السياسي نفسه الذي كان لها من قبل، وأن الحاجة باتت ماسة إلى إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، إذا أرادت أن تستعيد وضعها الطبيعي كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، ولو أنه أراد إنجاز هذه الخطوة، لتمكن من تجنيب القضية الفلسطينية كل المحن التي مرت بها منذ ذلك الحين، بما في ذلك كارثة فصل القطاع عن الضفة الغربية، حين انفردت حماس بالحكم في قطاع غزة وانفردت فتح بالحكم في الضفة الغربية، غير أنه لم يرد، وتلك كانت خطيئته الكبرى فيما أعتقد.

تندرج رسالة الرئيس الفلسطيني المشار إليها آنفاً، في إطار الممارسات الخاطئة التي أوصلت الأوضاع الفلسطينية إلى ما هي عليه الآن من تشرذم وضياع. فمن الواضح تماماً أنها لا تعكس حرصاً على المصالح الوطنية الفلسطينية بقدر ما تعكس تشبثاً بمصالح شخصية وفئوية، بل ويمكن القول إنها تنمّ عن عدم اكتراث مدهش بما قدمه الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة المسلحة، لا في قطاع غزة فحسب وإنما في الضفة الغربية أيضاً، من تضحيات هائلة تفوق الخيال.

فلولا هذه التضحيات لما سقط القناع عن الكيان الصهيوني، ولما انكشف نظامه العنصري الذي لا يستطيع البقاء والاستمرار من دون سفك متواصل لدماء الشعب الفلسطيني وإصرار عنيد على إبادة أصحاب الأرض الأصليين. ولولا هذه التضحيات لما انتفضت شعوب العالم أجمع دفاعاً عن الشعب الفلسطيني المظلوم، المتمسك بأرضه على نحو يندر أن نعثر له على نظير في تاريخ البشرية.

ويبدو أن الرئيس عباس لم يدرك بعد أن هذه التضحيات هي التي أعادت إحياء القضية الفلسطينية التي كانت على وشك التصفية النهائية قبيل اندلاع "طوفان الأقصى"، ولولاها لما تجدد الحديث بمثل هذه القوة التي نشاهدها حالياً على الساحة العالمية، والتي تظهر مدى الحاجة لمعالجة أصل الداء، ما يحتم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

يدير الرئيس محمود عباس الشأن الفلسطيني منذ أكثرمن عشرين عاماً، قدم خلالها كل فروض الولاء والطاعة للاحتلال الإسرائيلي الذي تعاون معه أمنياً على مختلف المستويات، بما في ذلك مطاردة عناصر المقاومة المسلحة، غير أن ذلك كله لم يشفع له ولم يقنع المجتمع الإسرائيلي بأن الوقت قد حان لقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأرض المحتلة في 1967، على الرغم من أن مساحتها الإجمالية لا تمثل سوى 22% من فلسطين التاريخية، بل إن العكس تماماً هو الصحيح، فقد تبين أنه كلما ازداد حجم التنازلات المقدمة من جانب السلطة الفلسطينية، ازداد المجتمع الإسرائيلي صلفاً، وفسّر هذه التنازلات باعتبارها دليلاً على الضعف لا على المرونة السياسية.

وربما يكون من المفيد هنا تذكير السيد الرئيس بأن القضية الفلسطينية كانت قد طواها النسيان تماماً قبل اندلاع "طوفان الأقصى"، بدليل أن السعودية كانت على وشك الانخراط في "اتفاقيات أبراهام"، ومن دون اشتراط قيام دولة فلسطينية في مقابل هذه الخطوة الضخمة. ولولا "طوفان الأقصى"، وما تبعه من صمود أسطوري لفصائل المقاومة ولعموم الشعب الفلسطيني، لما عادت القضية الفلسطينية لتحتل موقع الصدارة في جدول أعمال النظام الدولي، بل ولما انضمت فرنسا إلى السعودية لرعاية المؤتمر الدولي الذي تقرر أن يُعقد في نيويورك من أجل رسم خريطة طريق لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

يخطئ الرئيس محمود عباس كثيراً إن تصور أن مطالبة حماس بتسليم سلاحها، قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة فعلاً، من شأنه تشجيع المجتمع الدولي على القيام بدور أكثر فاعلية في إقامة هذه الدولة، فلا شك في أن العكس هو الصحيح تماماً.

فالمجتمع الدولي لم يتحرك الآن، ولن يتحرك في المستقبل، لإقامة دولة فلسطينية حقيقية إلا إذا أدرك الكيان الصهيوني أن قيام هذه الدولة هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

لذا أعتقد أنه كان الأولى بالرئيس عباس أن يقوم بترتيب البيت الفلسطيني أولاً، وأن يذهب إلى مؤتمر نيويورك كناطق باسم حركة وطنية فلسطينية موحدة تعبّر عن إرادة الشعب الفلسطيني ككل، لا كناطق باسم سلطة فلسطينية لم يعد لها وزن أو قيمة حقيقية، وأن يطالب باسم هذه الحركة الوطنية الموحدة بوضع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تحت وصاية وحماية الأمم المتحدة، استناداً إلى قرار يصدره مجلس الأمن وفقا للفصل السابع من الميثاق، على أن تتولى مؤسسات وقوات الأمم المتحدة تفكيك جميع المستوطنات الإسرائيلية المقامة على هذه الأراضي بالتوازي مع قيامها بالإشراف على تنظيم انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية فلسطينية، ثم تتولى بعد ذلك نزع أسلحة الفصائل الفلسطينية وتسليمها للقوات المسلحة الفلسطينية التي ينبغي أن تعمل تحت قيادة السلطة الفلسطينية المنتخبة وأن ينحصر دورها في الدفاع عن حدود هذه الدولة الوليدة.

تسليم سلاح المقاومة الفلسطينية المسلحة لأي جهة كانت، حتى ولو كانت السلطة الفلسطينية بوضعها الحالي، يعني المصادرة أصلاً على إمكانية إقامة دولة فلسطينية قبل أن تولد، وليس المساعدة على ولادتها.