"فايننشال تايمز": سكة حديد توصل أفريقيا بالصين أمام الغرب المتراجع

مشروع "تازارا" يسلّط الضوء على نهج بكين الأكثر مرونة تجاه التنمية الخارجية في الوقت الذي يبدو فيه أن المساعدات الغربية تتراجع

  • سكة حديد
    سكة حديد "تازارا"

صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية تنشر تقريراً يوضح الفرق بين نهج الصين في تطوير مشاريع البنية التحتية في أفريقيا، وبين نهج الدول الغربية التي تركّز أكثر على المساعدات الإنسانية، ويشير إلى أنّ تراجع الأخيرة، يعطي الأولولية للصين في القارة السمراء.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

لا تزال موكولولو تشاندا تتذكّر مجد أيام محطة "سكة حديد الحرية" في أفريقيا، والتي بدأت العمل فيها كمشغّلة لوحة مفاتيح منذ نحو 4 عقود، حين بنتها الصين في عهد ماو تسي تونغ في القرن الماضي. وتعتقد تشاندا البالغة من العمر 55 عاماً أنّ المحطة ستضاعف نشاطها، وتساهم في قيادة بلدها المستقلّ حديثاً نحو الازدهار. 

تعمل تشاندا الآن مديرة محطة كابيري مبوشي، التي تربط سكة حديد "تازارا" في منطقة زامبيا الغنية بالنحاس بمنطقة سواحل تنزانيا الشرقية والأفريقية، وهي الطريقة الوحيدة الموثوقة للسفر إلى العديد من الأماكن والجميع يستخدمها. لكنّ عقوداً من نقص التمويل وسوء الإدارة تركت عرباتها المتهالكة وقضبانها تعمل بجزء بسيط من طاقتها الاستيعابية. تقول تشاندا: "كنت أعمل سوياً مع زملائي الصينيين، وكان كلّ شيء يسير بسلاسة، وكنّا نتقاضى أجورنا دائماً في الوقت المحدّد. أودّ أن يعود الصينيون".

ليست تشاندا الوحيدة التي تتمنّى عودة الصين، إذ تتفاوض زامبيا التي لطالما كانت مثالاً يحتذى به للشراكة مع الصين في أفريقيا، وإلى جانبها تنزانيا، مع كونسورتيوم تقوده شركة الإنشاءات الهندسية المدنية الصينية المملوكة للدولة للحصول على امتياز بقيمة مليار دولار لإعادة تأهيل وتشغيل خط السكك الحديدية "تازارا" الشهير، ممّا يعيد إحياء طريق التجارة الاستراتيجي إلى بكين، التي تعتمد السكك الحديدية نموذجاً لنهج متجدّد أكثر مرونة في التنمية الصينية في الخارج، في وقت يثير فيه تعليق الرئيس الأميركي دونالد ترامب لأعمال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وتقليص بريطانيا لميزانية المساعدات الخارجية، عدّة تساؤلات حول النهج الغربي المستجدّ.

لكن، لطالما اتّخذت الصين مساراً مختلفاً عن الدول الغربية، حيث ركّزت بشكل أقلّ على المساعدات الإنسانية وأكثر على تمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى التي يقول العديد من القادة الأفارقة، إنّها ضرورية لانتشال بلدانهم من الفقر.

ويستجلب مشروع سكك "تازارا" المزيد من الاستثمار في الأسهم من قبل الشركات الحكومية الصينية، بعد أن شابت مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها بكين تعثّرات في البلدان المقترضة، من ضمنها زامبيا.

ويقول الأمين العام لجمعية الصداقة الزامبية الصينية فريدريك موتيسا، إنّ "هناك اعتقاداً سائداً بأنّه لا يوجد بديل للنموذج الغربي للتنمية، وهو نموذج مساعدات أكثر من كونه شراكة". وفي إشارة إلى الصين، أضاف: "أن تكون قادراً على رؤية بلد استخدم مساراً مختلفاً للتنمية، فهذا أمر ملهم للغاية".

قد تكون لنجاح هذا المشروع آثار بعيدة المدى على المنافسة المتزايدة على النفوذ في قارة أفريقيا الغنية بالثروات المعدنية مثل النحاس والمعادن الهامة الأخرى الحيوية للتحوّل العالمي في مجال الطاقة.

وبالفعل هناك مشروع منافس للمشروع الصيني، مدعوم من الولايات المتحدة وهو قيد التنفيذ لتحديث ممر "لوبيتو"، الذي يعود إلى الحقبة الاستعمارية ونقل موارد زامبياً غرباً عبر أنغولا بدلاً من "تازارا".

وقد اتُفق عليه في عهد الرئيس السابق جو بايدن من خلال مؤسسة التمويل والتنمية الدولية الأميركية، حيث تقوم واشنطن بإقراض 553 مليون دولار لمشروع "لوبيتو"، لجذب المستثمرين من القطاع الخاص مثل شركتي "ترافيغورا"، و"موتا إنجيل". وقد أُنشئت مؤسسة تمويل التنمية الدولية، وهي ردّ الولايات المتّحدة على بنوك السياسة الحكومية الصينية، في عهد ترامب خلال فترة ولايته الأولى.

وعلى الرغم من تقويض ترامب للمساعدات الخارجية الأميركية، ينظر الآن بحالة من عدم اليقين بالنسبة لخط "لوبيتو"، إِلّا أنّ الخبراء يقولون إنّ هذا النوع من المشاريع التجارية والاستراتيجية قد يميّز مشاركة وحضور واشنطن المستقبلي في القارة.

وقال بيتر دويل، وهو مسؤول كبير سابق في صندوق النقد الدولي يعمل الآن في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية إنّ رئاسة ترامب "تظهر تغييراً كاملاً في الطريقة التي تنظر بها الولايات المتحدة إلى مصالحها في أفريقيا". وأضاف أنّ "أيّ شخص يعتقد أنّ الولايات المتحدة ستفكّ ارتباطها بالسعي لتحقيق مصالحها في أفريقيا، وتعطي ذلك للصين، لا يعرف واشنطن وبالتأكيد لم يقضِ أيّ وقت فيها".

صُمّمت سكة حديد "تازارا" التي بدأت العمل في عام 1970، لِمساعدة زامبيا الغنية بالنحاس على الوصول إلى الأسواق الخارجية بعد أن أغلقت روديسيا المجاورة التي يسيطر عليها البيض، والتي أصبحت اليوم زيمبابوي، حدودها اعتراضاً على حصول البلاد على الاستقلال عن بريطانيا.

وفي عهد الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، قدّمت بكين قروضاً بقيمة مليار رنمينبي من دون فوائد لبناء خطوط سكك "تازارا"، حيث عمل آلاف العمال الصينيين سوياً مع السكان المحلّيين. وفي ذروة عمله، كان ينقل عبر "تازارا" أكثر من مليون طنّ من النحاس والسلع الاستهلاكية وَعدداً هائلاً من الركّاب سنوياً.

يقول المحاضر في جامعة فرايبورغ تيم زاغونتز، إنّه "لا يزال مشروع تازارا حتّى يومنا هذا أكبر مشروع مساعدات صيني ينفذ في أفريقيا"، ورمزاً للصداقة الصينية الأفريقية في الأحوال المختلفة"، كما يؤكّد العديد من المسؤولين من كلا الجانبين.

وقد ازداد طموح المساعدات الخارجية الصينية مع مبادرة الحزام والطريق، التي تحوّلت إلى قروض بفائدة، وضخّت تريليون دولار منذ عام 2013. لكنّ الإقراض الصيني للقارة بلغ ذروته في عام 2016، مع تحوّل بكين من مشاريع البنية التحتية الكبيرة المدعومة سيادياً إلى الحصول على حصص في المشاريع التي تديرها بعد ذلك. ومن بين الأمثلة الحديثة على ذلك، شركة "تشاينا هاربور" الهندسية المملوكة للدولة التي استحوذت على حصة صغيرة في ميناء ليكي في نيجيريا، وامتياز شركة الطرق والجسور الصينية الذي استمرّ 3 عقود لتعبيد طريق نيروبي السريع في كينيا.

وقد أصبحت عبارة "صغير وجميل" صفة رسمية لمبادرة الحزام والطريق، مثل تمويل مشروع "تازارا" من خلال قروض شراكة بين القطاعين العام والخاص، بدلاً من تمويلها من خلال بنوك سياسية، ثمّ تُشغّل كامتيازات.

قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في "منتدى التعاون الصيني الأفريقي" في بكين في أيلول/سبتمبر الماضي، حين وقّع مذكّرة التفاهم مع زامبيا وتنزانيا لتطوير "تازارا"، إنّ الصين مستعدّة لتنفيذ "1000 مشروع صغير ومفيد لكسب العيش". وقال مسؤولون في زامبيا وواشنطن لصحيفة "فاينانشيال تايمز"، إنّ الصفقة قد تبرم في أقرب وقت هذا الشهر. ولم تعلّق وزارتا الخارجية والتجارة الصينيتان على الأمر.

يظهر نفوذ بكين في مقاطعة كوبربيلت في زامبيا، معقل التعدين في البلاد. حيث يقوم مقاولون صينيون بتوسيع الطريق السريع، بعد أن قاموا بالفعل ببناء سدود محلّية لتوليد الطاقة الكهرومائية وملعب لكرة القدم. وبين اللوحات الإعلانية للكنائس الخمسينية المحلّية ومنافذ بيع الوجبات السريعة، توجد لافتات باللغة الصينية تعلن عن محلّات السوبر ماركت ومرائب تصليح السيارات والفنادق ومراكز بيع الآلات الثقيلة. كذلك هي محال التجارة الغذائية مليئة رفوفها بالكامل بالبضائع الصينية المستوردة، التي يصفها مدير متجر "التنين" الصيني بالأعمال المزدهرة.

مع ذلك، لا يتوقّع الخبراء أن تملأ الصين الفراغ في التمويل الإنساني الذي تركته الولايات المتحدة وغيرها، إلّا أنّها قد توسّع قوّتها الناعمة بطرق أخرى، وفقاً لمدير التحرير في موقع "مشروع الصين-أفريقيا" كوبوس فان ستادن، قد تروّج بكين للمزيد من المشاريع مثل "المزارع النموذجية"، التي تتعاون فيها الجامعات الصينية والأفريقية على تطوير بذور مقاومة للمناخ. وهي مشاريع "ليست تجارية بالكامل، ولكنّها أيضاً ليست مساعدات تقليدية بالطريقة التي نفهمها"، حيث تعتبر المساعدات نوعاً من الأعمال الخيرية.

وعلى العكس من ذلك، يشير بعض الخبراء إلى أنّ المساعدات الإنمائية الأميركية قد تبدأ في التشابه مع المساعدات الصينية. وكان ترامب قد أنشأ مؤسسة تمويل التنمية خلال فترة ولايته الأولى للاستثمار في الأسواق الناشئة، منافساً بذلك فورة مبادرات البناء الصينية في جنوب الكرة الأرضية.

ولا تزال مؤسسة تمويل التنمية الدولية منخرطة في مشروع "لوبيتو"، وفقاً لأشخاص مطلعين على التمويل، ومن المقرّر أن تبدأ بمنح القروض خلال الشهر الجاري.

لكن حتّى هذه المؤسسة تواجه أسئلة أكبر من الإدارة الجديدة حول شكلها وهدفها، بما في ذلك ما إذا كان ينبغي أن تركّز على الاقتصادات الأكبر، وتتّخذ موقفاً أكثر تشدّداً تجاه الدول التي تواصل العمل مع الصين.

وقد كتب بن بلاك، مرشّح ترامب لإدارة الوكالة ونجل ليون بلاك أحد كبار رجال الأعمال في مجال الأسهم الخاصة، في كانون الثاني/يناير الفائت، أنّ على وكالة تمويل التنمية أن تتوقّف عن "الانسياق وراء القضايا التي تحرّكها جماعات المصالح وأن تستثمر في غرينلاند"، الجزيرة التي يريد ترامب انتزاعها من الدنمارك وضمّها لبلاده.

وتساءل بن بلاك مع الرأسمالي جو لونسديل، عن سبب إرسال الولايات المتحدة مساعدات إلى أوغندا، بينما تجذب الدولة الواقعة في شرق أفريقيا استثمارات صينية، قائلاً: "لماذا يقوم دافعو الضرائب الأميركيون بتمويل الأساس للهيمنة الاقتصادية الصينية".

كان وزير المناجم في زامبيا بول كابوسوي مرتبكاً حين قال إنّ "البلاد التي تهدف للوصول إلى مليون طنّ متري من الإنتاج سنوياً وتجاوز جمهورية الكونغو الديمقراطية كأكبر منتج للنحاس في القارة لم تشعر بالحاجة إلى اختيار أحد الجانبين". وتضخّ الصين ما يصل إلى 5 مليارات دولار في صندوق جديد للنحاس والكوبالت من شأنه أن يساعد على تعزيز الإنتاج، في حين تعمل الحكومة أيضاً على دعم الاستثمار في "الحزام النحاسي الجديد"، الذي تهيمن عليه شركات تشغيل غربية في الغالب. ويضيف بول كابوسوي أنّ "ما يحدث في المجال الجيوسياسي سيجلب صدماته الخاصة، ولكنّ هذا ليس شيئاً سيؤثّر في ما نقوم به في الوقت الحاضر، حيث سنبقى على المسار الصحيح".

لكنّ الحياة في المناجم قد تكون صعبة. قال برانهام تشيتالو، وهو عامل في منجم نحاس مملوك للصين في كيتوي عاصمة حزام النحاس، إنّ "المناجم الصينية على وجه الخصوص لا تحظى بشعبية، والجميع يحاول المغادرة، فالأجور زهيدة مقارنة بالمناجم الأخرى". ومع ذلك، فإنّ العديد من الزامبيين لا يهتمّون بمن يقدّم الأموال للمشاريع أكثر من اهتمامهم بإنجاز الأعمال.

في أحد أيام الأسبوع الأخيرة، جلس الجدّ ويلسون موبانغا في محطة "تازارا" في كابيري مبوشي، بينما كان القطار الذي كان من المقرّر أن ينطلق قبل ساعة ينتظر تزويده بالوقود. ومن خبرته السابقة كان يتوقّع أن تستغرق الرحلة إلى لوتشوي لرؤية عائلته ضعف المدة المقرّرة لها وهي 12 ساعة وقال: "هذا أمر مزعج للغاية ولذلك نرحّب بأيّ شخص يمكنه إصلاح هذا الأمر".

نقله إلى العربية: حسين قطايا.