"Truthout": الصحة النفسية في غزة.. معركة أخرى في الحرب
يحذّر الأطباء من أنّ الفلسطينيين في قطاع غزة دخلوا مرحلة من الإرهاق المزمن الناتج من الصدمات النفسية من جراء الحرب، إذ يعيشون حالة من الخدر العاطفي.
-
"Truthout": الصحة النفسية في غزة.. معركة أخرى في الحرب
موقع "Truthout" الأميركي ينشر مقالاً يتناول الأثر النفسي العميق والمستمر للحرب على سكان غزة، مع التركيز على الصدمات النفسية الجماعية والفردية التي تعانيها مختلف الفئات العمرية، من الأطفال إلى كبار السن.
أدناه نص المقالق منقولاً إلى العربية:
مؤخراً، كنت أركض في الشارع، أحمل طعاماً لصديقي في شمال غزة، ودبابة تنطلق خلفي كوحشٍ مفترس. ارتجت الأرض تحت وطأة خطواتها، وتسارعت أنفاسي في سباقٍ لن أفوز به أبداً. بدأت ساقاي تخوران، والرعب كان أثقل من قدرتي على الاستمرار. شعرتُ بنفسي أستسلم لما ظننتُ أنه قدري المحتوم.. حتى استيقظتُ.
كانت الساعة الثامنة صباحاً. كان جسدي يرتجف، وقلبي ينبض بسرعة. لم يكن سوى كابوس، لكنه كابوسٌ متجذرٌ في واقع الحرب، في الأذى النفسي العميق الذي لحق بنا وما زال يطاردنا كل يوم.
يكفي إغلاق بابٍ بقوةٍ لجعل أجسادنا ترتجف لاإرادياً، مقتنعين بأننا نسمع انفجاراً. وفي كل مرة نحاول فيها الشفاء، ندرك أنّ هذا الخوف كان ينمو في داخلنا خلال أشهر من الموت تحت الحصار الإسرائيلي.
قال الدكتور محمد، الاختصاصي في الصحة النفسية في مركز إرشاد نفسي في دير البلح، والذي طلب عدم ذكر اسمه الأخير: "الوضع النفسي اليوم في غزة أكثر تعقيداً وخطورة مما كان عليه في بداية الحرب".
أخبرني: "في البداية، كانت ردود الفعل النفسية حادةً لكنها متوقعة؛ خوفٌ وذعرٌ وقلق. أما اليوم، فقد دخلنا مرحلةً من إرهاق الصدمة المزمن، إذ يعيش الناس في حالةٍ من الخدر العاطفي وفقدان المعنى والتشرذم الداخلي. لا يبكون كما كانوا يفعلون في الأيام الأولى، بل ينظرون إليك بعيونٍ فارغة، كما لو كانوا يودعون الحياة من دون أن يغادروها. لا يوجد تعبيرٌ عن المشاعر. يستخدم الناس، لا شعورياً، آلياتٍ دفاعيةً كالكبت والعزلة. يتحدثون ويتصرفون كما لو كان الموت مجرد قصةٍ أخرى".
من خلال التحدث معه، أدركتُ أنني لستُ وحدي، فجميعنا في غزة نواجه هذه الصدمة. قال إنّ الأعراض التي يراها مراراً تشمل الكوابيس، ونوبات الهلع، وعدم القدرة على التركيز، والشعور بالذنب، والأرق، والتوهان، وأعراض الانفصال، والإنكار، والغضب الشديد. كما لاحظ ازدياداً في محاولات إيذاء النفس، وخصوصاً بين المراهقين، إلى جانب أعراض اكتئاب شديدة وشبه دائمة.
أوضح الدكتور محمد أنّ الآثار النفسية تختلف باختلاف الفئات العمرية؛ فكثيراً ما يُظهر الأطفال أعراضاً سلوكية مثل التبول اللاإرادي، والتعلق المفرط بأمهاتهم، واضطرابات النوم، والتأتأة، أو العدوانية. ومن خلال لعبهم، قد يُعيدون تمثيل مشاهد القصف. وقد رأى أطفالاً في الخامسة من عمرهم يتحدثون عن "الاستشهاد" و"الاحتلال" كجزء من وعيهم اليومي. أما المراهقون، فيميلون إما إلى التمرد وإما إلى الانسحاب، وغالباً ما يُعانون من أزمات هوية ويأس عميق. أما البالغون، فيعيشون في صراع دائم بين البقاء والشعور بالذنب والمسؤولية. وقد يواجه كبار السن الصدمات في صمت، ونادراً ما يطلبون المساعدة رغم معاناتهم العميقة.
قال لي الدكتور محمد: "الصدمة الجماعية في غزة ليست لحظة واحدة، بل هي تراكم مستمر على مر السنين. نحن نتحدث عن جيل وُلد ونشأ في بيئة من الخوف والفقد والدمار. الجميع متأثرون بها بدرجة أو بأخرى. إنها ليست صدمة فردية، بل صدمة هيكلية تُجرح النسيج الاجتماعي وتُعيد تشكيل الوعي الجماعي".
الأطفال، أولئك الذين نشأوا على وقع الصواريخ والفقد والمشقة في بيئة تحرمهم من طفولة صحية، يحملون أثقل الندوب، من بينهم ابنة عمي جنان، البالغة 4 سنوات. عندما قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية منزلهم، نجت جنان وأُخرجت من تحت الأنقاض على يد رجال الدفاع المدني، لكن والدها ووالدتها وجميع إخوتها لقوا حتفهم. انقلبت حياتها رأساً على عقب في لحظة. اليوم، عندما تبكي، تقول لجدتها: "أريد أن أذهب إلى أنقاض منزلنا. أريد أن أتحدث إلى ماما".
سألتُ الدكتور محمد عن الأثر طويل المدى لغياب الدعم النفسي المستمر لهؤلاء الأطفال، فقال: "إن الغياب المستمر للرعاية الصحية النفسية يعرضهم لخطر الإصابة باضطرابات مزمنة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب، وحتى اضطرابات الشخصية في المستقبل. كما يؤثر في نموهم المعرفي وقدرتهم على تكوين علاقات صحية واندماجهم الآمن في المجتمع". وأضاف أنّ الأطفال من بين الفئات التي تشعر بأنها الأكثر إهمالاً من المجتمع الدولي. والأسئلة التي يسمعها في أغلب الأحيان هي: "لماذا لا يحمينا أحد؟" و"لماذا العالم صامت؟".
عندما سألته كيف يتعامل شخصياً، كطبيب نفسي وكإنسان، مع هذا الكم الهائل من الألم الذي يشهده يومياً، أجاب: "بصراحة؟ أحياناً لا أتمكن من التعامل مع هذا الكم الهائل من الألم. أسمح لنفسي بالبكاء، والتعب، والشعور باليأس، لكن ما يُبقيني واقفاً هو الأطفال الذين ما زالوا يبتسمون رغم كل شيء، وزملائي الذين يواصلون العمل رغم حزنهم، والأشخاص الذين يواصلون طلب المساعدة. هذه المرونة المشتركة هي علاجي الحقيقي".
حول إمكانية الشفاء في ظل الظروف الحالية، قال الدكتور محمد: "الأمل موجود، لكنه هش ومشروط. لا يُمكن الحديث عن التعافي النفسي فيما تستمر الحرب والقتل والدمار والجوع والنزيف الجسدي والروحي. بعض الحالات تتجاوز ببساطة قدرتنا في الوقت الحالي كأطفال فقدوا عائلاتهم بأكملها، وأشخاص شهدوا المجازر بأعينهم من دون الوصول إلى بيئة آمنة أو دعم مستمر. كما أنّ أولئك الذين لديهم تاريخ سابق في الصحة النفسية تدهورت حالتهم بشكل كبير".
أكد الدكتور أنّ البُعد النفسي والإنساني لغزة غائبٌ إلى حدٍّ كبير عن التقارير الدولية التي تميل إلى التركيز على الأعداد والخسائر المادية، وقال: "لا يُمكن ترجمة الروح الإنسانية بسهولة إلى مقاييس، ومع ذلك فهي جوهرها". وأضاف: "تتطلب تغطية الصدمات وقتاً وجهداً واحترافية عالية، وهو ما تفتقر إليه غالباً التغطية الإعلامية السريعة".
حالياً، لا يعمل سوى عدد قليل من مراكز استشارات الصحة النفسية في غزة، ولا تزال مرافق مثل مركز الدكتور محمد محدودة العدد والقدرة الاستيعابية. وعندما سُئل عن الاحتياجات العاجلة لدعم الصحة النفسية في غزة، قال: "نحتاج إلى تدخلات طوارئ مجتمعية مرنة، وكوادر مُدربة، وأدوية، وأدوات دعم نفسي واجتماعي، وأماكن آمنة للأطفال، وبرامج علاج جماعي. كما نحتاج إلى خطط طويلة الأجل تتجاوز مجرد الإغاثة المؤقتة، وتبني رؤية للتعافي المجتمعي".
اختتم الدكتور محمد حديثنا برسالة إلى المجتمع الدولي ومنظمات الصحة النفسية العالمية قائلاً: "مطلوب منكم الآن أكثر من مجرد الإدانة. غزة ليست قضية إنسانية فحسب، بل هي قضية أخلاقية ونفسية وثقافية أيضاً. نطالب بدعم حقيقي، واستجابة عاجلة للصدمات النفسية، واستثمار حقيقي في بناء نظام مستدام للصحة النفسية. لا تدعوا الأجيال القادمة تكبر من رماد الحرب من دون شفاء".
نقلته إلى العربية: بتول دياب.