"Responsible Statecraft": نزعة حربية متزايدة في أوروبا.. وإنفاق عسكري غير مدروس

في غياب أي تفكير استراتيجي، اجتاحت نزعة حربية جديدة النخب الأوروبية ودخلت في حالة من الفوضى العارمة.

  • "Responsible Statecraft": نزعة حربية متزايدة في أوروبا.. وإنفاق عسكري غير مدروس

مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً يناقش التوجه العسكري المتزايد في أوروبا، خاصة في ظل الحرب الروسية- الأوكرانية، وينتقد التركيز على زيادة الإنفاق الدفاعي كحلٍ للتحديات الأمنية، من دون تقييم شامل للتهديدات الحقيقية.

ويشير النص إلى أنّ الدول الأوروبية، تحت ضغط الولايات المتحدة، بدأت في زيادة الإنفاق العسكري بشكل غير مدروس، وذلك من دون وضع استراتيجية أمنية  تشمل الدبلوماسية والسيطرة على التسلح ونزع السلاح.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

يحث خبراء الأمن والقادة في الولايات المتحدة حلفاءهم الأوروبيين في "الناتو" على زيادة الإنفاق الدفاعي منذ ما لا يقل عن ربع قرن، بدأ الأمر كنصيحة لطيفة، ثم أصبح أكثر إلحاحاً، وصولاً إلى ضوضاء تصم الآذان بعد انتخاب ترامب.

ويقول المحللون الأميركيون إنّ المؤتمر الصحفي الشهير في البيت الأبيض مع الرئيس فولوديمير زيلينسكي في الأول من آذار/مارس صدم الأوروبيين أخيراً وأخرجهم من حالة التراخي، ودفعهم إلى فتح خزائنهم للإنفاق العسكري.
 
لكن هذا النهج يضع العربة أمام الحصان، حيث يتم التركيز على نسبة الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي، بدلاً من إجراء تقييم ديناميكي حقيقي للتهديدات التي تواجهها الدول الأوروبية فعلياً. فالشروع في حملة إنفاق عشوائية للوصول إلى نسبة تعسفية من الناتج المحلي أو رقم معين بمليارات اليوروهات، لشراء أنظمة تسلح تروّج لها جماعات الضغط، رغم شكوك في مدى ملاءمتها، ليس بديلاً عن استراتيجية شاملة للأمن الأوروبي.
 
إنّ استراتيجية أمنية أوروبية حقيقية تستحق هذا الاسم يجب أن تشمل الجهود السياسية والدبلوماسية: دبلوماسية لإنهاء الحرب على المدى القصير، تليها آلية للتشاور في الأزمات تكون بداية لبنية أمنية أوروبية جديدة، تشمل أنظمة متبادلة للسيطرة على التسلح، وبناء الثقة، ونزع السلاح في نهاية المطاف.
 
كما يكشف الفحص الدقيق للمشهد الأوروبي عن أنّ نزعة عسكرية جديدة اجتاحت نخب القارة، وبلغت مستوى كارثياً في الأسابيع الأخيرة. ولم يكن هذا التوجه الحربي الجديد أكثر وضوحاً من ألمانيا، حيث يشجع القادة السياسيون وجيل جديد من "الخبراء العسكريين" بعضهم البعض على التصعيد.
 
هؤلاء الخبراء كانوا مخطئين بشكل فادح مراراً وتكراراً في توقعاتهم بانتصار مؤكد لأوكرانيا وانهيار وشيك لروسيا، ومع ذلك، يهيمنون على البرامج الحوارية التي تحظى بمتابعة واسعة في أوقات الذروة في ألمانيا. في الأسبوع الماضي، قيل للألمان إنّ الصيف المقبل سيكون آخر صيف يعيشون فيه بسلام، لأنّ روسيا ستغزو أراضي "الناتو" تحت غطاء مناورات عسكرية في بيلاروسيا.
 
وقد بدأ المسؤولون الألمان في تكرار استخدام مصطلح "Kriegstüchtigkeit" وهو اسم مركب يعني "القدرة على الحرب"، وهو تعبير لا يبدو خارجاً عن سياق نشرة أخبار "Wochenschau" الخشنة من أربعينيات القرن الماضي، بنبرتها الحادة والمتعجرفة. وقد تطلب الأمر تدخل لواء متقاعد للتذكير بأن هذا يمثل خروجاً مقلقاً عن المصطلح السابق "Verteidigungsfähigkeit" أو "القدرة على الدفاع".
 
أما الضباط الحاليون في الجيش الألماني، فيظهرون في مقاطع الفيديو الرسمية على قناة البوندسفير في يوتيوب، وهم يرسمون الأسهم على خرائط منطقة كورسك الروسية وهم يرتدون الزي العسكري الكامل. وبعد تعليق الخدمة العسكرية الإلزامية عام 2011، تعالت الأصوات الآن من مختلف التيارات السياسية للمطالبة بإعادتها، بل وتوسيعها لتشمل النساء، وسط قلق من أنّ الشباب الألمان "ناعمون جداً" للحرب.

هذا التصاعد في النزعة العسكرية الأوروبية يفتقر بشكل لافت إلى التفكير الاستراتيجي والتحليل القائم على الحقائق. وبينما لم تتوقع إدارة بايدن نفسها أن تنتصر أوكرانيا في الحرب، لا يزال القادة الأوروبيون يبدون إيماناً بانتصار أوكرانيا حتى اليوم. ففي مؤتمر ميونيخ الأمني الشهر الماضي، تحدثت رئيسة وزراء الدنمارك، ميته فريدريكسن، عن فوز أوكرانيا بالحرب، بينما كانت تجلس إلى جانب كيث كيلوغ، المبعوث الخاص لترامب إلى روسيا وأوكرانيا.
 
ويجادل مركز الأبحاث المؤثر "بروغيل" في بروكسل بأنّ روسيا قد تهاجم أوروبا خلال ثلاث سنوات فقط، لمجرد أن لديها عدداً معيناً من القطع العسكرية المختلفة. وفي تحركات غريبة، اقترحت رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، أن تظل أوكرانيا خارج حلف "الناتو"، ولكن مع ذلك، تتمتع بحماية المادة الخامسة، بينما يقترح رئيس فنلندا، ألكسندر ستاب، أن تنضم أوكرانيا إلى "الناتو" ليس الآن، ولكن فقط عندما تهاجمها روسيا مرة أخرى بعد انتهاء الحرب الحالية.
 
أما قمم القادة الأوروبيين، التي أطلقها ماكرون وستارمر، فهي مجرد ضوضاء بلا نتائج حقيقية؛ فقد أسفرت عن سلسلة من المقترحات غير القابلة للتطبيق، والتي تُعرض، في دلالة لافتة، على الولايات المتحدة وليس على أوكرانيا، ناهيك  بروسيا. كما أنّ هذه الاجتماعات لا تستند إلى أي مؤسسات داخل الاتحاد الأوروبي أو حلف "الناتو".
 
وفي الواقع، فإن السياسة العسكرية الجديدة لأوروبا بدأت بالفعل في تقويض مؤسساتها الديمقراطية وقوانينها. ففي ألمانيا، يسرع البرلمان المنتهية ولايته لإجراء تعديلات على الدستور الألماني للسماح بمزيد من الديون العامة للإنفاق، وهو تحرك مشكوك في شرعيته الديمقراطية. كما أنه يعدّ صفعة للناخبين الألمان، الذين قيل لهم طوال 15 عاماً إنّ "كبح الديون" المكتوب في الدستور الألماني هو قانون طبيعي لا يمكن المساس به، وأنّ الإنفاق على المدارس والجسور والقطارات والرعاية الصحية سيؤدي إلى انهيار ألمانيا.
 
في اجتماع المجلس الأوروبي بتاريخ 6 آذار/مارس، وافقت حكومات الاتحاد الأوروبي على قروض بقيمة 150 مليار يورو لتسهيل الإنفاق الدفاعي من قبل الدول الأعضاء. ويبدو هذا القرار غير قانوني منذ الوهلة الأولى، إذ إن المعاهدة التأسيسية للاتحاد الأوروبي تحظر صراحةً الإنفاق على أي أمور تتعلق بالدفاع أو الشؤون العسكرية.

كما يُفترض أن تجمع الدول الأعضاء 650 مليار يورو إضافية لتمويل مشتريات الأسلحة، وسيُعفى هذا الإنفاق من القيود الصارمة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الاقتراض. المواطنون الأوروبيون، الذين رأوا دول الرفاه تُجَوَّع وأصولهم العامة تُنهَب باسم الانضباط المالي الذي فرضته بروكسل، لديهم كل الأسباب ليشعروا بالخيانة.

وفي الوقت ذاته، يلاحظ إلدار ماميدوف، المسؤول السابق في الاتحاد الأوروبي والباحث غير المقيم في معهد كوينسي، أنّ "اللوبيات الداعمة لتجارة الأسلحة تنمو كالفطر في بروكسل".
 
وكما هو متوقع، فقد جاء هذا الإنفاق الدفاعي الجديد مصحوباً بدعوات جديدة لخفض الإنفاق الاجتماعي بشكل أكبر. وكما أوضحت الخبيرة الاقتصادية إيزابيلا ويبر، فإنّ هذه السياسات التقشفية العقائدية كانت السبب الرئيسي في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة وغير الديمقراطية.

إعادة التسلح السريعة، المقترنة بسياسات تقشفية متطرفة، قد تؤدي إلى ما لا يمكن تصوره: حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) يطالب أيضاً بعودة التجنيد الإجباري... بل وامتلاك ألمانيا لأسلحة نووية.

إنّ الهوس العسكري الجديد في أوروبا قد يكون مدفوعاً بالخوف، ولكن ليس من أن تشن روسيا حرباً فعلية في قلب أوروبا. فالفكرة القائلة إنّ روسيا ستهزم أوكرانيا وتحتلها بالكامل، ثم تتقدم عبر بولندا لتصل إلى بوابة براندنبورغ، تتناقض مع الواقع العسكري القائم على الأرض.

بدلاً من ذلك، يبدو أنّ النخب الأوروبية تخشى فقدان السلطة والمكانة، والخروج من موقع الهيمنة العالمية الذي كانت تستمتع به من خلف الستار، تحت مظلة الحماية النووية الأميركية. إنّ احتمال الاضطرار إلى التعامل مع الدول الأخرى على قدم المساواة، كما تفرضه حتمية النظام متعدد الأقطاب الذي أقرّ به ماركو روبيو، يثير فيهم الرعب.
 
وقد أوضح رئيس وزراء بولندا، دونالد توسك، أهمية "الانتصار" عندما صرح بأنّ "أوروبا قادرة على الفوز بأي مواجهة عسكرية أو مالية أو اقتصادية مع روسيا"، مضيفاً أنّ أوروبا "يجب أن تربح سباق التسلح هذا"، وأنّ روسيا "ستخسر كما خسرت الاتحاد السوفياتي قبل 40 عاماً".
 
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد شدد في خطابه الأخير للشعب الفرنسي على أنّ القدرات الأوروبية قوية بما يكفي لمواجهة الولايات المتحدة، ولكن بشكل أكبر، وخصوصاً، لمواجهة روسيا. في هذا الإطار الذهني، لا يمكن القبول بفكرة أنّ أوروبا ليست متفوقة في هذا المجال، وفي كل المجالات الأخرى.
 
وقد أظهر منظرو السياسة الخارجية الأميركية أنّ السعي إلى منافسة القوى العظمى من منظور عسكري أدّى إلى نتائج سلبية على أمن الولايات المتحدة، وديمقراطيتها، ورفاه مجتمعها الداخلي، ونصحوا باتباع سياسات خارجية ودفاعية قائمة على ضبط النفس. ومن بين توصياتهم المنطقية تقليل التزام الولايات المتحدة العسكري تجاه أوروبا. ومع ذلك، فإنّ الاحتفال مؤخراً بخبر تخصيص 800 مليار يورو للدفاع الأوروبي، يناقض هذا المنطق.
 
ويبدو أنّ أوروبا تتجه نحو إنفاق مبالغ طائلة من الأموال من دون خطة واضحة أو مبررات استراتيجية، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار التطورات التكنولوجية والتكتيكية الدراماتيكية التي يشهدها ميدان المعركة الأوكراني، ناهيك بغياب تقييم شامل للتهديدات الحقيقية وطرق التعامل معها بشكل أكثر فعالية عبر سياسات خارجية غير عنيفة.
 
فإذا كانت النزعة العسكرية قد أضرت بالولايات المتحدة، إذ قادتها إلى حروب طويلة لم تحقق أمناً أكبر، واستنزفت رفاه المجتمع الأميركي، وأدت إلى استحواذ لوبيات الأسلحة على القرار السياسي، وتقويض الديمقراطية، فكيف يمكن أن يكون هذا النهج مفيداً لأوروبا؟