"ذا ناشونال إنترست": لماذا لا تستطيع فرنسا مواجهة مشكلاتها الاقتصادية؟
لقد فقدت أجندة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإصلاحية زخمها.
-
"ذا ناشونال إنترست": لماذا لا تستطيع فرنسا مواجهة مشكلاتها الاقتصادية؟
مجلة "ذا ناشونال إنترست" الأميركية تنشر تقريراً يتناول أزمة النموذج الاقتصادي الفرنسي وتراجع قدرة حكومة إيمانويل ماكرون على تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها، ما يُنذر بتفاقم المشكلات المالية والهيكلية في البلاد.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
تعاني فرنسا من نموذج اقتصادي غير مستدام، ويبدو أنّ حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون في باريس عاجزة حتى عن مناقشة الأمر، ناهيك عن اتخاذ أي إجراء حياله. قد يكون من الصعب، في ظل الصعوبات التي تواجهها فرنسا حالياً، تذكّر ذلك، ولكن منذ وقت ليس ببعيد، كانت البلاد تتخذ خطوات لتخفيف مشكلاتها الاقتصادية والمالية. للأسف، انقضت تلك اللحظة، وبالتالي تبدو التوقّعات قاتمة.
عندما تولّى ماكرون منصبه كرئيس لفرنسا عام 2017، حمل معه أجندة للإصلاح الاقتصادي والمالي الضروري. شملت خطواته الأولى تغييرات في قانون العمل والضرائب. ووعد بأنه بمجرّد أن تسمح هذه الإصلاحات باقتصاد أكثر صحة، سيتخذ خطوات إضافية لترتيب البيت المالي للبلاد، وبالتالي وضع الاقتصاد السياسي للبلاد على أسس أكثر متانة. في ذلك الوقت، بدا وكأنه يمتلك تفويضاً بالسعي لتحقيق هذه الأهداف.
فور تولّيه منصبه، نفّذ ماكرون العديد من الإصلاحات التاريخية. لتشجيع الابتكار والاستثمار، وبالتالي إنعاش الاقتصاد، استبدلت حكومته قانوناً ضريبياً مُرهقاً ومُعقّداً بضريبة ثابتة بنسبة 30% على دخل الاستثمار. وألغى الضريبة الفرنسية الخاصة على الثروات غير العقارية. وعلى صعيد العمل، منحت قوانين جديدة الشركات الصغيرة والمتوسطة مرونة أكبر من خلال السماح لها بالتفاوض مع قيادات النقابات المحلية بدلاً من الوطنية. كما أتاح فرص العمل من خلال منح الشركات حرية أكبر في اتخاذ قرارات التوظيف والفصل.
ونظراً لأنّ القانون السابق كان يجعل من شبه المستحيل على الشركات فصل موظفيها، حتى لو كان ذلك لسبب وجيه، فقد تردّد أصحاب العمل الفرنسيون طويلاً في توظيف الأفراد بدوام كامل. وبدلاً من المخاطرة بالبقاء مع موظفين غير مرغوب فيهم على كشوف المرتبات، تجاهل مديرو الشركات فرص التوسّع أو اعتمدوا بشكل متزايد على عقود عمل قصيرة الأجل لتلبية احتياجاتهم من العمالة، وهي ممارسة ثبطت تدريب العمال، وبالتالي أعاقت تحسين الإنتاجية.
ورغم الاحتجاجات الجماهيرية من اليسار والنقابات والعمال ذوي المناصب الرفيعة، أُقرّت الإصلاحات وبدا أنها تُفيد الاقتصاد الفرنسي. تسارع النمو الاقتصادي من 0.8% عام 2016 إلى 2% عام 2019، عقب تطبيق هذه الإصلاحات. كما تحسّن وضع التوظيف في فرنسا.
انخفض معدل البطالة الإجمالي في البلاد من 10% من القوى العاملة في عام 2016 إلى نحو 7.2% قبيل جائحة كوفيد-19 التي أثّرت سلباً على الاقتصاد. وانخفض معدل بطالة الشباب من 25% قبل دخول الإصلاحات حيز التنفيذ إلى نحو 20% في عام 2019. وتسارع نمو إنتاجية العمل من متوسط 0.6% سنوياً خلال السنوات الخمس التي سبقت الإصلاحات إلى 0.8% سنوياً في السنوات الثلاث التي تلتها. هذه الأرقام لا تثير الحسد في بعض الاقتصادات، لكنها كانت بالغة الأهمية في السياق الفرنسي.
أوضح ماكرون آنذاك أنّ هذه الجولة من الإصلاحات ليست سوى البداية. فإذا أرادت فرنسا مواصلة دعم دولة الرفاه السخية، فستحتاج إلى المزيد من التغييرات الداعمة للنمو، إضافة إلى الإصلاحات المالية، للسيطرة على الإنفاق الحكومي. فمن دون هذه التغييرات، يصبح النموذج السياسي-الاقتصادي غير مستدام. لم يكن ماكرون صريحاً قط كالمستشار الألماني المنتخب حديثاً فريدريش ميرز، عندما قال إنّ الرعاية الاجتماعية في ألمانيا "لم تعد مستدامة". ومع ذلك، كان يعتقد بوضوح أنّ فرنسا في القارب نفسه، وهذا ما حفّز ماكرون.
لكنّ السياسة الفرنسية تغيّرت، ولم تعد قادرة على إحداث إصلاحات أو التحرّك على الإطلاق. ولاية ماكرون السابقة، التي لم تعد قوية كما بدت في السابق، فقدت كلّ نفوذها تقريباً في البرلمان الفرنسي، الجمعية الوطنية. من جهة، يتمتع اليسار الذي عارض إصلاحات ماكرون منذ البداية بنفوذ في الجمعية، ومن جهة أخرى، يبدو أنّ حزب التجمّع الوطني بزعامة مارين لوبان، على الرغم من كونه أكثر تحضّراً من حزب والدها المتعصّب والمعادي للسامية، يُفضّل تعزيز تمرّده القوي من خلال مواقف معادية للاتحاد الأوروبي والمهاجرين بدلاً من التفكير في إصلاحات اقتصادية أو مالية.
ماكرون عيّن رئيس وزرائه الخامس في غضون عامين. لقد فقدت أجندته زخمها، واضطر إلى تأجيل إصلاح متواضع كان من شأنه أن يُبطّئ الإنفاق الحكومي الفرنسي بشكل طفيف من خلال رفع سن التقاعد تدريجياً من 62 إلى 64 عاماً، وهو لا يزال أقل من المتوسط الأوروبي البالغ 65 عاماً.
ونظراً لتشكيلة الجمعية الوطنية، من المشكوك فيه للغاية أن تتمكّن فرنسا من فعل أي شيء لمعالجة نقاط الضعف المالية أو الاقتصادية في البلاد في أي وقت قريب، خاصة وأنّ الالتزامات الجديدة بشأن الإنفاق الدفاعي لن تؤدي إلا إلى تفاقم الضغوط المالية والاقتصادية القائمة. يشير ذلك إلى أنّ الأمور ستزداد سوءاً في فرنسا قبل أن تتحسّن. إنه أمر مُحبط لماكرون، الذي اضطر إلى مشاهدة إصلاحاته الجريئة تذهب أدراج الرياح، ورؤية طموحاته لفرنسا أكثر أهمية وقوة تتلاشى.
نقلته إلى العربية: بتول دياب.