"بروكينغز": سياسات ترامب المتعلقة بالهجرة تهدد ريادة أميركا في الذكاء الاصطناعي

لا يعتمد ابتكار الذكاء الاصطناعي على الخوارزميات فحسب، بل على البشر، وكثير منهم قادمون من الخارج للدراسة والبناء والحلم في الولايات المتحدة.

  • "بروكينغز": سياسات ترامب المتعلقة بالهجرة تهدد ريادة أميركا في الذكاء الاصطناعي

معهد "بروكينغز" الأميركي ينشر تقريراً يتناول العلاقة المعقّدة بين سياسات الهجرة الأميركية وقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على ريادتها العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، في ظل التناقض بين تصريحات الرئيس دونالد ترامب الداعمة لجذب المواهب الدولية والإجراءات الفعلية التي اتخذتها إدارته، والتي تعوق هذا الهدف.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

في حزيران/يونيو 2024، خلال حملته الرئاسية، انضم الرئيس دونالد ترامب إلى المستثمر ديفيد ساكس وجيسون كالاكانيس في بودكاست "All-In"، وصرّح كالاكانيس للرئيس ترامب بأن تحرير سياسات الهجرة أمرٌ بالغ الأهمية للفوز في سباق الذكاء الاصطناعي.

وافق ترامب على الفور، مؤكداً أنه سيضمن حصول جميع الطلاب الدوليين المتخرجين من الجامعات الأميركية تلقائياً على البطاقة الخضراء مع شهاداتهم، وأن هذه ستكون مسألة "اليوم الأول" بالنسبة إليه. كان ذلك حينها. 

في ولايته الثانية، يقول ترامب إنه لا يزال متمسكاً برغبته في تعزيز الريادة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد أصدر أمراً تنفيذياً في يومه الثالث في منصبه، واعداً بإزالة "العوائق التي تحول دون الريادة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي".

ولتحقيق هذا الهدف، كلف ترامب المسؤولين بتقديم خطة عمل للذكاء الاصطناعي في غضون 180 يوماً من صدور الأمر، وألغى الأمر التنفيذي للرئيس بايدن بشأن الذكاء الاصطناعي الآمن والموثوق. ورغم أنّ الأمرين أكدا ضرورة تعزيز الريادة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي، فإنّ أمر ترامب لم يتطرق إلى تخفيف قيود الهجرة، على عكس أمر بايدن الذي أدرج جذب "مواهب الذكاء الاصطناعي العالمية إلى أراضينا" كأولوية. 

خط أنابيب المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي

لطالما دعت شركات التكنولوجيا العملاقة إلى تخفيف قيود التأشيرات لجذب المواهب الأجنبية إلى الولايات المتحدة، ويعود ذلك جزئياً إلى أنّ العديد منهم من الجيل الأول من المهاجرين. إيلون ماسك، مؤسس شركتي تسلا وسبيس إكس، وجينسن هوانغ، مؤسس إنفيديا، وأرافيند سرينيفاس، المؤسس المشارك لشركة بيربليكسيتي للذكاء الاصطناعي، جميعهم من الجيل الأول من المهاجرين. 

وفقاً للمؤسسة الوطنية للسياسة الأميركية (NFAP)، فإن 77% من أفضل شركات الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة أسسها أو شارك في تأسيسها مهاجرون من الجيل الأول أو الثاني. وقد أسس المهاجرون أكثر من نصف الشركات الناشئة الأميركية التي تبلغ قيمتها مليار دولار أو أكثر، ويعمل العديد منها في مجال الذكاء الاصطناعي أو المجالات التقنية ذات الصلة. ومن بين أفضل 48 شركة ذكاء اصطناعي أميركية، أسس المهاجرون الهنود والصينيون تسع شركات وثماني شركات على التوالي.  

دخل معظم قادة الجيل الأول الولايات المتحدة كأطفال أو طلاب دوليين في التعليم العالي. 42% من أكبر شركات الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة أسّسها طلاب دوليون، وهذا أمرٌ غير مفاجئ، إذ يُشكل الطلاب الدوليون 70% من طلاب الدراسات العليا بدوام كامل في المجالات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. 

جنون إلغاء تأشيرة "F-1"

مطلع نيسان/أبريل، تم إلغاء تأشيرات 1800 طالب دولي يحملون تأشيرة "F-1" (تأشيرة طالب) وتأشيرة "J-1" (تأشيرة زائر تبادل) عبر 280 كلية وجامعة فجأة من دون سابق إنذار أو سبيل للانتصاف، وكثير منهم من دون تفسير.

ادعى وزير الخارجية ماركو روبيو أنّ عمليات إلغاء التأشيرات هذه كانت تستهدف الطلاب المتورطين في أنشطة "تتعارض" مع المصالح الوطنية، لكن العديد من المتضررين لم تكن لديهم إدانات جنائية أو أي مشاركات سياسية.

في 25 نيسان/أبريل، أعلنت الإدارة أنها ستعيد جميع حالات الطلاب المنتهية، ما يعكس عمليات إلغاء التأشيرات السابقة. منذ ذلك الحين، دخل الرئيس ترامب في خلافات حادة مع رؤساء الجامعات، وألغى مشاريع البحث والتطوير الحاسمة لتعزيز القيادة الأميركية في مجال الابتكار. أدت هذه المناقشات إلى قيام الصين بفتح أبوابها أمام الطلاب الدوليين والأميركيين في جامعاتها، ما قد يؤدي إلى استنزاف المواهب. 

على الرغم من استعادة أوضاع الطلاب منذ ذلك الحين، فإنَّ التغييرات المفاجئة في سياسة الإدارة خلقت حالة من عدم اليقين وتأثيرات سلبية في الطلاب الدوليين. يواجه أولئك الذين ألغيت تأشيراتهم الآن أعباء إدارية إضافية، بما في ذلك زيارة السفارة للتقدم بطلب للحصول على تأشيرة جديدة وتحمّل أوقات انتظار طويلة - دون أي ضمان لاستعادتها على الرغم من الشروط المفاجئة للإلغاءات.

بالنسبة إلى البعض، ربما جاء التراجع متأخراً جداً. خوفاً من الاحتجاز بعد اكتشاف انتهاء وضعهم القانوني، غادر بعض الطلاب والمهنيين في بداية حياتهم المهنية الولايات المتحدة، وهم الآن "عالقون" في بلدانهم الأصلية، غير قادرين على العودة لإكمال برامجهم. كما يتطلب تغيير أحدث في السياسة الآن من جميع المتقدمين للحصول على تأشيرة طالب الكشف عن حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي وتعيينها على أنها "عامة"، ما يتيح للحكومة مراقبة نشاطهم الرقمي. 

نظراً إلى عدد الطلاب الدوليين الذين يسعون للحصول على درجات علمية في المجالات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، فإن سياسة التأشيرات الأخيرة للرئيس ترامب قد أثرت بشكل غير متناسب في أولئك الذين قد يساعدون الولايات المتحدة على الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

من بين 21 دعوى قضائية مرفوعة ضد الحكومة مع تخصصات طلابية معروفة، تشمل 9 دعاوى طلاباً في علوم الكمبيوتر أو علوم البيانات أو مجالات أخرى ذات صلة بالتكنولوجيا. تشمل معظم هذه الدعاوى القضائية طلاب دكتوراه أو خريجين جدداً في التدريب العملي الاختياري (OPT)، والذي يسمح لحاملي تأشيرة "F-1" بالعمل في الولايات المتحدة لمدة عام واحد بعد الانتهاء من شهاداتهم.

وفقاً لتقرير حديث صادر عن "NAFSA"، فإن أكبر دولتين لديهما أكبر عدد من الطلاب المتأثرين هما الهند والصين، إذ تأثر في كل منهما أكثر من 300 طالب. بالنسبة إلى تلك الدول، أثارت السياسات مخاوف بشأن العداء تجاه الطلاب والعلماء الدوليين الذين يظلون عرضة للتغييرات المفاجئة في السياسة.

إخفاقات الهجرة إلى الولايات المتحدة والاحتفاظ بالمواهب

برنامج تأشيرة "H-1B"، الذي يسمح للمواطنين الأجانب ذوي المهارات العالية بالعمل في الولايات المتحدة لفترة مؤقتة، كان الوسيلة الأساسية للطلاب الدوليين الحاصلين على تعليم أميركي للبقاء في الولايات المتحدة بعد التخرج.

تُعد الهند والصين أكبر دولتي منشأ لحاملي تأشيرة "H-1B"، بما يتوافق مع عدد الطلاب الدوليين الذين يدرسون في الولايات المتحدة من هاتين الدولتين. يعمل نحو 65% من العمال المعتمدين بموجب تأشيرة "H-1B" في وظائف متعلقة بالحاسوب، ما يجعل هذا البرنامج بالغ الأهمية لصناعة التكنولوجيا.

تُعد شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل أمازون وغوغل ومايكروسوفت، من أكبر الجهات الراعية لتأشيرات "H-1B"، ما يدل على الطلب القوي على المواهب الأجنبية في شركات التكنولوجيا الأميركية الرائدة. ومع ذلك، خلال الفترة الأولى للرئيس ترامب، بلغ معدل رفض التأشيرة ذروته، إذ وصل إلى 15% عام 2018.

وعلى الرغم من انخفاض معدل الرفض إلى أدنى مستوى تاريخي في عهد بايدن، فإن المخاوف لا تزال قائمة من أن إدارة ترامب قد تعيد العمل بالسياسات السابقة، بالنظر إلى حملاتها السابقة على الهجرة وإلغاء التأشيرات التي أثرت في آلاف الطلاب الدوليين، على الرغم من عدم اتخاذ أي إجراءات محددة حتى الآن. 

يواجه المواطنون الهنود والصينيون بالفعل بعضاً من أضيق المسارات للبقاء بشكل قانوني في الولايات المتحدة، على الرغم من كونهم من بين أعلى الفئات الديموغرافية تحقيقاً في البلاد. ونظراً إلى وجود حد أقصى للبطاقات الخضراء لكل دولة، تحتل الهند والصين المرتبتين الأولى والثانية لأطول أوقات انتظار للحصول على الإقامة الدائمة القائمة على العمل، ومن غير المرجح أن يحصل 400000 متقدم هندي عليها.

دخل الكثيرون إلى البلاد من خلال تأشيرات الطلاب، على أمل البقاء بعد التخرج من خلال تأشيرات برعاية صاحب العمل. ومع ذلك، فإن احتمالات الفوز في يانصيب التأشيرة هي نحو 1 من 4، مع بعض التقديرات التي تظهر أنها انخفضت إلى نحو 1 من 7 في السنوات الأخيرة بسبب الطلب المرتفع.

وبسبب سياسات الهجرة غير المواتية، يقول 60% من الحاصلين على درجة الدكتوراه الأجانب في الولايات المتحدة إنهم يواجهون صعوبات في البقاء في البلاد، مقارنة بـ 12% فقط من حاملي درجة الدكتوراه في دول أخرى. 

نتيجةً للعوائق النظامية في مجال الهجرة، من المرجّح أن تشهد الولايات المتحدة انخفاضاً حاداً في أعداد الكفاءات. وقد يؤدي خفض أعداد الموظفين في وكالات الهجرة، وخفض تمويل الأبحاث، وإلغاء قدرة جامعة هارفرد على قبول الطلاب الدوليين، إلى تفاقم مشهد هجرة الكفاءات غير المواتي أصلاً.

ينطبق حظر السفر الذي فرضه ترامب مؤخراً على 12 دولة على كلٍّ من المهاجرين وغير المهاجرين، بمن فيهم حاملو تأشيرات الطلاب وتأشيرات التبادل الطلابي. ووفقاً لبيانات غير المهاجرين للسنة المالية 2023، من المتوقع أن يتأثر أكثر من 280 ألف طالب. 

يتناقض هذا بشكل صارخ مع سياسات الهجرة الأكثر ترحيباً في المملكة المتحدة وأستراليا وكندا، والتي تستقطب بنشاط العمال ذوي المهارات المطلوبة وتوفر مسارات مبسطة للتجنيس. استقطبت كندا ما يقارب 40 ألف خريج أجنبي من الجامعات الأميركية بين عامي 2017 و2021.

أما المملكة المتحدة، التي تتسم سياساتها الحالية بالفعل بمرونة أكبر تجاه الخريجين الأجانب، فقد قدمت مؤخراً تأشيرات "الأفراد ذوي الإمكانات العالية" لتوظيف الأشخاص الحاصلين على درجات علمية متقدمة من أفضل الجامعات في العالم، بما في ذلك 20 جامعة في الولايات المتحدة. وكما قال شريك في شركة محاماة مختصة بالهجرة في لندن: "المملكة المتحدة مستفيدة من إخفاقات النظام الأميركي".  

لا ينبغي لسياسات هجرة المواهب الصحية أن تتنافس مع المواهب الأميركية

في منتصف تموز/يوليو، زُعم أنّ صحيفة "واشنطن بوست" سرّبت رسائل من رائد الأعمال التكنولوجي ورجل الأعمال المغامر البارز، مارك أندريسن، بدا فيها مؤيداً لجهود إدارة ترامب الرامية إلى تفكيك سياسات التنوع والمساواة والشمول (DEI) في الكليات والجامعات الأميركية.

وفي الرسائل المذكورة، زعم أندريسن أن مبادرات التنوع والمساواة والشمول أدت إلى تمييز عكسي ضد الطلاب البيض المؤهلين، ما حرمهم من فرص في الصناعات الناشئة والراسخة، وهو اعتقاد غالباً ما يرتبط بنظريات النزوح العرقي.

تعكس هذه الآراء توجهات أوسع نطاقاً وراء التحولات الأخيرة في سياسة الهجرة، بما في ذلك إعادة هيكلة التأشيرات وتصاريح العمل، واتباع نهج أكثر حزماً تجاه التهديدات الأمنية الوطنية المتصورة.

وفي ظل تنافس الولايات المتحدة مع الصين في مجال الذكاء الاصطناعي والقطاعات ذات الصلة، يتعين عليها إعادة تقييم كيفية إدارتها لمصادر المواهب والقوى العاملة لديها للحفاظ على قدرتها التنافسية العالمية.

المضي قدماً

على الرغم من وعود الرئيس ترامب السابقة بتوسيع فرص الهجرة للطلاب الدوليين، فإنَّ الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها إدارته تشير إلى عكس ذلك؛ فبينما تعمل دول أخرى على بناء مسارات أسرع وأكثر سلاسة للحصول على الإقامة للمواهب العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، تُخاطر الولايات المتحدة بالتخلف عن الركب.

وإذا كانت الولايات المتحدة تسعى حقاً إلى ريادة العالم في مجال الذكاء الاصطناعي، فعليها أولاً تفكيك الحواجز النظامية التي تُبعد من يُغذون ابتكاراتها، وهذا يعني وضع سياسات هجرة متسقة وتطلعية بمعزل عن التحولات السياسية قصيرة المدى والتوترات الجيوسياسية. 

لا يعتمد ابتكار الذكاء الاصطناعي على الخوارزميات فحسب، بل على البشر، وكثير منهم قادمون من الخارج للدراسة والبناء والحلم في الولايات المتحدة. السؤال إذاً، ليس ما إذا كانت أميركا قادرة على الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي، بل ما إذا كانت مستعدة لبذل ما يلزم للاحتفاظ بالأشخاص الذين يُمكّنون هذه القيادة.

نقلته إلى العربية: بتول دياب.