"بلومبرغ": لماذا السياسة في فرنسا معطلة.. وماذا يعني ذلك لاقتصادها؟

لماذا تشهد الساحة السياسية الفرنسية حالة من الاضطراب؟ وهل يتحمّل ماكرون جزءاً من المسؤولية عن الأزمة؟

  • "بلومبرغ": لماذا السياسة في فرنسا معطّلة.. وماذا يعني ذلك لاقتصادها؟

شبكة "بلومبرغ" الأميركية تنشر تقريراً يتناول أسباب الاضطراب السياسي المتصاعد في فرنسا في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، والعوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقم الانقسام، ومدى اقتراب البلاد من أزمة مالية، إضافةً إلى تقييم إرث ماكرون السياسي.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

في العقد الذي أعقب أزمة ديون منطقة اليورو، برزت فرنسا كواحة استقرار وسط تقلّبات السياسة الأوروبية. أثقلت الحكومات الضعيفة والانتخابات المتتالية كاهل إسبانيا، وكثيراً ما تركت الأحزاب الإيطالية المتعثّرة إدارة البلاد للتكنوقراط، وعانت المملكة المتحدة خلال سنوات من الصراعات الداخلية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وسياسة التغيير في "10 داونينغ ستريت". على النقيض من ذلك، جاء صعود إيمانويل ماكرون إلى السلطة عام 2017 مصحوباً بأجندة قوية ومتماسكة داعمة للأعمال، مدعومة، على الأقل خلال ولايته الأولى، بأغلبية مستقرة في البرلمان.

في الآونة الأخيرة، أصبحت السياسة الوطنية الفرنسية مستقطبة، غاضبة، ومعادية للتسوية. مرّت البلاد بخمسة رؤساء وزراء في أقلّ من عامين، في ظلّ سعي البرلمان المتكرّر لعرقلة البرنامج التشريعي للرئيس ماكرون، وهو نوع الفوضى نفسه التي سعى مهندسو الجمهورية الخامسة التي تأسست عام 1958 إلى تجنّبها.

إنّ مساعي العودة إلى حكومة مستقرة تُجبر ماكرون الآن على التخلّي عن بعض خطوطه الحمر، والسماح بزيادات ضريبية وتدابير أخرى لسدّ العجز الوطني. كما اضطر إلى تقبّل اقتراح تعليق أحد إجراءاته السياسية المميّزة، وهو إصلاح شامل لنظام التقاعد يتضمّن رفع الحد الأدنى لسن التقاعد، كثمن لتجنّب إقالة رئيس وزراء آخر.

ومع ذلك، فإنّ الوضع المالي الفرنسي يحتاج إلى أن يتفاقم بشكل كبير ليُشعل فتيل أزمة ديون شبيهة بتلك التي عصفت بالدول الواقعة على أطراف الاتحاد الأوروبي بين عامي 2009 و2012، أو أن يُؤدّي إلى ارتفاع حادّ في عائدات السندات مماثل للذي أجبر رئيسة الوزراء البريطانية ليز تروس على الاستقالة عام 2022.

لماذا تشهد الساحة السياسية الفرنسية حالة من الاضطراب؟

شهدت شعبية الأحزاب الهامشية ازدياداً ملحوظاً، وانقساماً في كتلتي يمين الوسط ويسار الوسط اللتين هيمنتا طويلاً على الجمعية الوطنية. ولم يتمكّن تكتل ماكرون الوسطي من الحفاظ على الدعم الذي منحه أغلبية واسعة عام 2017، مما أدّى إلى انقسام البرلمان إلى ثلاثة مقاعد تقريباً.

تشير استطلاعات الرأي الوطنية إلى استياء واسع النطاق، ليس فقط من الحكومة الفرنسية، بل من السياسات التقليدية أيضاً. وقد تزامن ذلك مع تفاقم التفاوت الاجتماعي على الرغم من نظام الضرائب والرعاية الاجتماعية الذي يتميّز بإعادة توزيع نسبي في البلاد. وتتفاوت الدخول وفرص الحصول على الوظائف تفاوتاً كبيراً بين المناطق والأجناس والفئات العمرية. وبلغ معدّل الفقر 15.4% في عام 2023، وهو أعلى معدل منذ عام 1996 على الأقل، بعد أن تسبّب ارتفاع التضخّم بعد الجائحة في أزمة غلاء معيشة. وقد رفع أصحاب العمل الأجور، لكنّ جزءاً كبيراً من هذه المكاسب تبدّد بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة. وتحتل فرنسا مرتبة قريبة من أسفل قائمة الاقتصادات المتقدّمة من حيث الحراك الاجتماعي، وفقاً لبيانات منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وتنافس فرنسا الآن إيطاليا كأكبر مصدر لتمويل العجز في الاتحاد الأوروبي. وقد واجهت أحزاب أقصى اليسار واليمين جهوداً حكومية لكبح جماح العجز من خلال زيادات ضريبية وخفض الإنفاق. ومع تزايد العجز، تزداد الحاجة إلى حلول غير مستساغة، مما يُصعّب على أصحاب السلطة التوصّل إلى إجماع سياسي.

هل يتحمّل ماكرون جزءاً من المسؤولية عن الأزمة؟

لقد ساهمت الأخطاء الاستراتيجية في مأزق ماكرون. أُعيد انتخابه لولاية ثانية في نيسان/أبريل 2022، إلّا أنّ حزبه وحلفاءه خسروا أغلبيتهم المطلقة في الانتخابات البرلمانية بعد شهرين. لكن ذلك لم يثنِه، فمضى قدماً في تعديلاته المثيرة للجدل على نظام التقاعد الفرنسي، مما أثار احتجاجات واسعة النطاق.

بعد أن مُني حزبه بهزيمة ساحقة في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2024، دعا إلى انتخابات تشريعية مبكرة مفاجئة. لكن هذه الخطوة جاءت بنتائج عكسية، حيث حصدت الأحزاب اليسارية وحزب التجمّع الوطني اليميني المتطرّف بزعامة مارين لوبان المزيد من المقاعد في الجمعية الوطنية، مما جعل من المستحيل على حلفاء ماكرون إقرار ميزانية سنوية من دون دعم ضمني من بعض جماعات المعارضة على الأقل.

بسبب عدم تسريع ماكرون لكبح جماح الدين العامّ، زاد حجم التعديلات المطلوبة والتكلفة السياسية المرتبطة بها. وتخلّى عن خطة أولية لإصلاح نظام التقاعد كان من الممكن أن تحظى بدعم أكبر اتحاد نقابي، وبدلاً من ذلك فرض عبر البرلمان نسخة مختلفة واجهت معارضة شعبية وسياسية واسعة.

هل الوضع في فرنسا سيّئ حقاً؟

لم تُعرقل الاضطرابات السياسية الاقتصاد الفرنسي، الذي كان ينمو بمعدل سنوي قدره 0.8%. وتتوقّع بلومبرغ إيكونوميكس تسارع النمو إلى 1% في عام 2026، حيث يُقلّل انخفاض أسعار الفائدة من تكلفة الاستثمار للشركات، ويُشجّع الأسر على إنفاق المزيد من مدخّراتها. وتتوقّع أن تُخفّف جهود الحكومة لكبح الإنفاق الحكومي من العبء على الاقتصاد العام المقبل.

بفضل تنوّع اقتصاد البلاد النسبي، أصبحت أقل تأثّراً من العديد من نظيراتها الأوروبية بالرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب الأميركية على الواردات. وقد صمدت القدرة الشرائية للشركات والأفراد في وجه الجائحة وأزمة الطاقة التي أشعلها الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022. وتُعتبر البطالة منخفضة نسبياً مقارنةً بالمعايير التاريخية، حيث بلغت 7.7%، كما أنّ معدل المشاركة في سوق العمل آخذ في الارتفاع.

ومع ذلك، يُلقي عدم اليقين السياسي المُطوّل بثقله على ثقة الشركات والأسر، وقد يُقلّص نمو الناتج المحلي الإجمالي بما يصل إلى 0.25 نقطة مئوية العام المقبل، وفقاً لـ "بلومبرغ إيكونوميكس".

في حين يُتوقّع أن يتفوّق الاقتصاد الفرنسي على نظرائه الرئيسيين في منطقة اليورو هذا العام، فإنّ تنامي المدخرات يُشير إلى أنّ الأسر أصبحت أكثر حذراً، مما قد يعوق الاستهلاك والنمو. كما يدفع عدم اليقين السياسي الشركات إلى تأجيل استثماراتها.

ما مدى قرب فرنسا من أزمة مالية أشدّ خطورة؟

بعد جائحة كورونا وصدمة أسعار الطاقة، أصبحت الحكومات الأوروبية تقترض أكثر مما كانت عليه خلال أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، بما في ذلك فرنسا.

مع ذلك، يختلف مستوى المخاطر اليوم اختلافاً كبيراً. فقد تطوّر الهيكل المؤسسي، حيث أصبح من غير المرجّح أن تلجأ الحكومات إلى الاقتراض لتحقيق النمو، وبات البنك المركزي أكثر نشاطاً، والاتحاد المصرفي أكثر تكاملاً، مما يساعد على احتواء المخاطر المالية. لا تزال الحكومة الفرنسية قادرة على إيجاد مشترين جاهزين لديونها بفضل تصنيفها الاستثماري، وتوافر ديونها على نطاق واسع، وقاعدة ملكية متنوّعة.

مع ذلك، فمن دون خطة موثوقة لكبح جماح العجز، قد ينزلق دين فرنسا نحو مسار غير مستدام في السنوات المقبلة مع ارتفاع تكاليف الاقتراض بعد عقد من أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، وفقاً لـ "بلومبرغ إيكونوميكس". (لن تتحقّق الزيادة في العائدات منذ عام 2022 إلا تدريجياً، نظراً لطول أجل استحقاق الدين الفرنسي نسبياً، إذ يتجاوز متوسطه ثماني سنوات).

إذا سمح حلّ وسط سياسي بشأن إصلاح نظام التقاعد للحكومة بالتوصّل إلى اتفاق مع يسار الوسط وإقرار ميزانية، فسيكون ذلك إيجابياً لأسواق الدين على المدى القصير. مع ذلك، ترى "بلومبرغ إيكونوميكس" أنّ الإصلاح الشامل لنظام التقاعد أمرٌ حيويٌّ إذا أرادت فرنسا الحفاظ على دينها عند مستوى معقول على المدى الطويل.

ماذا عن إرث ماكرون؟

كان ماكرون القوة المُزعزعة التي فكّكت نظام ما بعد الحرب في فرنسا الذي هيمن عليه الاشتراكيون من يسار الوسط والديغوليون من يمين الوسط، مُقدّماً نفسه كمنافس وسطي للمؤسسة السياسية. سعى إلى إصلاحات اقتصادية طموحة، وكثيراً ما كانت مثيرة للجدل، تهدف إلى تحديث الاقتصاد الفرنسي، وطبّق حماية قوية للعمال خلال جائحة كوفيد-19، وأدّى دوراً محورياً في تشكيل الاتحاد الأوروبي وتعزيزه استجابةً للصين المتزايدة الحزم والولايات المتحدة التي لا يمكن التنبّؤ بسلوكها.

ومع ذلك، فقد تزامنت رئاسته مع أسوأ فترة اضطراب سياسي شهدتها الجمهورية الخامسة، التي أسسها شارل ديغول لإنهاء الحكومات غير المستقرة والمتقلّبة. واجه ماكرون انتقادات مستمرة لسياساته التي اعتُبرت مُحابية لمصالح الأثرياء، ولفشله في احتواء صعود اليمين المتطرّف، وهو أحد التهديدات ذاتها التي تعهّد بتحييدها عندما دخل المعترك السياسي عام 2016.

نقله إلى العربية: الميادين نت.