"فورين بوليسي": ترنّح الملك ترامب

في الداخل والخارج، بدأ نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاستبدادي ينهار.

  • "فورين بوليسي": نهج ترامب الاستبدادي ينهار.

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يحلّل سلوك الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية، مبيّنةً كيف يعكس نزعةً إمبراطورية ونرجسية تذكّر بالملوك والأباطرة عبر التاريخ، إضافةً إلى فوضى سياساته الخارجية والداخلية وما تسببه من انقسامات داخل حزبه الجمهوري. 

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

بالنسبة إلى الأميركيين، فإنَّ القيام بجولة في المعالم الأثرية الفخمة في روما القديمة وإيطاليا في عصر النهضة، كما فعلت بنفسي مؤخراً، يُعد تجربة غريبة يُمكن مقارنتها بهذه الأيام. ومن أقواس النصر لقسطنطين وتيتوس، إلى كاتدرائية القديس بطرس الشامخة، إلى قصور ميديشي المبهرة في فلورنسا، يرى المرء خطاً واضحاً، من استعراض (للأنا) الجبارة على مر القرون، إذ كان الأمراء في الماضي وحتى العديد من الباباوات، يعتبرون تمجيد الذات أمراً طبيعياً.

كانت هذه الحالة الذهنية تبدو غريبة، ومزعجة بعض الشيء للأميركيين، الذين اعتادوا على تقليد القائد الروماني الفلاح سينسيناتوس الذي أعاد السلطة إلى مجلس الشيوخ، والذي كثيراً ما تقارن فضيلته بتواضع جورج واشنطن المزارع المواطن الذي تقاعد عن السلطة بترفع، بينما الأمر ليس كذلك مع الرئيس دونالد ترامب.

والآن، مع تحرر غروره ونرجسيته بالكامل، يُقدّم ترامب صورة أوضح بكثير عن شخصيته في ولايته الثانية. من طمعه العلني في أراضي الدول الأخرى، إلى استراتيجية "مبدأ دونرو" الإمبريالي للهيمنة على نصف الكرة الأرضية، وتزيينه وتعديله للبيت الأبيض كما لو كان مجرد برج ترامب آخر، ونداءاته المتكررة بسجن أو إعدام المعارضين، وتلميحاته إلى حكم دائم، كل ذلك صادم للغاية لكثير من الأميركيين.

يجب النظر إلى الفشل المُذهل لمقترح ترامب للسلام في أوكرانيا المُكوّن من 28 بنداً، والذي نصّت نسخته الأولى على استسلام صارخ لأوكرانيا أمام روسيا، لدرجة أنَّ حلفاء ترامب "الجمهوريين" في مجلسي الشيوخ والنواب استشاطوا غضباً. قال زعيم الأغلبية الجمهورية السابق في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، وانضم إليه حليفا ترامب سابقاً، ليندسي غراهام وروجر ويكر، "إنَّ مكافأة روسيا على فظائعها ستكون كارثية على مصالح أميركا".

وفي مجلس النواب الذي ظل في جيب ترامب الخلفي منذ بداية العام الجاري قال النائب الجمهوري دون بيكون، إنَّ الخطة "تبدو مثل ميونيخ عام 1938" وغرد قائلاً، "من الأفضل أن يُطرد بعض الناس يوم الاثنين بسبب الهراء الفادح الذي شهدناه للتو خلال الأيام الأربعة الماضية".

كان الأمر الأكثر إثارةً للدهشة والاهتمام، هو خلاف ماركو روبيو وزملائه الجمهوريين السابقين في مجلس الشيوخ، حيث يتهم كل طرف الآخر  بالكذب بشأن خطة أوكرانيا. فقد قال السيناتور مايك راوندز، إن روبيو الذي تدخل لإصلاح الفوضى التي تسبب بها كبير مفاوضي ترامب ستيف ويتكوف، أفاد الكونغرس أنَّ الخطة الأصلية التي طالب ترامب في البداية بأن توافق عليها أوكرانيا بحلول عيد الشكر، لم تكن سوى قائمة أمنيات روسية، وأنَّ روبيو "أوضح لنا تماماً أنَّ الإدارة تلقت اقتراحاً من موسكو". لكن لاحقاً، نفى روبيو ذلك، مؤكداً أنًّ الخطة "من إعداد الولايات المتحدة" باعتبارها "إطاراً قوياً للمفاوضات الجارية".

وحتى بالنسبة إلى ترامب الذي غالباً ما يناقض نفسه، فإنَّ نهجه الأحادي الذي يتبنى فكرة "أنا وحدي أستطيع إصلاح الأمر" تجاه أوكرانيا أصبح متقلباً إلى درجة أنًّ حزبه أيضاً لم يعد يفهم موقفه، وقد بدأوا يشعرون بالغضب حيال ذلك. وفي أيلول/ سبتمبر الماضي فقط، وبعد أن انتقد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سابقاً لكونه "لا يملك أوراقاً"، عاد ترامب وغيّر رأيه وكتب أنَّ أوكرانيا الآن "في وضع يسمح لها بالقتال واستعادة كامل أراضيها الأصلية". وفي الأسبوع الماضي، بدا أنَّ ترامب قد غيّر موقفه مرة أخرى وأصرَّ على أن تتخلى أوكرانيا عن أراض ما تزال تحت سيطرتها لصالح روسيا.

والآن، يشكو الجمهوريون من أنّ الرئيس ترامب، على غرار التقليد العريق للحكام المستبدين غير المبالين الذين يعود تاريخهم إلى عهد نيرون أو بييرو دي ميديشي، لا يستشير أحداً تقريباً في صنع السياسات.

ذكرت صحيفة "سيمفور" في وقت سابق من هذا الشهر، أنَّ ترامب "حصل على كل ما طالب به من حزبه لما يقرب من عام. والآن، فجأةً، تفشل بعض إملاءاته على أقرب زملائه الجمهوريين"، وأشارت الصحيفة إلى مقاومة "الحزب الجمهوري" لمساعي ترامب لإلغاء دعم قانون الرعاية الصحية الميسرة، وفرض وقف مؤقت على لوائح الذكاء الاصطناعي في الولايات، وتطبيق إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية على نطاق واسع. وأعرب ويكر، من جانبه، عن استيائه من "عدم وجود أي مشاورات فعلية مع الكونغرس" بشأن استراتيجية ترامب الدفاعية الوطنية الناشئة.

وينطبق هذا أيضاً على سياسته المتعلقة بالرسوم الجمركية. فالرئيس، كإمبراطور متهور يُوازن بين مؤيديه في بلاطه، ويدأب على فرض رسوم جمركية جديدة على دول يعتقد أنَّها أساءت إليه شخصياً، مثل كندا والبرازيل، فيما فرضه لأي رسوم جمركية من جانب واحد يُطعن به الآن أمام المحاكم.

ولكن، في الأسبوع الماضي، وفي مواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومقاومة الحزب الجمهوري، رفع ترامب بهدوء الرسوم الجمركية البالغة 40% على المنتجات الغذائية البرازيلية، بما في ذلك لحوم البقر والقهوة والكاكاو، والتي فرضها في تموز/ يوليو الماضي، لمعاقبة البرازيل على مقاضاة حليفه الرئيس السابق جايير بولسونارو.

وفي أول الأسبوع الجاري، قد تكون الضربة الأشد وطأة لإصرار ترامب المُستميت على أن تُقاضي وزارة عدله الخاضعة له تماماً، والتي تُطيع أوامره ضد خصومه السياسيين، قاضية فيدرالية لأنَّها رفضت لوائح الاتهام الموجهة إلى مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق جيمس كومي والمدعية العامة لنيويورك ليتيتيا جيمس. وخلصت قاضية المحكمة الجزئية الأميركية كاميرون كوري، إلى أنَّ تعيين المدعي العام الذي اختاره ترامب بنفسه غير قانوني. لأن المسؤولية النهائية عن هذه الخطوة، تقع على عاتق المحاكم والكونغرس، وليس على عاتق المدعية العامة بام بوندي، المخلصة لترامب.

تطول قائمة انتكاسات ترامب الأخيرة. حيث دفعت تهديدات الرئيس ضد فنزويلا، السيناتور راند بول، وهو جمهوري آخر غير راض عن سياسات الرئيس، قد حذر مؤخراً من أنًّ الغزو الأميركي لفنزويلا قد يؤدي إلى "انقسام وتصدع الحركة التي دعمت الرئيس". وأشار إلى أنَّ "كثيرين من ضمنهم هو، انجذبوا إلى الرئيس بسبب تردده في توريط البلاد في حرب خارجية".

ثم جاء الانشقاق الدرامي الأسبوع الماضي لواحدة من أقوى حلفاء ترامب في حركة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، النائبة مارجوري تايلور غرين التي أعلنت استقالتها من الكونغرس وشبهت نفسها بـ "الزوجة المُعنفة"، وقصدت ترامب على وجه التحديد، وقالت "إنَّ الدفاع عن النساء الأميركيات اللاتي تعرضن للاغتصاب في سن 14 عاماً، والاتجار بهن، واستغلالهن من قبل رجال أثرياء ذوي نفوذ، لا ينبغي أن يؤدي إلى وصفي بالخائنة وتهديدي من قبل رئيس الولايات المتحدة، الذي ناضلت من أجله".

وقد انضم إلى غرين حليفتان قديمتان لترامب في الكونغرس، هما النائبتان لورين بويبرت ونانسي ميس، وأضافت غرين، بأنَّها ستتحدى ترامب وتصوت مع الديمقراطيين لصالح إجراء في مجلس النواب من شأنه أن يفرض الكشف عن ملفات جيفري إبستين، المدان بالاعتداء الجنسي والذي كان صديقاً لترامب.

وقد دفع ذلك الرئيس، الذي عارض الإفراج عن ملفات إبستين، إلى التراجع فجأةً بعد حدوث شيء غير مسبوق في عهد رئاسته الثانية، حيث صوت كلا مجلسي الكونغرس والنواب بشبه إجماع، لإجبار وزارة عدل ترامب على نشر ملفات إبستين.

ومن الجدير بالذكر أنَّ هذه المجموعة الصريحة من أعضاء الحزب الجمهوري بقيادة غرين، كانت قد روجت لفترة طويلة سابقاً لادعاء ترامب الكاذب بأنًّه فاز في الانتخابات في عام 2020. وينبع جزء من هذا التراجع إلى الضعف الانتخابي الذي أظهره الجمهوريون في يوم 4 من الشهر الجاري، عندما حقق الديمقراطيون نتائج أفضل بكثير من المتوقع في عدة ولايات في الانتخابات المحلية. وقد دفعت هذه النتائج الجمهوريين إلى البدء في "التفكير في عالم ما بعد ترامب"، كما وصفته مجلة "ناشيونال ريفيو".

وبالنسبة إلى العالم الأوسع الذي ينتظر أي إشارة إلى أنّ نهج ترامب الذي يشبه الثور في متجر الخزف في ممارسة السلطة قد تم إيقافه أخيراً، فقد جاءت ردود الفعل المفعمة بالأمل بسرعة، وربما بسرعة أكبر مما ينبغي. وقد كتب بيوتر سمولار في صحيفة "لوموند" أنَّ "عالم لنجعل أميركا عظيمة مجدداً، يلتهم نفسه"، كما تلاشت نشوة عودة دونالد ترامب إلى السلطة في الانقسامات الداخلية، والأيديولوجية والشخصية، وهي تهدد الآن التحالف الذي مكّنه من النجاح الانتخابي.

حسناً، ليس بهذه السرعة قد تحدث الأمور، فلقد أظهر ترامب قدرةً ملحوظةً على التعافي في الماضي، وما تزال ورقة "جعل أميركا عظيمةً مرةً أخرى" له قائمةً في الغالب على أساس موازنة كل حالة سياسية على حدة. ولكن ما لا يمكن إنكاره هو أنه بعد أشهر من الحصول على كل ما طالب به تقريباً من الكونغرس ومعظم العالم، يُظهر الرئيس استعداداً جديداً للاستماع، والتنازل، وحتى إلى التشاور.

لا يعني هذا أن ترامب خلال السنوات الثلاث المتبقية من ولايته، قد يتصرف كرئيس بسيط أو متواضع، وليس بالضرورة أن يكون أقرب إلى ما اعتاد عليه الأميركيون تقليدياً. في كتابه الجديد "الرومان: تاريخ على مدى ألفي عام"، الصادر عن جامعة كاليفورنيا، يُجادل المؤرخ إدوارد ج. واتس بأنَّ استمرارية أي دولة عظيمة "تعتمد على مزيج حكيم من القيادة المستنيرة، والمؤسسات القوية التي تحترم التقاليد المنبثقة عن تلك القيادة. مثلاً، روما في أوج عظمتها، حتى في عهد أسوأ أباطرتها، تمسكت بتلك التقاليد".

ومن خلال تقليده المتعمد لسينسيناتوس في الجمهورية الرومانية، كان جورج واشنطن على سبيل المثال، مُدركاً تماماً أنَّه كان يضع تقليداً، ويولد مؤسسة جديدة، ليتبعها الرؤساء في المستقبل. يضيف المؤرخ واتس، حتى في أوقات الأزمات والتغييرات الكبرى كالحرب الأهلية، والكساد الكبير، والحربين العالميتين أدرك أعظم رؤساء الولايات المتحدة، "ضرورة تطويع كل ما يفعلونه لتغيير الحياة الأميركية بما يتماشى مع تقاليدها الراسخة. وكان هذا هو نموذج الإمبراطور أوغسطس، الذي أدرك أنَّ نظامه الجديد يجب أن يستند إلى هياكل النظام القديم إذا كان يريد له النجاح. لكن الخطر يكمن في أنَّ المخربين الكاريزماتيين الذين يُحدثون "صدمات مفاجئة وغير متوقعة للنظام، ويحاولون إخضاع العالم من حولهم لإرادتهم، سيؤدي بالبلاد في النهاية، إلى ما عانت منه روما من كثرة القادة الضالين، فانهارت مؤسساتها وإمبراطوريتها. ومن المثير للقلق أيضاً أنّ الولايات المتحدة بدأت أيضاً في التخلص من العديد من تلك القيود المؤسسية منذ العقد الماضي".

في الوقت الحالي، يبدو أنَّ تلك القيود بالكاد ما زالت قائمة.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.