"فورين بوليسي": توثيق جرائم الحرب في السودان يجب أن يبدأ الآن

إنّ وقف العنف المستمر في مناطق الصراع أمر ملح، ولكن مع التكنولوجيا المتاحة اليوم أصبح جمع الأدلة أمراً ملحاً أيضاً.

  • "فورين بوليسي": توثيق جرائم الحرب في السودان يجب أن يبدأ الآن

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر تقريراً يتناول تحوّل أساليب توثيق جرائم الحرب والإبادة الجماعية من الاعتماد على الشهادات البشرية البطيئة إلى استخدام التكنولوجيا المتقدّمة، مثل صور الأقمار الصناعية واستخبارات المصادر المفتوحة، وكيف غيّر ذلك من قدرة المجتمع الدولي على كشف الجرائم بسرعة وملاحقة مرتكبيها، مع التأكيد أنّ المشكلة ليست في الأدوات بل في غياب الإرادة السياسية.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

باعتباري مراسلة حربية منذ تسعينيات القرن الماضي، شهدتُ على فشل العالم في منع وقوع إبادتين جماعيتين من جهة، وعلى النضال من أجل محاسبة مرتكبي هذه الجرائم من جهة أخرى.

في البوسنة قُتل أكثر من 800 ألف مواطن مسلم في سربرنيتسا عام 1995، وهي مدينة كانت قد أعلنتها الأمم المتحدة من قبل ملاذاً آمناً. وفي رواندا زُهقت أرواح نحو 800 ألف شخص في 100 يوم في عام 1994. وقد وقعت كلتا الفظائع تحت أنظار المجتمع الدولي، كاشفة ضُعف جاهزيته لجمع وحفظ أدلة الجرائم ضدّ الإنسانية.

آنذاك، اعتمدت التحقيقات على شهادات الناجين، ومُذكّرات الصحافيين، والعمل البطيء والمروّع لاستخراج الجثث من المقابر الجماعية. وعندما بدأت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة تحقيقاتها في حادثة سربرينيتسا عام 1996، كانت القوات الصربية قد نبشت الجثث وأعادت دفنها لإخفاء الأدلة. لكنّ أدلة جديدة ظهرت للبوسنة آنذاك سجّلتها صور الأقمار الصناعية. 

استخدمت الاستخبارات الأميركية صور الأقمار الصناعية والاستطلاعات الجغرافية المكانية لرصد التربة الملوّثة حول القرى القريبة من سريبرينيتسا، مثل بيليكا ونوفا كاسابا، وهما موقعان محتملان لمقابر جماعية. وكانت الصور أولية وسرّية في كثير من الأحيان، لكنّها مثّلت بداية ثورة تكنولوجية في مجال المساءلة، مما أدّى إلى ضغط دولي، وساعد في توجيه البحوث الميدانية. كما استُخدمت الصور كدليل في تحقيقات جرائم الحرب، وشوركت مع الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا.

على النقيض من البوسنة، في رواندا لم تكن هناك أقمار صناعية ولا طائرات من دون طيار، وكانت إمكانية الوصول إلى الأدلّة الجنائية قاصرة. والسبب الأبرز يعود إلى سرعة تطوّر الإبادة الجماعية وضُعف المراقبة الدولية على الأرض، حيث كانت مهمة الأمم المتحدة في رواندا محدودة. وفي البداية كان هناك عدد قليل من المراسلين الدوليين. والأهم أنّ صور الأقمار الصناعية كانت باهظة الثمن في ذلك الوقت، وكان تحديد مواقع القبور في رواندا من الجو أمراً صعباً جداً بسبب كثافة الغابات والمناطق الريفية النائية في رواندا.

وعوضاً من ذلك اعتمد محقّقو الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان، والصحافيون، ولاحقاً لجنة خبراء من الأمم المتحدة أيضاً، بشكل شبه كامل على الشهادات البشرية. وكانت النتيجة عملية بطيئة ومؤلمة، لكنّ آلاف الشهادات التي جُمعت كانت ضرورية لكشف الحقيقة أمام محاكم غاكاكا وهي نظام عدالة انتقالية. وقد افتُتحت المحكمة الدولية التابعة للأمم المتحدة في رواندا عام 1994 وأُغلقت عام 2015، ووجّهت اتهامات لـ 93 شخصاً خلال تلك الفترة، لكنها لم تكن عدالة سريعة ولا شاملة.

وبعد أكثر من 30 عاماً، تغيّرت أدوات التحقيق في جرائم الحرب جذرياً على خلفيّة التطوّر التكنولوجي الثوري. فالاعتماد سابقاً على حفنة من المحقّقين يعتمد الآن على "تيرابايتات" من البيانات والصور والتنصّت اللاسلكي.

لقد أعادت "الاستخبارات مفتوحة المصدر"، تعريف كيفيّة تتبّع الفظائع والتحقّق منها وملاحقة مُرتكبيها. وكانت المحكمة الجنائية الدولية، قد بدأت باستخدام صور الأقمار الصناعية بشكل منهجي في تحقيقاتها في دارفور بالسودان في منتصف العقد الأول من القرن الجاري.

وخلال الحرب الأهلية في سوريا نشرت "الجمعية الأميركية لتقدّم العلوم"، تحليلات مفتوحة للقرى المدمّرة والمقابر الجماعية. كذلك، استخدمت المنظمات غير الحكومية أيضاً صور الأقمار الصناعية التجارية لتحديد المستشفيات التي تعرّضت للقصف والمجازر ومواقع الاحتجاز في سوريا. كما التقط الصحافيون والمواطنون في مدن مثل حلب صوراً على استخدام الطائرات الروسية للبراميل المتفجّرة والقصف المزدوج (ضربتان متتاليتان سريعتان)، فأصيب بالثانية المسعفون الأوائل الذين كانوا يساعدون ضحايا الضربة الأولى.

وسُرعان ما تبع ذلك جيل جديد من المحقّقين الرقميين. من بينها مجموعة "بيلينغكات" الصحفية الاستقصائية، التي استخدمت أدوات مفتوحة المصدر أولاً لتحديد هوية مُرتكبي الهجمات في سوريا، ثمّ لتحديد هوية القوات الروسية في أوكرانيا. أما شركة "فورنسيك أركيتكتشر" التي أسسها مهندس معماري بريطاني إسرائيلي في لندن، فقد أعادت بناء تفجيرات بشكل افتراضي باستخدام النمذجة المعمارية وبيانات تحديد الموقع الجغرافي في حالات مثل غارة جوية على مسرح في ماريوبول في أوكرانيا في آذار/مارس 2022.

كذلك، أطلقت العديد من الصحف الكبرى مثل صحيفة "نيويورك تايمز"، فرق تحقيق خاصة بها تعتمد على متخصصين في استخبارات المصادر المفتوحة التي طمست الخط الفاصل بين التحقيق الصحفي والتحقيق الجنائي، وجعلت الإفلات من العقاب أكثر صعوبة، بينما تستندُ التحقيقات الآن على قرائن وسجلات عامّة للجرائم لا يمكن محوها أو إنكارها. واليوم يمتلك الجميع هواتف مزوّدة بكاميرات، مما يسهّل الحصول على أدلّة. مثلاً تعمل منظمة "آي ويتنس" الآن مع المواطنين في مناطق الحرب لالتقاط الصور وتوثيق الفظائع بتوقيتها، مما يؤدي إلى عواقب أخلاقية وسياسية.

حين بدأتُ تغطية الحروب في أواخر ثمانينيات القرن الماضي في غزّة والضفة الغربية، كانت أدواتي دفتر ملاحظات، وهاتفاً يعمل عبر الأقمار الصناعية بحجم إبريق قهوة. ولم يكن هناك إنترنت، ولا وسائل تواصل اجتماعي، ولا صور فورية. واليوم نعمل بشكل مختلف، ونجمع بين استخبارات المصادر المفتوحة، وتحليلات الأقمار الصناعية، والتحقّق الرقمي، ومقابلات الشهود التقليدية والاستخبارات البشرية في "مشروع "الحساب"، حيث تدرّب "مؤسّستا" الصحافيين والمحامين على العمل معاً لضمان قبول الأدلّة التي تُجمع ميدانياً أمام المحاكم. كما نعمل مباشرةً مع المدّعين العامّين، ونساعدهم في إعداد ملفاتهم.

وكان مشروع "الحساب"، قد عقد ندوة في جامعة ييل في أوائل الشهر الجاري بعنوان "كيفيّة القبض على مجرم حرب في القرن الحالي". وركّزنا على 3 صراعات آنيّة، هي الحرب بين "إسرائيل" و"حماس" في غزّة، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، والحرب الأهلية في السودان، وكيف غيّرت التكنولوجيا مسار تحقيق العدالة. وقد جمعنا محامين ومحللين وعلماء بيانات وصحافيين لمناقشة كيفيّة مكافحة الجريمة والقبض على الجناة في وقت أسرع.

في السودان يُقدَّر أنّ أكثر من 150 ألف شخص لقوا حتفهم في القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية منذ نيسان/أبريل 2023، حيث الأدلّة مرئيةٌ بوضوح من الفضاء. وفي تشرين الأول/أكتوبر، سقطت مدينة الفاشر في أيدي قوات الدعم السريع بعد حصار قاس دام 18 شهراً، وأفضى إلى نقص إمدادات الغذاء والكهرباء والمياه إلى مستويات حرجة. وبعد الاستيلاء على المدينة، وردت تقارير عن إعدامات جماعية وحوادث اغتصاب وعرقلة متعمّدة للمساعدات، إضافة إلى اكتشاف مقابر جماعية.

وقد مثّل سقوط الفاشر لحظةً حاسمةً، حيث فات الأوان بشكل مؤسف، لمنع ما وصفته وزارة الخارجية الأميركية بالفعل بالإبادة الجماعية، رغم الجهود اليائسة التي بذلها مسؤولون أمميون ملتزمون، مثل توم فليتشر من مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، الذي زار السودان الأسبوع الماضي، ووصف مدينة الفاشر بأنَّها "مسرح جريمة". مع ذلك، الآن هو الوقت المناسب للانتقال إلى التوثيق والملاحقة القضائية المحتملة، حيث إنّ وقف العنف المستمر أمرٌ مُلحّ، وكذلك هو جمع الأدلّة.

قال المستشار السوداني في منظمة "فريدوم هاوس" قسكوندي عبد الشافي، خلال حديثه في مؤتمر جامعة ييل، "من سماء الفاشر، تلتقط الأقمار الصناعية آثار مجتمعات مُحيت عمداً. ومع ذلك، لا يزال العالم يصمُّ آذانه عن الصرخات التي تعلو فوق صوت المدافع، كما يتردّد صدى أنين الأطفال والنساء المغتصبات بين الأنقاض، يُطالبن بالعدالة لا بالتعاطف".

وكان مختبر ييل للأبحاث الإنسانية قد أصدر صوراً ملتقطةً بالأقمار الصناعية تُظهر " عمليات نبش تُشبه المقابر الجماعية" خارج الفاشر. ويبدو أنّ الصور تكشف التخلّص الممنهج من الجثث، أي عملية تنظيف بعد ارتكاب المجازر.

ويُمكن لهذه الصور أن تُسهم في تغيير نظرة المجتمع الدولي إلى السودان كصراع سياسي داخلي. ولم يُظهر بحث مختبر ييل أدلّةً تُشير إلى نيّة إبادة جماعية فحسب، بل أظهر أيضاً أنماطاً من استهداف المدنيين عمداً. وبالنسبة لصانعي السياسات، يُمكن لمثل هذه التقارير أن تُحوّل الادعاءات إلى حقائق دامغة أمام القانون.

ووصفت جيهان هنري المحللة المخضرمة في شؤون السودان والتي تقود عمل مشروع "الحساب" في دارفور، أنّ هناك طوفان من الأدلّة من منطقة الفاشر وُثّقت عبر الهواتف الذكية وعلى منصّات وسائل التواصل الاجتماعي.

ولقد رأينا مقاتلي قوات الدعم السريع يصوّرون أنفسهم وهم يقتلون المدنيين ويتباهون بذلك. وقد تحقّقت منظمات حقوق الإنسان من هذه الصور وقارنتها ببيانات الأقمار الصناعية، وحدّدت هوية القادة والأفراد الذين يقومون بذلك، بينما لم يعد هناك شكّ في وقوع الانتهاكات.

كما أنّ التوافق بين الأدلّة وروايات الشهود، وتحديد المواقع الجغرافية، والبيانات الوصفية، وصور الأقمار الصناعية، يُصعّب على الجناة إنكار جرائمهم أكثر من أيّ وقت مضى. وفي الوقت نفسه يُسهّل على العاملين في الميدان سرعة التحرّك، ففي بعض الحالات، يستطيع المحقّقون كشف الفظائع فور وقوعها أو قبله أحياناً، مما يُمكّن المنظمات الإنسانية من تحذير المدنيين قبل وقوع الهجوم أو حفظ الأدلة قبل اختفائها.

لكنّ التكنولوجيا لا تُجسّد العدالة. تستطيع الأقمار الصناعية كشف الفظائع، لكنها لا تستطيع ملاحقة مُرتكبيها. تستطيع استخبارات المصادر المفتوحة التحقّق من الأدلّة، لكنها لا تستطيع إنفاذ القانون الدولي، ولا تزال الفجوة شاسعة بين الأدلّة والمساءلة، ليس بسبب افتقارنا للأدوات، بل لافتقارنا للإرادة السياسية للتصرّف بناءً على ما بين أيدينا وملاحقة مُرتكبي الفظائع.

والتحدّي الآن هو دمج الأدلّة الرقمية في آليات العدالة الرسمية، حيث يتوجب على المحاكم التكيّف مع أشكال التحقيق الجديدة والعمل بشكل أكثر سلاسة مع المجتمع المدني. كما يجب على الدول أن تكون مستعدة للتصرّف بناءً على المعلومات المتوفّرة لديها بالفعل من خلال الالتزام بالقبض على الجناة. ويجب على المواطنين أن يطالبوا بألا تبقى البيانات الحيوية مجرّد صور على الشاشة.

يقول المحامي السوداني معتصم علي، "إنّ المعلومات الاستخباراتية مفتوحة المصدر وصور الأقمار الصناعية لا تُعدّ أدلةً فحسب، بل يُمكنها إنقاذ أرواح عندما يتقاعس العالم عن التحرّك. ويتوجب علينا إبلاغ الناس بهذه الحوادث سعياً لوقف الفظائع الآن ومنعها مستقبلاً".

لا شكّ بأنّ المحامي معتصم علي مُحقّ، فلقد أصبحت التكنولوجيا شاهداً لا يُمكن إسكاته، والسؤال الآن هل سيُنصت العالم إلى صوت المطالبين بالعدالة.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.