"Mintpress": التسلل.. وظيفة الحركة الصهيونية الأساسية
تعمل الحركة الصهيونية على إنشاء "جماعات الضغط الإسرائيلية" ودعمها لتوسيع نطاقها الأيديولوجي والسياسي، وتشكيل السياسة الخارجية والداخلية في البلدان التي تعمل فيها.
-
صهاينة يحملون صورة تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية
موقع "Mintpress News" ينشر مقالاً مطوّلاً يتناول استراتيجية الحركة الصهيونية العالمية في ترسيخ نفوذها حول العالم عبر وسائل متعددة أبرزها التسلل الاجتماعي والسياسي، ومؤسساتها الصهيونية الرسمية ونفوذها المالي والسياسي، وأيضاً الاختراق والتأثير في مجالات حيوية، بما يشمل الإعلام، والجامعات، والسياسة، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والمجتمع المدني، لضمان حضور الصهيونية في كل مستويات البنية الاجتماعية.
يوضح المقال أنّ الصهيونية ليست مجرد حركة سياسية أو دينية، بل شبكة استراتيجية عالمية تعمل على ترسيخ ولاء أيديولوجي عالمي وخدمة مصالح "إسرائيل" عبر التسلل والتأثير المستمر.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
تعمل الحركة الصهيونية على إنشاء "جماعات الضغط الإسرائيلية" ودعمها لتوسيع نطاقها الأيديولوجي والسياسي، وتشكيل السياسة الخارجية والداخلية في البلدان التي تعمل فيها. وتُقدم الحركة الدعم المادي للتطهير العرقي والإبادة الجماعية، وتضخّ ملايين الدولارات سنوياً عبر جمعيات خيرية تُسهم في سرقة الأراضي وارتكاب جرائم حرب. كما تقوم الحركة بتنشئة الأطفال والشباب ليصبحوا موالين أيديولوجياً لها من خلال شبكة واسعة من المدارس والمعابد اليهودية والمجموعات الشبابية وبرامج تجنيد المستوطنين، بما في ذلك جولات "حق الولادة" ورحلة "ماسا" وبرنامج "الجندي الوحيد". علاوة على ذلك، تُرسل الحركة أتباعها بشكل منهجي إلى المجتمع الأوسع كعملاء دائمين للأيديولوجية الصهيونية. هذا ما يُسمى بالتسلل.
يتجاوز مفهوم التسلل النموذج الاستخباري التقليدي القائم على تجنيد العملاء للقيام بمهام سرية، مع أن ذلك يبقى جزءاً منه. فهو يتضمن أيضاً استخدام أفراد يُطلق عليهم لقب العملاء النائمين، الجاهزين لتنفيذ المهام في أي وقت.
لكن الأمر يتجاوز ذلك، بمعنى أنه في كثير من الحالات، لا يحتاج العملاء النائمون إلى تربيتة على الكتف للمشاركة في مهمة معينة. فهم مستعدون للتحرك عندما تتعرض مصالح ما يُسمى بالدولة اليهودية للتهديد، أو حتى عندما يتصور البعض أنها مهددة. وهم مُهيأون من خلال تجربتهم الطويلة في التطرف والإعداد ليصبحوا صهاينةً أيديولوجيين مؤمنين. بعبارةٍ أخرى، هذا مستوى متعدد الجوانب وعميق من التسلل يتم غرسه منذ الطفولة وتعزيزه في كل مرحلةٍ من مراحل الحياة.
ولكي نفهم كيف نشأ هذا النظام، يتعين علينا أن ندرس أصول الحركة الصهيونية وتطورها.
الحركة الصهيونية
يتفق الصهاينة الأكثر تشدداً والاشتراكيون الأكثر ثورية على أنه قبل عام 1948، عملت الحركة الصهيونية كقوة سياسية منسقة. ونظّمت النكبة والتطهير العرقي والتهجير الجماعي للفلسطينيين، ونفذتها بهدف إقامة ما سمته "دولة إسرائيل". ومن المؤكد أن الصهاينة يرفضون هذه المصطلحات، إلا أنّ السجلات التاريخية واضحة في هذا الخصوص.
بعد تحقيق هدفها الأساسي عام 1948، فكّرت الحركة لفترة وجيزة في حلّ نفسها. لكن في المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عُقد في القدس عام 1951، اختار المندوبون الاستمرار في هذه الحركة وإعادة وضع أهداف جديدة للمستقبل.
وأدى ذلك إلى وضع "برنامج القدس"، الذي حدّد رسمياً أهداف الحركة الجديدة. وبالتزامن مع ذلك، سنّ "البرلمان" الإسرائيلي قانون المنظمة الصهيونية العالمية، وهي الوكالة اليهودية (الوضع القانوني) لتنظيم العلاقة بين "دولة إسرائيل" والحركة الصهيونية. ولا يزال هذا القانون ساري المفعول حتى يومنا هذا، ويحدد عمليات الحركة الصهيونية العالمية ومسؤولياتها.
مؤتمر عام 1951
خلال المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عُقد في القدس في 24 أيلول/ سبتمبر 1951، وقفت الحركة عند مفترق طرق. فمع تأسيس "دولة إسرائيل" قبل ذلك بـ3 سنوات، ناقش المندوبون إذا ما كانت الحركة الصهيونية قد حققت هدفها، وهل ينبغي لها أن تنحل أو تعيد بناء نفسها مع أهداف جديدة. وعملياً، قرر المؤتمر مواصلة أعماله، بأغلبية 286 صوتاً مقابل لا شيء، وامتناع 438 مندوباً متبقين عن التصويت. واعتمد مجموعة جديدة من الأهداف لإعادة توجيه الحركة. وتم تحديد هذه الأهداف على النحو التالي: تعزيز "دولة إسرائيل"، وجمع شمل الشتات في أرض "إسرائيل"، وتعزيز وحدة الشعب اليهودي. وشهدت هذه الفترة تحول الصهيونية من حركة استعمارية استيطانية إلى بنية أيديولوجية عالمية. ولم يعد الأمر يقتصر على بناء دولة فحسب، بل على ترسيخ هذه الدولة في قلوب اليهود وعقولهم ومؤسساتهم حول العالم.
وضع الحركة الصهيونية
لقد حدّد القانون الذي أقرّه الكنيست لتنظيم العلاقة بين الحركة الصهيونية و"دولة إسرائيل"، التزامات كلا الطرفين. وعيّن المنظمة الصهيونية العالمية الجهة المخوّلة المسؤولة عن تنمية الأرض واستيطانها، واستيعاب المهاجرين من الشتات، وتنسيق عمل المؤسسات اليهودية العاملة في الداخل الإسرائيلي.
والأهم من ذلك، أكد القانون أن "إسرائيل" "تتوقع تعاون جميع اليهود، أفراداً وجماعات، في بناء الدولة". كما نصّ على أن المنظمة الصهيونية العالمية "تشترط التعاون والتنسيق الكاملين من جانبها مع "دولة إسرائيل" وحكومتها، وفقاً لقوانين الدولة". ولتحقيق هذه الغاية، نص القانون على إنشاء لجنة رسمية لتنسيق الأنشطة بين الحكومة الإسرائيلية والقيادة التنفيذية للحركة الصهيونية.
بمعنى آخر، إنّ "دولة إسرائيل" والمنظمة الصهيونية العالمية ملزمتان بحكم القانون بالعمل معاً، وكما هو منصوص عليه في القانون، تتوقع الهيئتان تعاون جميع اليهود.
أُنشئ برنامج القدس، الذي وضع الأهداف التشغيلية للمنظمة الصهيونية العالمية، خلال المؤتمر الصهيوني عام 1951 وتمت المصادقة عليه في عام 1953. وعُدِّلت هذه الوثيقة التأسيسية لاحقاً عام 1968، ثم عام 2004، لتعكس أولويات الحركة المتطورة. وقد أدت هذه المراجعات إلى صياغة سلسلة من الالتزامات الأيديولوجية التي لا تزال سارية المفعول حتى يومنا هذا، والتي يشار إليها مجتمعة باسم "أسس الصهيونية".
ومن بين هذه الأسس الحفاظ على الوحدة اليهودية وارتباطها الدائم بأرض "إسرائيل"، فضلاً عن مركزية "دولة إسرائيل"، وتحديداً القدس، في الحياة القومية اليهودية. ويؤكد البرنامج دعم الهجرة الجماعية من البلدان كافة واستيعاب المهاجرين اليهود في المجتمع الإسرائيلي. ويدعو هذا المشروع إلى تعزيز مكانة "إسرائيل" كدولة يهودية صهيونية ديمقراطية؛ والتعليم اليهودي والعبري والصهيوني للحفاظ على خصوصية الشعب اليهودي؛ والدفاع عن حقوق اليهود عالمياً مع مكافحة معاداة السامية. والأمر الأكثر وضوحاً هو تأكيده أن "توطين اليهود في البلاد" لا يزال تعبيراً جوهرياً عن الصهيونية العملية.
وتهدف هذه المبادئ إلى توجيه النشاط الصهيوني داخل "إسرائيل" وحول العالم. ولتوضيح دور الصهاينة الأفراد في الخارج بشكل كامل، نشرت الحركة في وقت لاحق دليلاً منفصلاً يُفصّل مسؤولياتهم الشخصية خارج فلسطين المحتلة.
واجبات الفرد الصهيوني
لقد حُدّدت واجبات الفرد الصهيوني للمرة الأولى في وثيقة سياسية صدرت عام 1972، وأُقرّت في المؤتمر الصهيوني الـ28. واعتُمدت لاحقاً كجزء لا يتجزأ من قرارات المؤتمر الـ29 عام 1978. وحدد القرار الالتزامات الشخصية المترتبة على برنامج القدس والعضوية الرسمية في منظمة صهيونية.
ومن ضمن هذه الواجبات، الدعوة للهجرة إلى فلسطين المحتلة، أي أن يصبحوا مستوطنين مستعمرين. وشملت الواجبات الأخرى الانضمام إلى الاتحادات الصهيونية المحلية أو الجماعات التابعة لها، والترويج النشط للبرنامج الأيديولوجي للحركة، وضمان تلقي الأطفال تعليماً صهيونياً وعبرياً ويهودياً مصمماً لتعزيز الولاء لـ"إسرائيل". كما كان متوقعاً أن يتبرع الصهاينة بالمال من خلال قنوات قائمة مثل "كيرين هايسود" أو الصندوق القومي اليهودي أو أحد فروعه المحلية من أجل تعزيز اقتصاد "إسرائيل" وتمويل أهدافها التوسعية.
وباستثناء التحول الفعلي إلى مستوطن، تُشكل كل هذه الواجبات دعوة صريحة للتسلل إلى المجتمعات المُضيفة. ولعلّ الواجب الأكثر مباشرة هو "تعزيز النفوذ الصهيوني داخل المجتمع". ويُشير هذا على الأرجح إلى "المجتمع اليهودي" لا إلى المجتمع ككل. ومع ذلك، فهو لا يزال دعوة لتوسيع نفوذ الصهيونية على المجتمع ككل.
قد يتساءل المرء عن مدى اهتمام الصهاينة العاديين بهذه الدعوات. فهل هي مجرد كلمات جافة تُركت ليتراكم عليها الغبار في الأرشيف الصهيوني المركزي بالقدس؟ أم أنها لا تزال تُحرك الأنشطة المركزية للحركة اليوم؟ دعونا نُلقِ نظرة.
إليكم هذا التقرير من صحيفة "جويش كرونيكل" (Jewish Chronicle) عام 1961 عن اجتماع صهيوني في غلاسكو، اطلعتُ عليه أثناء كتابتي هذا المقال. أعرضه كمثال على أفكار الحركة وأنشطتها العملية. لقد نُظّم هذا الاجتماع خصيصاً ليكون فعالية صهيونية تثقيفية، وطرح مجموعة محددة من الأفكار.
"ناقش البروفسور إرنست سايمون، من الجامعة العبرية، الإجراءات التي يجب اتخاذها في حال بقي أطفال الشتات يهوداً، وذلك خلال كلمة ألقاها في اجتماع عُقد في فندق "سنترال" الأسبوع الماضي، ضمن فعاليات الأسبوعين التعليميين للاتحاد الصهيوني. وترأس الاجتماع السيد إدوارد وولفسون، رئيس الاتحاد الصهيوني في غلاسكو. ووضع الدكتور سايمون برنامجاً عملياً لتربية الأطفال كيهود، وأعلن أن هذا يجب أن يبدأ بتعليم الأمهات والآباء اليهود المنتظرين في عيادات إرشاد الأطفال. ونتيجة لذلك، سينشأ الأطفال منذ سنواتهم الأولى في جوٍّ يشاهدون فيه جميع شعارات الحياة اليهودية وعاداتها. بعد ذلك، يُرسَل الأطفال إلى حضانة يهودية أو عبرية، ثم إلى مدرسة يهودية نهارية. وأضاف الدكتور سايمون أن جزءاً مهماً آخر من البرنامج يتمثل في إحداث نهضة يهودية".
من هذا المنظور، كان التعليم الصهيوني يشترط بقاء الأطفال يهوداً، الأمر الذي جعل التعليم اليهودي أمراً بالغ الأهمية للحركة. وقد عكس تقرير صادر عام 1961 هذا الأمر، أي قبل عام من تأسيس الاتحاد الصهيوني البريطاني أول مدرسة يهودية في اسكتلندا، وهي مدرسة "كالدروود لودج". فهل لا يزال هذا الالتزام بترسيخ الصهيونية قائماً حتى هذا اليوم؟
التزام دائم بعقيدة الإبادة الجماعية
على الرغم من استيلاء السلطة المحلية عام 1982 على مدرسة "كالدروود لودج"، إلا أنها لا تزال مدرسة صهيونية حتى يومنا هذا. وهي تتعاون مع منظمة "نداء إسرائيل اليهودي الموحد" (UJIA)، وصندوق "مكابي" (Maccabi) و"يوم ميتزفه" (Mitzvah Day)، وتحالف الشباب اليهودي الاسكتلندي (SJYA)، وجماعات صهيونية أخرى. (تحالف الشباب اليهودي الاسكتلندي هو في حدّ ذاته نتاج تعاون بين صندوق "مكابي غلاسكو" ومنظمة "نداء إسرائيل اليهودي الموحد"، وكلاهما منظمتان صهيونيتان). كما تحتفل المدرسة بيوم الاستقلال الإسرائيلي (يوم هاعتزماوت) و"تحرير" القدس (يوم يروشلايم)، وهو المصطلح الذي يستخدمونه للإشارة إلى الاحتلال غير الشرعي للقدس الشرقية في عام 1967.
وتُعد منظمة "نداء إسرائيل اليهودي الموحد" (UJIA) فرعاً بريطانياً لإحدى "المؤسسات الوطنية" الـ4 في "إسرائيل"، والتي تأسست بهدف إنشاء "دولة إسرائيل" والحفاظ عليها. وهي بمنزلة فرع في المملكة المتحدة لمؤسسة "كيرين هايسود"، التي تعمل على جمع الأموال لتمويل الاستيطان في فلسطين. وفي تقريرها السنوي لعام 2019-2018، وصفت منظمة "نداء إسرائيل اليهودي الموحد" (UJIA) مهمتها بأنها تطوير لـ"علاقة دائمة" بين "إسرائيل" ومجتمع الشتات، بدءاً من الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم 4 سنوات. ومن 12 برنامجاً مدرسياً تديرها المنظمة، هناك 9 منها في المدارس الابتدائية، وتصل إلى آلاف التلاميذ.
هل نجح الأمر؟
تشير الإحصائيات المختلفة إلى أن ما بين 60% و90% من اليهود البريطانيين، أو ربما أكثر، يعتبرون أنفسهم من الصهاينة. ووجدت دراسة أجراها مركز "بيو" للدراسات (Pew ) في الولايات المتحدة عام 2021 أن "8 من كل 10 يهود أميركيين يقولون إن الاهتمام بـإسرائيل يُعد جزءاً أساسياً ومهماً من هويتهم اليهودية. ويقول نحو 6 من كل 10 إنهم يشعرون بارتباط عاطفي شخصي بإسرائيل". وفي المملكة المتحدة، كشفت دراسة أجراها معهد سياسة الشعب اليهودي عام 2024 أن "73% يقولون إنهم يشعرون بارتباط كبير أو نوعي بالبلاد. ومع ذلك، انخفضت نسبة من يعرّفون أنفسهم بأنهم "صهاينة" من 72% إلى 63% خلال العقد الماضي".
كثيراً ما يدّعي الصهاينة المتشددون أن عدد اليهود الذين يُعرّفون أنفسهم بأنهم صهاينة أكبر. فعلى سبيل المثال، أجرى ما يسمى "الحملة ضد معاداة السامية" استطلاعاً في أواخر عام 2023 أسفر عن تسجيل أرقام أعلى من ذلك. وأفادت التقارير بأن الاستطلاع "كشف أن 97% من اليهود البريطانيين يشعرون بـ"ارتباط شخصي" بالأحداث الجارية في "إسرائيل"... واعتبر 80% من المشاركين أنفسهم صهاينة".
ويبدو أنّ أنشطة منظمة "نداء إسرائيل اليهودي الموحد" (UJIA) والحركة الصهيونية الأوسع تُثبت فعاليتها. إلا أنه بعد عامين من البث المباشر للإبادة الجماعية، يتزايد القلق والمعارضة داخل المجتمع اليهودي، وخاصةً بين الشباب. وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤخراً صحيفة "جويش كرونيكل" (Jewish Chronicle) أن "57% فقط" من اليهود في العشرينيات من العمر "يتعاطفون مع الصهيونية".
ومع ذلك، لا يزال التمسك بالصهيونية كبيراً للغاية. وهذا يعني أن الصهاينة منتشرون في مختلف أنحاء البنية الاجتماعية لمعظم الدول المتقدمة، حتى عندما تكون نسبة اليهود ضئيلة للغاية، كما هي الحال في المملكة المتحدة، حيث انخفضت إلى 0.4%. أما في الولايات المتحدة، فيشكل اليهود حوالى 2.4% من مجمل السكان.
والحقيقة المُرّة هي أن الحركة الصهيونية تحثّ أتباعها على التغلغل في المجتمعات التي يعيشون فيها، وإظهار التزامهم بأيديولوجيتها العنصرية في كل فرصة ممكنة. وكما تُظهر أمثلة منظمة "نداء إسرائيل اليهودي الموحد" (UJIA) المذكورة أعلاه، فإنهم يشجعون على الالتزام الدائم بـ"إسرائيل". ولكن هل هذا هو ما يُسمى بـ"الولاء المزدوج"، أي الادعاء العنصري المزعوم بأن اليهود أكثر ولاءً لـ"دولة إسرائيل" من ولائهم للدول التي يقيمون فيها؟
وتبقى الحقيقة أن الحركة الصهيونية تُشجع على الالتزام بالأيديولوجيا الصهيونية وممارساتها، حتى عندما يتعارض ذلك مع مصالح الدولة المُضيفة. وينطبق ذلك على الدولة في معظم الحالات، وعلى المواطنين في جميع الحالات.
التعرّف على المتسللين الصهاينة
يرى البعض داخل الحركة أن مصطلح "التسلل" بات قديماً، معتبرين أنه يوحي باستراتيجية صهيونية متعمدة. مع ذلك، فقد أظهر هذا المقال وجود مثل هذه الاستراتيجية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي مدى هذه الاستراتيجية متعمدة؟ تشير الأدلة إلى وجود أنواع مختلفة من التسلل والمتسللين.
يمكننا أن نبدأ بمن يشاركون، بشكل مباشر أو غير مباشر، في أشكال محددة من التسلل لمصلحة وكالات الكيان الصهيوني. وتتوافق أنشطتهم بشكل أوثق مع المعنى التقليدي للمصطلح. من هنا، ننتقل إلى أولئك الذين تربطهم صلات أقل بالحركة ككل. وفي ما يلي، أُلخص 6 أنواع من التسلل.
الخدمة المباشرة للكيان الصهيوني
تُعد الخدمة المباشرة للكيان الصهيوني من أوضح أشكال التسلل من خلال التعاون مع أجهزته الاستخبارية. ومن الأمثلة على ذلك عائلة عوفر، التي انتهكت العقوبات الأميركية بتسليم عملاء الموساد وأسلحة لمصلحة عمليات التخريب والاغتيال في إيران. وهناك مثال آخر يتعلق بأنشطة مرتبطة بجيفري إبستين، الذي جمع مواد جنسية لمصلحة الاستخبارات الإسرائيلية.
إضافة إلى ذلك، يعتمد الموساد على عملائه غير الرسميين في الخارج، ومن أشهرهم روبرت ماكسويل. كذلك يعمل آلاف الصهاينة مع وزارة شؤون الشتات الإسرائيلية وسابقتها، وزارة الشؤون الاستراتيجية. وتراوح عملياتهم بين الدعاية وممارسة الضغط، والتصيد الإلكتروني، والتشهير، والحرب القانونية.
ومن بين هذه الشبكات حركة مكافحة معاداة السامية (Combat Antisemitism Movement) التي تضم قرابة 1000 عضو وتعمل في إطار مشروع مشترك مع شركة "أصوات إسرائيل" (Voices of Israel) التابعة لوزارة شؤون الشتات. وتشارك آلاف الجماعات الصهيونية في هذا النوع من الأنشطة.
الشركات التكنولوجية الناشئة كاستراتيجية صهيونية
علاوة على ذلك، يتم تقديم الخدمات مباشرةً للكيان الصهيوني من خلال إنشاء شركات ناشئة في مجال التكنولوجيا أسسها موظفون سابقون في المخابرات. ولطالما كانت هذه استراتيجية وكالة استخبارات الإشارات الإسرائيلية، المعروفة باسم "الوحدة 8200". ويوجد اليوم المئات من هذه الشركات في قطاع التكنولوجيا. بعضها اكتسب شهرة واسعة ومثيرة للجدل، بما في ذلك شركات "سيليبريت" (Cellebrite) و"نيس" (وNICE ) و"توكا" (Toka) ومجموعة "إن إس أو" (NSO)، وهي الشركة المصنعة لبرنامج المراقبة "بيغاسوس" (Pegasus). وتُسجل إحدى القوائم الإلكترونية لـ28 شركة من هذا النوع قيمة إجمالية قدرها 208 مليار دولار.
وقد لُوحظ على نطاق واسع الاستخدام السري لهذا البرنامج الضخم للمراقبة من قِبل النظام الصهيوني. وتُظهر التقارير الاستقصائية أيضاً أن أعداداً كبيرة من المتسللين الصهاينة - بمن فيهم أفراد سابقون في قوات الاحتلال وعملاء استخبارات وغيرهم - قد تولوا مناصب قيادية في وسائل الإعلام الرئيسة وشركات التكنولوجيا الكبرى، بما في ذلك "غوغل" و"آبل" و"فيسبوك"/"ميتا"، و"مايكروسوفت"، و"تيك توك"، وغيرها من الشركات.
مبعوثو المشروع الصهيوني
تقوم الوكالة اليهودية، وهي إحدى الركائز الأربعة للحركة الصهيونية الرسمية، بإرسال مبعوثين من فلسطين المحتلة لبناء ما تسميه "جسوراً حية إلى إسرائيل". يتم توزيع هؤلاء المبعوثين في المدارس والمعابد اليهودية ومراكز المجتمع اليهودي والمعسكرات والجامعات والحركات الشبابية والاتحادات في جميع أنحاء العالم.
وفي عام 2021، أعلن اتحاد الطلاب اليهود، وهو المجموعة الطلابية الصهيونية في المملكة المتحدة، استضافة 2 من أعضاء الوكالة اليهودية. حتى أنّ مذكرات سفيرة "إسرائيل" لدى المملكة المتحدة، التي كُشف عنها مؤخراً، دوّنت "إفطار وداع" أقامته في تموز/ يوليو 2024 لأعضاء عائدين إلى الكيان الصهيوني بعد انتهاء خدمتهم.
إضافة إلى ذلك، تقوم جماعات صهيونية أخرى بإرسال المبعوثين. فعلى سبيل المثال، أرسلت حركة "مزراحي" العالمية حوالى 300 مبعوث العام الماضي. وتستخدم طائفة "حباد" الحريدية - التي يصفها النقاد بأنها طائفة إبادة جماعية - المصطلح نفسه لشبكتها العالمية من المبعوثين. ووفقاً لمنظمة "حباد" نفسها، "تدير اليوم 4900 عائلة من مبعوثي حباد-لوبافيتش، أو شلوشيم، 3500 مؤسسة في 100 دولة ومنطقة، مع أنشطة في عدد من البلدان الأخرى".
شبكات العائلات الصهيونية
وهناك شكل آخر من أشكال دعم الإبادة الجماعية يتجلّى من خلال شبكات العائلات الصهيونية في الغرب، وخاصةً من خلال التبرعات الخيرية. إذ تقوم المؤسسات العائلية بإرسال الأموال إلى المنظمات الصهيونية، وكلها تُشجّع فعلياً على الإبادة الجماعية.
وأحد الأمثلة على ذلك الملايين الكثيرة التي تبرع بها شيلدون وميريام أديلسون للمرشحين السياسيين المؤيدين للصهيونية. وفي عام 2017، قال أديلسون: "أنا شخصٌ يُركز على قضية واحدة، وهي إسرائيل". وفي المملكة المتحدة، تُقدّم عائلة لويس، صاحبة العلامة التجارية "ريفر آيلاند"، وعائلة وولفسون، مالكة شركة "نيكست" (Next)، ملايين الدولارات لدعم الإبادة الجماعية. وتُستخدم تبرعاتهما بشكل مباشر لتمويل قوات الاحتلال، إضافة إلى بناء المستوطنات والتطهير العرقي في الضفة الغربية.
وتنفق مؤسسات عائلية صهيونية ملايين أخرى لنشر الإسلاموفوبيا، من خلال مؤسسة تبادل السياسات وجمعية "هنري جاكسون" في المملكة المتحدة، ومن خلال ما يسمى شبكة الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة. وتخصص أموالاً إضافية لتلقين الأطفال اليهود أفكارها عن طريق دور الحضانة والمدارس والمجموعات الشبابية والطلابية وجولات "حق الولادة"، التي تعزز الاعتقاد العنصري بأن لليهود الحق في سرقة الأراضي الفلسطينية وقتل الأطفال الفلسطينيين.
تسيطر العائلات الغنية الصهيونية على هذه المنح، لكن آلافاً أخرى تسهم أيضاً من خلال الجمعيات الخيرية والقضايا الصهيونية الكبيرة والصغيرة. ففي المملكة المتحدة، يوجد نحو 3000 منظمة من هذا النوع. وفي الولايات المتحدة، هناك أكثر من 10 آلاف منظمة.
الدفاع الدائم عن الصهيونية
يرتبط الشكل الأخير من التسلل ارتباطاً مباشراً بالاستراتيجية الصهيونية المتمثلة في ضمان التزام جميع اليهود بـ"إسرائيل" مدى الحياة. وكما أوضح هذا المقال، فقد كان هذا الأمر جوهرياً في الحركة الصهيونية منذ عام 1951 على الأقل، ولا يزال كذلك حتى يومنا هذا. ويتوقع الصهاينة من جميع اليهود أن يتصرفوا نيابةً عن "إسرائيل" كلما دعت الحاجة إلى ذلك، أو كلما شعروا أن المصالح الصهيونية مهددة.
من الناحية العملية، يعني ذلك خدمة الصهيونية من خلال الأنشطة المهنية والسياسية والاجتماعية اليومية، حيثما وجد الصهاينة أنفسهم: في وسائل الإعلام، والأحزاب السياسية، والأعمال التجارية، والتمويل، والمدارس، والجامعات، والمجتمع المدني، بما في ذلك المنظمات اليسارية وما يسمى "منظمات مكافحة العنصرية".
بمعنى آخر، ينخرط الصهاينة في جميع أنحاء البنية الاجتماعية في أعمال تخريب وتسلل. ومن الأمثلة على ذلك الشبكة اليهودية داخل الخدمة المدنية في المملكة المتحدة. فعلى الرغم من أن الخدمة المدنية أنشأتها، إلا أنها عملياً تُدار من قِبل الصهاينة ولمصلحتهم، لا من قِبل اليهود. وتوجد أنماط مماثلة في الجامعات، ووسائل الإعلام، والمهن القانونية، والقطاعين المالي والصناعي، وغيرها من المؤسسات في جميع أنحاء المجتمع.
وعندما يحين وقت التربيت على الكتف، كم من الذين خضعوا للتلقين الصهيوني سيفشلون في الاستجابة "بشكل مناسب"؟ إن طرح هذا السؤال يكاد يكون دعوةً إلى عدم التصديق. وفي كثير من الحالات، لا يتطلب الأمر حتى تربيتاً على الكتف. وفي هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، ووسائل الإعلام، وعالم الترفيه، والخدمة المدنية، والسياسة، والقطاع المالي، وغيرها من المناصب القيادية في المجتمع، يوجد صهاينة ملتزمون أيديولوجياً. وبالنسبة إليهم، من المنطقي تماماً "فعل الصواب" عندما يحين الوقت المناسب.
وتبقى الحقيقة أن الحركة الصهيونية تشجع الولاء لأيديولوجيتها وبرنامج عملها حتى عندما يتعارض ذلك مع مصالح الدولة المضيفة، أو في جميع الأحوال، مع مصالح مواطنيها.
هل يمكن الوثوق بالصهاينة
في النهاية، لا يمكن الوثوق بأي صهيوني. هل تظنون بأنهم لا يتسللون أيضاً إلى اليسار؟ وحركة التضامن مع فلسطين؟ وحركة مناهضة الحرب؟ الصهيونية، في جوهرها، أيديولوجيا عنصرية. ومهما حاول الصهاينة "الليبراليون" أو "الاشتراكيون" أو "اليساريون" إخفاءها، فإن هذه العنصرية تكشف عن نفسها دائماً، سواء بتبني مواقف صهيونية في حياتهم المهنية أم بتقويض النشاط المؤيد لفلسطين في الحياة السياسية وتخريبه.
وهذا يعني تاريخياً أن الحركة المناهضة للعنصرية وحركة التضامن مع فلسطين كانتا ضعيفتين في مسألة الصهيونية. وكان من الخطأ أن يتجاهل اليسار في المملكة المتحدة وغيرها الصهيونية في وقت مبكر. واليوم، نواجه صراعاً كبيراً لتطهير اليسار والحركة المناهضة للإمبريالية من الصهيونية والافتراضات الصهيونية على حد سواء، الأفكار التي تسربت من الحركة إلى وعي الكثير من الناشطين الاشتراكيين غير الصهاينة أو حتى المناهضين للصهيونية.
هذه العملية جارية منذ عقود، لكن هذا ليس المكان المناسب لإجراء تحليل مفصّل لليسار اليهودي أو لتغلغل الصهيونية في اليسار غير اليهودي. وسيتطلب الأمر شرحاً وافياً في مقال آخر. أما الآن، فيكفي الإشارة إلى الحاجة إلى معاداة فعلية وصارمة للصهيونية.
واقع التسلل اليوم
تستمر أشكال التسلل التقليدية التي تستخدمها أجهزة الاستخبارات، من الجواسيس السريين والمخبرين، وفي حالة الصهاينة، الاختراق واسع النطاق لقطاع التكنولوجيا من قبل خريجي "الوحدة 8200". علاوة على ذلك، تستخدم الحركة الصهيونية المبعوثين على نطاق واسع، سواء من خلال الحركة السائدة أم من خلال عناصر أكثر هامشية مثل طائفة "حباد-لوبافيتش"، كما رأينا.
وهناك جهود تُبذل لتجنيد جميع اليهود في "ارتباط دائم" مع "إسرائيل". من الناحية العملية، تتعامل الحركة مع جميع اليهود كموارد محتملة. ولهذا السبب تُبذل جهود كبيرة لتهيئتهم وترسيخ تطرفهم من خلال دور الحضانة والمدارس والمعابد اليهودية والمجموعات الشبابية والطلابية، إضافة إلى مجموعة واسعة من جماعات الضغط والجمعيات الخيرية الصهيونية.
كما أنهم يحاولون جعل اليهود متطرفين، بحيث يضعون "إسرائيل" في المقام الأول أينما وجدوا في البنية الاجتماعية. ونظراً لأن اليهود يتمتعون بامتيازات منهجية في البنية الاجتماعية في جميع أنحاء الغرب، فإن هذا من شأنه أن يُشكل مجموعة علاقات قوية جداً. وأعتقد بأن التسلل هو مبدأ أساسي في الحركة الصهيونية، ويساعد في تفسير كيف أصبحت الأفكار والأفراد الصهاينة راسخين إلى هذا الحد في الحياة السياسية والمدنية والاقتصادية والثقافية في الدول الغربية.
في الخلاصة، تُعد معرفة عدوك الخطوة الأولى نحو هزيمته، ونحو نزع الصهيونية من مكانتها وإلغاء دورها الراسخ في المجتمع.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.