"الغارديان": كيف رضخت أوروبا لابتزاز ترامب التجاري؟
لقد استسلم الاتحاد الأوروبي لترامب، لكن حتى هذا لا يعني نهاية الحرب التجارية عبر الأطلسي.
-
أورسولا فون دير لاين ودونالد ترامب
صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقال رأي حول الرضوخ الأوروبي الضمني لإملاءات دونالد ترامب في ملف التجارة عبر الأطلسي، وتداعيات الاتفاق التجاري غير المتكافئ الذي توصّلت إليه رئيسة المفوّضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مع الرئيس الأميركي، والذي يُنظر إليه على أنه اتفاق إذعان لا يمنع الحرب التجارية، بل يعمّق تبعياتها السياسية والاقتصادية.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
الاستسلام دائماً سبيل لإنهاء الحرب. إنّ استسلام رئيسة المفوّضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، لمطالب دونالد ترامب باتفاقية تجارية غير متوازنة بشكل صارخ، تُفرض بموجبها رسوم جمركية أعلى بكثير على معظم سلع الاتحاد الأوروبي المُصدّرة إلى الولايات المتحدة، مما تواجهه المنتجات الأميركية في الاتحاد الأوروبي، ليس مُهيناً فحسب، بل إنه لا يمنع حرباً تجارية عبر الأطلسي.
في الواقع، وبإعادة صياغة لمقولة المفكّر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز، فإنّ هذا ليس سوى سعيٍ لحرب تجارية بوسائل أخرى.
بعد ستة أشهر من ترهيب ترامب، رضخ الأوروبيون لتسوية مؤقتة تُعاقب مُصدّريهم وتُلزم أكبر كتلة تجارية في العالم بشراء مئات المليارات من الدولارات من الوقود الأحفوري والأسلحة الأميركية طوال فترة رئاسته، بدلاً من المخاطرة بفرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 30%، والتي هدّد بها منذ الأول من آب/أغسطس.
كان هذا بعيداً كلّ البعد عن اتفاقية التعريفات الجمركية الصفرية التي طرحتها المفوّضية الأوروبية في بداية المحادثات. كانت الرسوم الجمركية الشاملة البالغة 15% التي قبلتها فون دير لاين في النهاية أسوأ من نسبة 10%، المشابهة لاتفاقية المملكة المتحدة، التي ظنّ مسؤولو بروكسل أنهم حصلوا عليها قبل أسبوعين فقط.
يمثّل هذا الاتفاق ثاني إهانة يوجّهها ترامب لشركائه الأوروبيين خلال شهرين، عقب قمة الناتو التي رضخ فيها الحلفاء لمطالبه بإنفاق 5% من ناتجهم الاقتصادي على الدفاع، و3.5% على الإنفاق العسكري الأساسي. وقد اتسمت كلتا القوتين بتملّق مبتذل من المسؤولين الأوروبيين لغرور الرئيس الأميركي المتضخّم، وعدم استعدادهم لتحدّي أو تصحيح حتى أكاذيبه الصارخة خلال لقاءات إعلامية مشتركة مُرهقة.
أعلنت رئيسة المفوّضية الأوروبية أنّ الاتفاق يُرسي "اليقين في أوقاتٍ مضطربة" ويُوفّر الاستقرار والقدرة على التنبؤ للشركات على جانبي أكبر علاقة تجارية في العالم، بقيمة 1.7 تريليون دولار. ومع ذلك، يبدو هذا الادعاء مشكوكاً فيه، إذ لا يزال الغموض يحيط بوضع الأدوية، التي أصرّت على أنها مشمولة بالتعريفة الجمركية البالغة 15%، بينما نفى ترامب ذلك.
وكان تصريح فون دير لاين بأنّ هذا "اللبنة الثانية التي تُعيد تأكيد الشراكة عبر الأطلسي" بمثابة طمأنينة لحقيقة أنّ هذه هي المرة الثانية التي يلجأ فيها ترامب إلى التهديدات والتهديدات لابتزاز أموال الحماية من الدول الأوروبية المُتردّدة، والتي تسعى جاهدةً لتجنّب انسحاب الولايات المتحدة الكامل من الاتحاد الأوروبي في مواجهة تهديد روسيا للقارة.
ومع ذلك، وبغضّ النظر عن العيوب التي تواجهها الشركات المصنّعة الأوروبية الآن في أكبر سوق تصدير للاتحاد الأوروبي، ليس من الواضح ما إذا كانت الصفقة ستُنهي الخلاف التجاري عبر الأطلسي، أو تُجبر ترامب على اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا.
كان اجتماع يوم الأحد في ملعب ترامب للغولف في تيرنبيري، اسكتلندا، استعراضاً للقوة الغاشمة. وكما وصفه أحد المزّاحين، ينبغي أن يُعرف موقف رئيسة المفوضية من الآن فصاعداً بـ"فون دير لاين".
لم يكن المشهد أكثر إذلالاً لممثّلة 450 مليون أوروبي. اضطرت فون دير لاين للسفر إلى اسكتلندا وانتظار انتهاء الرئيس وابنه من جولة الغولف، ثم تحمّل تفاخره بروعة قاعة دونالد ترامب المذهّبة التي التقيا فيها.
جلست صامتة بينما ادّعى ترامب أنّ الولايات المتحدة وحدها هي التي تُقدّم مساعدات غذائية طارئة للفلسطينيين الجائعين في غزة، مع أنّ الاتحاد الأوروبي هو أحد أكبر مُقدّمي المساعدات الإنسانية. لم تُعارض روايته بشأن منع "إسرائيل" لأشهرٍ طويلة لتوصيل مساعدات الأمم المتحدة الغذائية للنازحين في المنطقة التي مزّقتها الحرب.
والأسوأ من ذلك، أنها شعرت بأنها مُلزمة بترديد رواية ترامب القائلة بأنّ التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة غير متوازنة، وأنّ هدف المفاوضات هو "إعادة التوازن" في العلاقة، من دون الإشارة إلى الفائض الأميركي الكبير في تجارة الخدمات مع أوروبا. لم يتطرّق أيٌّ من الزعيمين إلى اللوائح الرقمية للاتحاد الأوروبي، التي لا تزال تُمثّل عقبةً مُحتملةً في العلاقات عبر الأطلسي، وقد تنفجر في غضون أسابيع إذا فرضت المفوّضية غرامات على شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة التي تُدان بانتهاك قانون الأسواق الرقمية.
بعيداً عن إحلال السلام في عصرنا، فإن اتفاق الأحد يترك بعض النقاط العالقة الحاسمة التي لم تُحسم بعد، بما في ذلك التعريفات الجمركية على المنتجات الزراعية التي سيُسقطها الاتحاد الأوروبي. وفيما يتعلق بالصلب والألمنيوم، أصرّ ترامب على استمرار تطبيق التعريفة الجمركية الأميركية البالغة 50% عالمياً، بينما قالت فون دير لاين إنّ الجانبين سيعودان إلى الحصص التاريخية بتعريفات جمركية أقلّ.
كان هذا على الأكثر مجرّد محاولة للحدّ من الأضرار لتجنّب ضربة فورية أكبر للشركات الأوروبية. قال رئيس المفوّضية دفاعاً عن الاتفاق: "يجب ألّا ننسى أين كنا سنكون في الأول من آب/أغسطس". "كنا سنكون عند 30% وكان من الأصعب بكثير خفضها إلى 15%". يبدو أن الاتفاق يحمي مصالح شركات صناعة السيارات الألمانية بشكل أفضل من مصالح منتجي الأغذية والمشروبات في منطقة البحر الأبيض المتوسط، على الرغم من أنّ فون دير لاين قالت إنها أوضحت أنّ بعض التعريفات الزراعية للاتحاد الأوروبي ستبقى.
ما هو البديل؟
يقول بعض المسؤولين الأوروبيين، وخاصة في فرنسا، إنه كان ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يكون أكثر صرامة منذ البداية، وأن ينفّذ تدابير انتقامية بمجرّد فرض التعريفات الجمركية الأعلى بموجب إعلان ترامب "يوم التحرير" في نيسان/أبريل، وأن يستدعي أداة مكافحة الإكراه الخاصة به للتهديد باتخاذ إجراءات ضد شركات الخدمات والاستثمارات الأميركية في أوروبا.
لم تتمكّن بروكسل من تعزيز استغلال سلطاتها التجارية بسبب الانقسامات بين الدول الأعضاء السبع والعشرين، حيث حثّت ألمانيا وإيطاليا وأيرلندا على ضبط النفس لحماية مصالحها الاقتصادية، بينما أيّدت فرنسا وإسبانيا موقفاً أكثر حزماً للاتحاد الأوروبي. وكانت النتيجة اتفاقاً سيضرّ بلا شك بالاقتصاد الأوروبي - حيث يحسب جيل مويك، كبير الاقتصاديين في مجموعة أكسا، أنه قد يخفض الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد بنسبة 0.5% - لكنه تجنّب إجراءات تجارية متبادلة كان من الممكن أن تفرض ثمناً أعلى.
يتعيّن على أوروبا الآن تسريع إبرام اتفاقيات تجارية مع شركاء آخرين حول العالم للتخفيف من أضرار سياسات ترامب. وفي أحسن الأحوال، قد يحفّز هذا الإذلال الاتحاد الأوروبي على بناء تحالف من الدول والكتل التجارية المتشابهة في التفكير والقائمة على القواعد، بعيداً عن الولايات المتحدة. لكنّ هذا يتطلّب شجاعة ووحدة أكبر مما أظهره الاتحاد في التعامل مع ترامب.
نقله إلى العربية: الميادين نت.