"فورين بوليسي": كيف خسرت ألمانيا الشرق الأوسط؟

أدى دعم برلين القاطع لـ "إسرائيل" إلى تآكل بصمتها كقوة ناعمة في المنطقة، واستطلاع للرأي يظهر أنّ 75% من المستطلعة آراؤهم كان لديهم رأي سلبي في موقف ألمانيا من الحرب.

  • الشرطة الألمانية تفرق متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين من جامعة برلين (أسوشييتد برس)
    الشرطة الألمانية تفرّق متظاهرين مؤيّدين للفلسطينيين من جامعة برلين (أسوشييتد برس)

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب رويري كيسي، تحدث فيه عن تراجع مكانة ألمانيا في الشرق الأوسط نتيجة دعمها لـ "إسرائيل" على الرغم من ارتكابها إبادة جماعية، وتعالي الأصوات المعارضة لهذا الدعم.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أثار سفير ألمانيا لدى تونس، بيتر بروغل، جدلًا أثناء حديثه في افتتاح مدرسة ثانوية جديدة في ضواحي تونس العاصمة. إذ بعد أن أعرب وزير التعليم التونسي عن تضامنه مع غزة خلال الحفل، وصف بروغل الإسرائيليين أنّهم ضحايا "الإرهاب الفلسطيني".

اعترض الوزير التونسي بغضب مؤكداً أنّ كلام السفير يتعارض مع موقف تونس من الحرب، وغادر بروغل الحفل على عجل. وأصرّت السفارة الألمانية على أنّ بروغل أعرب عن تعاطفه مع جميع الضحايا، لكنه قال "لا يمكننا تجاهل أن هذا التصعيد كان بسبب الهجوم الإرهابي الهمجي لحماس على إسرائيل".

وبعد أيام، تجمّع المتظاهرون خارج السفارة الألمانية للمطالبة باستقالة بروغل. وكانت الاحتجاجات ضد الحرب الإسرائيلية على غزة قد استهدفت بالفعل سفارتي الولايات المتحدة وفرنسا في تونس، لكن هذه هي المرة الأولى التي يوجّهون فيها غضبهم نحو ألمانيا.

ووصفت صحيفة "بيلد" الألمانية انتقاد بروغل بأنّه "هجوم كراهية" وذكّرت قرّاءها بأنّ المدرسة الجديدة، التي تم تمويلها جزئياً من قبل بنك التنمية الألماني، لم تُفتتح إلا بفضل سخاء ألمانيا.

على مدى عقود، سعت ألمانيا إلى التوفيق بين علاقتها بـ "إسرائيل" وعلاقة ودية تجاه العالم العربي، لكن منذ السابع من أكتوبر، تعثّر هذا التوازن.

في جميع أنحاء الشرق الأوسط، هناك دعم متزايد للمقاومة الفلسطينية - وإدانة لما يعتبره الكثير من العرب حرب إبادة جماعية من قبل "إسرائيل".

أما برلين، فدعمت في البداية الهجوم الإسرائيلي على غزة من دون أي تحفّظات إلى حد كبير. وعلى الرغم من أن بعض المسؤولين الألمانيين اتخذوا موقفاً أكثر انتقاداً في الأسابيع الأخيرة، إلّا أنّ برلين مستمرة في تأكيد نفسها كواحدة من أقرب حلفاء "إسرائيل" السياسيين والعسكريين، حتى بعد أكثر من سبعة أشهر من القصف الإسرائيلي. وقد أدّى رد فعل ألمانيا المتصلّب على الحرب إلى تشويه سمعتها في الشرق الأوسط بسرعة.

صورة ألمانيا تعاني في العالم العربي

أظهر استطلاع للرأي أُجري في كانون الثاني/يناير من هذا العام، أنّ 75% من المستطلعة آراؤهم كان لديهم رأي سلبي في موقف ألمانيا من الحرب.

لطالما سادت الانطباعات الإيجابية عن ألمانيا في الشرق الأوسط، فقد ارتبطت البلاد بالسيارات السريعة والمنتجات عالية التقنية والسياح الودودين. كما رفضت الحكومة الألمانية المشاركة في حرب العراق واستقبلت أكثر من مليون لاجئ سوري. وأصبحت برلين، موطن أكبر جالية فلسطينية في أوروبا، ومركزاً للثقافة والحياة الفكرية العربية. أيضاً، تفتقر ألمانيا إلى الإرث الاستعماري المباشر في الشرق الأوسط الذي لا يزال يغذّي عدم الثقة الإقليمية بقوى مثل فرنسا والمملكة المتحدة.

أمّا اليوم، ففي الوقت الذي أعربت فيه شخصيات عامة في ألمانيا عن تضامنها مع "إسرائيل"، قامت الشرطة بقمع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وفرّقتها بعنف أو حظرتها بحجة معاداة السامية.

وقد حُذّر الفنانون والمثقفون الذين ينتقدون "إسرائيل"، بمن فيهم اليهود والعرب، من موجة من التكميم في المجتمع الألماني، حيث شهد العديد منهم إلغاء الجوائز والتمويل أو إلغاء الفعاليات. وبينهم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، التي ألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل توزيع جوائزها في تشرين الأول/أكتوبر، وعالم الأنثروبولوجيا اللبناني المصري غسان الحاج الذي طرده معهد "ماكس بلانك" المرموق في شباط/فبراير، حيث قال المعهد إنّ الآراء التي نشرها الحاج على وسائل التواصل الاجتماعي "لا تتوافق" مع قيمه.

على وسائل التواصل الاجتماعي، لاحظ عالم الاجتماع المقيم في المغرب عمرو علي شيئاً لم يره من قبل، إذ كان الشباب في جميع أنحاء العالم العربي ينشرون يومياً عن ألمانيا، ولم تكن انطباعاتهم إيجابية. ويربط علي تغيّر النظرة إلى البلد بإعادة توجيه السياسة العالمية، حيث أصبح الدعم الغربي لـ "إسرائيل" مصدر نفاق لا يطاق بالنسبة للكثيرين في جنوب العالم.

من غير المرجّح أن يؤثّر هذا التغيير في الرأي العام على علاقات ألمانيا السياسية أو الاقتصادية مع الدول العربية. ومع ذلك، فإن لديه القدرة على تقويض قوة برلين الناعمة في المنطقة.

تحدّثت "فورين بوليسي" مع تسعة موظفين حاليين وسابقين في ست مؤسسات ألمانية تعمل في خمس دول شرق أوسطية، وقالوا إنّ موقف ألمانيا المتشدّد من الحرب قد عرّض عملهم مع الشركاء المحليين والمجتمعات المحلية للخطر، مما أضرّ بالثقة والمصداقية التي استغرق تطويرها سنوات أو عقوداً.

لقد ازدادت الفجوة بين مقار المنظمات الألمانية ومواقعها في الشرق الأوسط بشكل صارخ منذ 7 أكتوبر. يقول الموظفون في مؤسسات في عدة دول إنّ استخدام مصطلحات مثل "الفصل العنصري" و"الإبادة الجماعية" في إشارة إلى معاملة "إسرائيل" للفلسطينيين - وهي عبارات مرفوضة وتعتبرها الحكومة الألمانية معادية للسامية - أمر شائع بين الزملاء المباشرين.

ويقولون إنّ عملهم قد تضرر بسبب دعم ألمانيا للحرب، وصمت منظماتهم أو دعمها لـ "إسرائيل"، وردود الفعل السلبية المتعلقة بقمع الأصوات المؤيدة للفلسطينيين في ألمانيا.

قال ثلاثة موظفين حاليين وسابقين في الوكالة الألمانية للتعاون الدولي لمجلة "فورين بوليسي" إنّ "تواطؤ ألمانيا في الحرب تسبب في غضب داخل وكالة التنمية". ولم تتخذ الوكالة الألمانية للتعاون الدولي موقفاً علنياً من الحرب، حتى بعد أن وضعت "إسرائيل" أحد موظفيها الفلسطينيين رهن الاعتقال الإداري - من دون محاكمة أو توجيه تهم - في آذار/مارس. وهذا يختلف عن موقف الوكالة الألمانية للتعاون الدولي القوي ضد الحرب الروسية في أوكرانيا.

وقالت المصادر إنّ منظمتين غير حكوميتين فلسطينيتين على الأقل عملتا مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي تقاطعان الوكالة الآن. وأكّد أحدهم أنّ الأجواء "الاستبدادية"، دفعت بعض الموظفين إلى الخوف من التحدث علانية والبعض الآخر إلى الاستقالة. وقال المصدر عن تصرفات ألمانيا: "أنت تموّل القصف من جانب، وتلقي بالقليل من المساعدات لإظهار أنك إنساني".

ومن أجل الابتعاد عن الأضواء وحماية موظفيها وشركائها المحليين، ألغت العديد من المنظمات الألمانية التي تعمل في الشرق الأوسط بهدوء الفعاليات العامة وأجّلت نشر تقاريرها أو أزالت شعاراتها من المشاريع التي تدعمها.

وقالت عدة مصادر إنّها تخشى أن تتهم وسائل الإعلام الألمانية أو الحكومة الألمانية منظماتها أو شركاءها المحليين بمعاداة السامية إذا ما قام أي شخص تابع لها بدعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات أو انتقد إسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي.

وقد أصدر بعض الشركاء الإقليميين مقاطعاتهم الخاصة ضد ألمانيا. فقد رفضت مجموعة "ملاذ الفنانين" التي تتخذ من لبنان مقراً لها منحة قدرها 35,000 دولار من مؤسسة "روزا لوكسمبورغ" التابعة لحزب اليسار الاشتراكي في كانون الثاني/يناير بعد أن انتقد أحد أعضاء مجلس الإدارة عدم قبول مصر للفلسطينيين الفارين من غزة، وهو ما قالت المجموعة اللبنانية إنّه يرقى إلى دعم التطهير العرقي.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.