"ذي إيكونوميست": الصين أصبحت قوّة علمية عظمى

من علم الأحياء النباتية إلى فيزياء الموصِلات الفائقة، تتصدّر الصين الطليعة على الصعيد العلمي.

  • "ذي إيكونوميست": الصين أصبحت قوّة عِلْمية عظمى

مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية تنشر تقريراً تحدّثت فيه عن القوّة العملية للصين، وقدرتها على منافسة الولايات المتحدة وأوروبا في هذا المجال بل والتفوّق عليهما.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية بتصرّف:

في ردهة أحد المراكز البحثية في الأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، هناك جدار مليء ببراءات الاختراع يبلغ عرضه نحو 5 أمتار وارتفاعه طابقين، ويعرض 192 شهادة معلّقة في صفوف مرتبة ومضاءة بشكل جذّاب من الخلف. وعلى مستوى الأرض، خلف حبل مخملي، توجد مجموعة من الجرار الزجاجية تحتوي على الابتكارات التي تحميها براءات الاختراع: البذور.

تنتج الأكاديمية الصينية للعلوم، وهي أكبر منظّمة بحثية في العالم، بالتعاون مع المؤسسات في جميع أنحاء الصين كمية هائلة من الأبحاث في مجال بيولوجيا المحاصيل الغذائية. وفي السنوات القليلة الماضية، اكتشف العلماء الصينيون جيناً يعمل عند إزالته على زيادة طول حبات القمح ووزنها، وجيناً آخر يعمل على تحسين قدرة المحاصيل مثل الذرة الرفيعة والدخن على النمو في التربة المالحة، وجيناً آخر يمكنه زيادة إنتاج الذرة بنحو 10%. وفي خريف العام الماضي، أكمل المزارعون في مقاطعة قويتشو الحصاد الثاني للأرز العملاق المعدّل وراثياً الذي طوّره علماء في الأكاديمية الصينية للعلوم.

لقد جعل الحزب الشيوعي الصيني البحوث الزراعية، التي يعدّها أساسية لضمان الأمن الغذائي للبلاد، أولوية للعلماء. وخلال العقد الماضي، شهدت جودة البحوث المتعلقة بالمحاصيل التي تنتجها الصين وكميتها نمواً هائلاً؛ وفي الوقت الحالي، تعدّ البلاد عموماً رائدة في هذا المجال. ووفقاً لأحد محرّري إحدى المجلات الأوروبية المرموقة المتخصصة في علوم النبات، فإنّ نصف التقارير الواردة في صفحات مجلتهم مصدرها الصين.

رحلة الألف ميل

لا يُعدّ بروز أبحاث علوم النبات أمراً استثنائياً في الصين. ففي عام 2019، استطلعت مجلة الإيكونوميست المشهد البحثي في البلاد وتساءلت عما إذا كانت الصين ستصبح يوماً ما قوة علمية عظمى. واليوم، تمت الإجابة عن هذا السؤال بصورة قاطعة: "نعم". فقد اكتسب العلماء الصينيون مؤخراً الأفضلية في مقياسين للعلوم عالية الجودة تتمّ مراقبتهما من كثب، ولا يظهر نمو البلاد في الأبحاث الرائدة أي تباطؤ. وعليه، فإنّ النظام العالمي العلمي القديم، الذي كانت تهيمن عليه كلّ من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، يقترب من نهايته.

وتتمثّل إحدى طرق قياس جودة البحث العلمي في بلد ما في حساب عدد الأوراق البحثية عالية التأثير التي يتم إنتاجها كل عام، أي المنشورات التي يستشهد بها علماء آخرون في أغلب الأحيان في أعمالهم الخاصة أو اللاحقة. وفي عام 2003، أنتجت الولايات المتحدة ما يزيد بعشرين مرة عن الصين من هذه الأبحاث عالية التأثير، وفقاً لبيانات من شركة "كلاريفيت"، وهي شركة تحليلات علمية. وبحلول عام 2013، أنتجت الولايات المتحدة نحو أربعة أضعاف عدد الأبحاث الرائدة؛ وفي أحدث إصدار للبيانات، التي تنظر في الأوراق البحثية من عام 2022، تجاوزت الصين كلاً من أميركا والاتحاد الأوروبي بأكمله.

من الممكن بالطبع التلاعب بالمقاييس المعتمدة على المراجع. إذ يمكن للعلماء أن يجدوا طرقاً لزيادة عدد المرات التي يتم فيها ذكر أبحاثهم في دراسات أخرى، وتشير ورقة عمل حديثة أعدّها كلّ من كوي شومين وكلوديا ستاينوندر وبيار أزولاي، وهم ثلاثة اقتصاديين، إلى أنّ الباحثين الصينيين يستشهدون بمواطنيهم أكثر بكثير مما يفعل الباحثون الغربيون. إلّا أنّ الصين تتولى قيادة العالم حالياً وفق معايير أخرى أقل عرضة للتلاعب. وهي تتصدّر مؤشر "نيتشر"، الذي أنشأه الناشر الذي يحمل الاسم نفسه، والذي يحصي عدد المساهمات في المقالات التي تظهر في مجموعة من المجلات المرموقة. ولكي يتمّ اختيارها للنشر، يجب أن تنال الأوراق البحثية موافقة لجنة من المراجعين الأقران الذين يقومون بتقييم جودة الدراسة وحداثتها وإمكانية تأثيرها. وعندما تم إطلاق المؤشر للمرة الأولى في عام 2014، حلّت الصين في المرتبة الثانية، لكن مساهمتها في الأبحاث المؤهلة كانت أقل من ثلث مساهمة الولايات المتحدة. وبحلول عام 2023، وصلت الصين إلى المركز الأول.

ووفقاً لتصنيف "ليدن" لحجم مخرجات البحث العلمي، توجد حالياً ست جامعات أو مؤسسات صينية ضمن المراكز العشرة الأولى في العالم، وسبع وفقاً لمؤشر "نيتشر". قد لا تكون هذه الأسماء مألوفة في بلاد الغرب بعد، لكنها اعتادت أن تسمع عن جامعات شنغهاي جياو تونغ، وتشجيانغ، وبكين (المعروفة باسم بيدا) بقدر ما تسمع عن جامعات كامبريدج وهارفارد وزيورخ. وفي هذا الإطار، يقول سيمون مارغينسون، أستاذ التعليم العالي في جامعة أكسفورد: "تُعدّ تسينغهوا حالياً جامعة العلوم والتكنولوجيا الرقم واحداً في العالم. وهذا أمر مذهل! فقد حقّقت هذا النجاح خلال جيل واحد فقط".

واليوم، تتصدّر الصين العالم في العلوم الفيزيائية والكيمياء وعلوم الأرض والبيئة، وفقاً لكل من مؤشر "نيتشر" وعدد من المقاييس الأخرى. في المقابل، لا تزال الولايات المتحدة وأوروبا تتمتعان بريادة كبيرة في كل من علم الأحياء العام والعلوم الطبية. ويقول البروفيسور مارغينسون في هذا السياق: "تُعدّ الهندسة تخصص الصين المطلق في العصر الحديث. وأعتقد أن هذا الأمر يتعلق جزئياً بالتكنولوجيا العسكرية وبما تحتاجه لتطوير الأمة".

تُعدّ البحوث التطبيقية ملعب الصين. فعلى سبيل المثال، تهيمن البلاد على المنشورات المتعلقة بألواح البيروفسكايت الشمسية التي قد تكون أكثر كفاءة بكثير من خلايا السيليكون التقليدية في تحويل ضوء الشمس إلى كهرباء. وقد طوّر الكيميائيون الصينيون طريقة جديدة لاستخراج الهيدروجين من مياه البحر باستخدام غشاء متخصص لفصل الماء النقي، والذي يمكن بعد ذلك تقسيمه عن طريق التحليل الكهربائي. وفي أيار/مايو، أُفيد بأنّ العلماء قاموا، بالتعاون مع شركة طاقة صينية مملوكة للدولة، بتطوير مزرعة هيدروجين عائمة تجريبية قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للبلاد.

بالإضافة إلى ذلك، تصدر الصين اليوم براءات اختراع أكثر من أي دولة أخرى، على الرغم من أنّ الكثير منها مخصص لإجراء تعديلات تدريجية على التصاميم، بدلاً من الاختراعات الأصلية حقاً. وتميل التطورات الجديدة إلى الانتشار واعتمادها بشكل أبطأ في الصين مقارنة بالغرب. لكن قاعدتها الصناعية القوية، إلى جانب الطاقة الرخيصة، تعني أنّها قادرة بسرعة على إصدار ابتكارات مادية مثل المواد على نطاق واسع. ويقول جوناثان بين، الرئيس التنفيذي لشركة "Materials Nexus"، وهي شركة بريطانية تستخدم الذكاء الاصطناعي لاكتشاف مواد جديدة إن "الصين تتميّز في هذا المجال عن الدول الغربية".

كذلك تظهر البلاد براعتها العلمية بطرق أكثر وضوحاً. ففي وقت سابق من هذا الشهر، هبطت المركبة الفضائية الروبوتية الصينية "تشانغ آه-6" في حفرة عملاقة على الجانب البعيد من القمر، والتقطت بعض العيّنات من الصخور، وزرعت العلم الصيني وانطلقت عائدة نحو الأرض. وفي حال عادت بنجاح إلى الأرض في نهاية الشهر، فستكون بذلك أول بعثة تجلب عيّنات من هذا الجانب الذي يصعب الوصول إليه من القمر.

اشحذ أدواتك أولاً 

لقد تمت إعادة هيكلة العلوم الصينية من خلال التركيز على ثلاثة مجالات وهي المال والمعدات والبشر. وبالقيمة الحقيقية، زاد إنفاق الصين على البحث والتطوير بمقدار 16 ضعفاً منذ عام 2000. ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فإنّه، اعتباراً من عام 2021، لا تزال الصين متخلّفة عن الولايات المتحدة في إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير، حيث أنفقت 668 مليار دولار، مقارنة بـ 806 مليارات دولار للولايات المتحدة من حيث تكافؤ القوة الشرائية. أمّا في ما يتعلق بإنفاق الجامعات والمؤسسات الحكومية فقط، فقد تقدّمت الصين. ففي هذه المجالات، لا تزال الولايات المتحدة تنفق نحو 50% أكثر على البحوث الأساسية، مع مراعاة التكاليف، لكن الصين تنفق أموالها على البحوث التطبيقية والتطوير التجريبي.

ويتم توجيه الأموال بدقة نحو المجالات الاستراتيجية. ففي عام 2006، نشر الحزب الشيوعي الصيني رؤيته لكيفية تطوّر العلوم على مدى السنوات الـ15 المقبلة. ومنذ ذلك الحين، أُدرجت المخططات العلمية في خطط التنمية الخمسية للحزب الشيوعي الصيني. وتهدف الخطة الحالية، المنشورة في عام 2021، إلى تعزيز البحث في تقنيات الكم، والذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، وعلم الأعصاب، وعلم الوراثة والتكنولوجيا الحيوية، والطب التجديدي، واستكشاف "المناطق الحدودية" مثل الفضاء السحيق والمحيطات العميقة وأقطاب الأرض.

علاوة على ذلك، شكّلت عملية تأسيس جامعات ومؤسسات حكومية ذات مستوى عالمي جزءاً من خطة التنمية العلمية في الصين. فهناك مبادرات مثل "المشروع 211" و"برنامج 985" و"تشاينا ناين ليغ" قدّمت الأموال لمختبرات معيّنة لتطوير قدراتها البحثية. كما دفعت الجامعات مكافآت للموظفين، تُقدّر بمعدل 44 ألف دولار أميركي لكل منهم وقد تصل إلى 165 ألف دولار أميركي، إذا نشروا أبحاثهم في مجلات عالمية عالية التأثير.

وقد شكّل بناء القوى العاملة أولوية في الصين. فبين عامي 2000 و2019، غادر أكثر من ستة ملايين طالب صيني البلاد للدراسة في الخارج، وفقاً لوزارة التعليم الصينية. وعادوا في السنوات الأخيرة حاملين معهم مهاراتهم ومعارفهم المكتسبة حديثاً. وتشير البيانات الواردة من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أنّه منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان عدد العلماء العائدين إلى البلاد أكبر من عدد المغادرين. واليوم، توظف الصين عدداً من الباحثين أكبر من عدد الباحثين في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأكمله.

وقد تم جذب الكثير من العلماء الصينيين العائدين إلى وطنهم، الذين يشار إليهم في كثير من الأحيان باسم "السلاحف البحرية" (وهو تلاعب باللفظ الصيني الذي يعني "العودة من الخارج")، من خلال الحوافز. فقد قدّم أحد البرامج التي أُطلقت في عام 2010، وهو برنامج " Youth Thousand Talents"، للباحثين أقل من 40 مكافأة لمرة واحدة تصل إلى 500 ألف يوان (أي ما يعادل نحو 150 ألف دولار أميركي من حيث تكافؤ القوة الشرائية) ومنحاً تصل قيمتها إلى 3 ملايين يوان لإنشاء مختبرات وتطويرها والعودة إلى ديارهم؛ وقد نجحت هذه الخطة بالفعل. وأظهرت دراسة نشرت في مجلة "ساينس" العام الفائت أنّ هذا المخطط أعاد الباحثين الشباب ذوي الكفاءات العالية، الذين كانوا في المتوسط من بين الـ15% الأكثر إنتاجية بين أقرانهم (على الرغم من أنّ فئة النجوم البارزين تميل إلى رفض العروض). وفي غضون بضع سنوات، وبفضل الوصول إلى المزيد من الموارد والقوى العاملة الأكاديمية، أصبح هؤلاء العائدون علماء رائدين في أبحاث تزيد بمقدار 2.5 مرة عن الباحثين المكافئين الذين بقوا في الولايات المتحدة.

كل مدّ يقابله جزر. فقد تعرّض العلماء الصينيون العاملون في الخارج لشكوك متزايدة في السنوات الأخيرة. وفي عام 2018، أطلقت الولايات المتحدة مبادرة الصين، وهي محاولة فاشلة إلى حد كبير لاستئصال الجواسيس الصينيين من القطاع الصناعي والأوساط الأكاديمية. كما وردت تقارير عن ترحيل الطلاب بسبب ارتباطهم بـ"استراتيجية الاندماج العسكري المدني" التي تنتهجها الصين. وقد كشف استطلاع حديث للطلاب الصينيين الحاليين الذين يدرسون في الولايات المتحدة والطلاب السابقين الذين درسوا فيها أنّ نسبة الأشخاص الذين تعرّضوا للانتهاكات العنصرية أو التمييز آخذة في الارتفاع.

اقرأ أيضاً: "Unherd": لماذا تفوز الصين بسباق التسلّح؟

إنّ توافر العلماء في الصين يعني، على سبيل المثال في مجال الحوسبة الكمومية، أنّ بعض المختبرات الأكاديمية في البلاد تشبه إلى حد كبير المختبرات التجارية في الغرب، من حيث الحجم. ويقول كريستيان أندرسن، المتخصص في البحث الكمي في جامعة دلفت: "لديهم فرق بحث مكوّنة من 20، 30، وحتى 40 شخصاً يعملون على التجارب نفسها، وقد أحرزوا تقدّماً كبيراً في هذا المجال". ففي عام 2023، حطّم الباحثون العاملون في الصين الرقم القياسي لعدد البتات الكمومية، أو الكيوبتات، المتشابكة داخل حاسوب كمي.

بالإضافة إلى ذلك، أنفقت الصين مبالغ طائلة على المعدات العلمية. ففي عام 2019، عندما استطلعت مجلة "الإيكونوميست" آخر مرة أوضاع البحث العلمي في البلاد، وجدت أنّها تملك بالفعل مخزوناً هائلاً من الأجهزة الثمينة بما في ذلك الحواسيب الفائقة وأكبر تلسكوب راديوي بفتحة مملوءة في العالم، ومختبر للكشف عن المادة المظلمة تحت الأرض. وقد نمت القائمة منذ ذلك الحين. وتُعدّ البلاد اليوم موطناً لكاشف الأشعة الكونية عالي الطاقة الأكثر حساسية في العالم (الذي تمّ استخدامه مؤخراً لاختبار جوانب نظرية النسبية الخاصة لألبرت أينشتاين)، وأقوى مجال مغناطيسي ثابت في العالم (الذي يمكنه استكشاف خصائص المواد)؛ وقريباً، سيكون لديها أحد أكثر أجهزة كشف النيوترينو حساسية في العالم (الذي سيتم استخدامه لتحديد أي نوع من هذه الجسيمات دون الذرية الأساسية يتمتع بأعلى كتلة). تمتلك أوروبا والولايات المتحدة الكثير من المعدات الرائعة الخاصة بهما، لكن الصين تنتج المزيد من الأجهزة بوتيرة سريعة.

كذلك تُعدّ المختبرات الفردية المتوافرة في أفضل المؤسسات الصينية مجهزة تجهيزاً جيداً. فقد ذُهل نيكو مكارتي، الصحافي والباحث السابق في معهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا والذي قام مؤخراً بجولة في مختبرات البيولوجيا التركيبية في الصين، عندما رأى أنّ "الآلات في المؤسسات الأكاديمية أكثر إثارة للإعجاب وأوسع نطاقاً" مما هي عليه في الولايات المتحدة. ووصف مكارتي المرفق الحيوي المتطور في معهد شنتشن للتكنولوجيا المتقدمة، الذي تأمل البلاد أن يكون المكافئ الصيني لوادي السليكون، بـ"المبنى المذهل الذي يضم أربعة طوابق من الروبوتات". ومع امتلاء الجامعات الصينية بالمعدات الحديثة والباحثين المتميزين، واتسام الرواتب بمزيد من التنافسية، تبدو المؤسسات الغربية أقل جاذبية في أعين العلماء الصينيين الشباب والطموحين. ووفق مكارتي، فإنّ "الطلاب الصينيين لا يفكّرون في الولايات المتحدة باعتبارها محجّاً علمياً كما كان يعدّها بعض أساتذتهم".

فلنأخذ الذكاء الاصطناعي مثالاً. في عام 2019، بقي 34% فقط من الطلاب الصينيين العاملين في هذا المجال في البلاد لإكمال دراساتهم العليا أو العمل. وبحلول عام 2022، وصل هذا الرقم إلى 58%، وفقاً لبيانات من مؤسسة "ماكروبولو" لتتبّع المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي، وهي مؤسسة بحثية أميركية (بلغت النسبة لعام 2022 في الولايات المتحدة نحو 98%). وفي الوقت الحالي، تسهم الصين بنحو 40% من الأوراق البحثية العالمية حول الذكاء الاصطناعي، مقارنة بنحو 10% للولايات المتحدة و15% للاتحاد الأوروبي وبريطانيا مجتمعة. وتعتبر الورقة البحثية التي توضح مدى إمكانية تدريب الشبكات العصبية العميقة على التعرّف إلى الصور من أكثر الأوراق البحثية التي تم الاستشهاد بها كثيراً، وقد أعدّها باحثون في مجال الذكاء الاصطناعي يعملون في الصين، وإن كان ذلك لصالح شركة "مايكروسوفت" الأميركية. وفي هذا السياق، قال زاكاري أرنولد، محلل الذكاء الاصطناعي في مركز جورج تاون للأمن والتكنولوجيا الناشئة: "تتمتع أبحاث الذكاء الاصطناعي في الصين بمستوى عالمي، وهي تتميز بمنشوراتها البحثية في مجالات مثل الرؤية الحاسوبية والروبوتات".

من المستبعد أن تشهد نوعية العلوم الصينية وكميتها توقّفاً في النمو في أي وقت قريب، ولا يزال الإنفاق على أبحاث العلوم والتكنولوجيا في تزايد. فقد أعلنت الحكومة عن زيادة في التمويل بنسبة 10% في عام 2024. وتقوم البلاد بتدريب عدد هائل من العلماء الشباب. وفي عام 2020، منحت الجامعات الصينية 1.4 مليون درجة علمية في الهندسة، أي أكثر بسبع مرات مما فعلت الولايات المتحدة. كما قامت الصين بتعليم عدد من كبار الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي على المستوى الجامعي مرتين ونصف المرة أكثر مما فعلت الولايات المتحدة. وبحلول عام 2025، يُتوقّع أن تخرّج الجامعات الصينية نحو ضعف عدد خريجي الدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا مقارنة بأميركا.

لا بدّ من الارتقاء إلى مستوى أعلى

على الرغم من أنّ الصين تنتج المزيد من الأعمال رفيعة المستوى، إلا أنّها لا تزال تنتج كمية هائلة من العلوم ذات الجودة المنخفضة أيضاً. ففي المتوسط، تميل الأوراق البحثية المقبلة من الصين إلى التأثير بشكل أقل، مقارنة بالأبحاث الواردة من الولايات المتحدة، أو بريطانيا، أو الاتحاد الأوروبي، وذلك قياساً على المراجع. وفي الوقت الذي تشهد فيه الجامعات القليلة المختارة تقدّماً، تشهد الجامعات متوسطة المستوى تراجعاً ملحوظاً. ولا تزال مؤسسات الدرجة الثانية في الصين تنتج أعمالاً ذات نوعية رديئة نسبياً مقارنة بنظيراتها في أوروبا أو الولايات المتحدة. وتشرح كارولين واغنر، أستاذة السياسة العلمية في جامعة ولاية أوهايو، موضحةً: "على الرغم من تمتّع الصين بجودة رائعة على المستوى الأعلى، إلا أنها تمتلك قاعدة ضعيفة".

وعندما يتعلق الأمر بالأبحاث الأساسية التي يحركها الفضول (بدلاً من الأبحاث التطبيقية)، لا تزال الصين تحاول اللحاق بالركب، إذ تنشر عدداً من الأوراق البحثية أقل بكثير من الولايات المتحدة في مجلتين علميتين مرموقتين، وهما "نيتشر" و"ستينس". وقد يفسر هذا الأمر جزئياً السبب الذي يجعل الصين تبدو وكأنها تحرز تقدماً أقل من ثقلها الذي تضعه في اكتشاف تكنولوجيات جديدة تماماً. فالأبحاث الأساسية ضئيلة للغاية داخل الشركات الصينية، ما يخلق فجوة بين العلماء الذين يقومون بالاكتشافات والصناعات التي يمكن أن ينتهي الأمر باستخدامها. ويقول شو شيشيانج، كبير العلماء في شركة "لونغي غرين إنيرجي تكنولوجي"، وهي شركة صينية للطاقة الشمسية: "إن هذا الأمر يعيق الابتكارات الأصلية".

وعلى الرغم من ذلك، من غير المرجح أن تظل المجالات التي لا تزال الولايات المتحدة وأوروبا تتصدرانها، آمنة لفترة طويلة. إذ تعتمد العلوم البيولوجية والصحية بشكل أكبر على المعرفة العميقة بموضوع محدد، وكان من الصعب تاريخياً على الصين "استرجاعها وتسريع وتيرة تطوّرها"، كما يقول تيم دافورن، أستاذ التكنولوجيا الحيوية في جامعة برمنغهام والمستشار السابق لوزارة الأعمال البريطانية. لكن مكانة الصين تنمو حالياً في هذه المجالات. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تنتج اليوم ما يقرب من أربعة أضعاف الأوراق البحثية ذات التأثير العالي في مجال الطب السريري، إلا أنّ الصين تنتج في الكثير من المجالات معظم الأوراق البحثية التي تستشهد بهذا البحث الأساسي، وهي علامة على الاهتمام المتزايد الذي ينبئ بتوسّع مستقبلي. وبحسب جوناثان آدامز، كبير العلماء في معهد المعلومات العلمية في "كلاريفيت"، فإنّ "الصين تشهد نمواً سريعاً في مجال علم الأحياء، كما أنّ قدرتها على تحويل التركيز إلى مجال جديد لافتة جداً".

يُعدّ صعود الصين العلمي بمثابة سيف ذي حدّين بالنسبة للحكومات الغربية. فالنظام العلمي في الصين يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدولة والقوات المسلحة، والكثير من الجامعات الصينية يمتلك مختبرات تعمل بشكل واضح في مجال الدفاع.

وعلى الرغم من هذه المخاوف، فإنّ التعاون مع الصين أمر شائع بالنسبة للباحثين الغربيين. إذ إنّ نحو ثلث الأوراق البحثية المتعلقة بالاتصالات التي كتبها مؤلفون أميركيون تتضمن بصمة صينية. وفي علوم التصوير والاستشعار عن بُعد والكيمياء التطبيقية والهندسة الجيولوجية تتراوح الأرقام بين 25% و30%. أما في أوروبا، فالأرقام أقل، نحو 10%، لكنها لا تزال كبيرة. وعليه، فإنّ هذه الشراكات مفيدة لكلا البلدين. علاوة على ذلك، تميل الصين إلى التعاون بشكل أكبر في المجالات التي تكون فيها قوية بالفعل مثل المواد والفيزياء. وقد أظهرت دراسة معدّة مسبّقاً، صدرت العام الماضي، أنّ وجود مؤلف مشارك من الولايات المتحدة أو الصين كان مفيداً بالقدر نفسه للمؤلفين من البلد الآخر بالنسبة لأبحاث الذكاء الاصطناعي، وقد منح 75% من المراجع في المتوسط.

كذلك تحقّقت عدّة نجاحات بارزة من خلال العمل معاً. فخلال جائحة كوفيد-19، قام مشروع مشترك بين قسم الهندسة في جامعة "أوكسفورد" ومركز "أوكسفورد سوتشو" للأبحاث المتقدمة بتطوير اختبار سريع لفيروس كوفيد تم استخدامه في المطارات البريطانية. وفي عام 2015، حدد الباحثون في جامعة كارديف وجامعة جنوب الصين الزراعية الجين الذي يجعل البكتيريا مقاومة للمضاد الحيوي كوليستين. وفي أعقاب ذلك، حظرت الصين، أكبر مستهلك لهذا الدواء، استخدامه في علف الحيوانات، وانخفضت مستويات مقاومة الكوليستين لدى كل من الحيوانات والبشر.

وفي كل من الولايات المتحدة وأوروبا، تعمل الضغوط السياسية على الحد من التعاون مع الصين. وفي آذار/مارس، تم تجديد اتفاقية العلوم والتكنولوجيا الأميركية مع الصين بشكل سري لمدة ستة أشهر أخرى، والتي تنص على أنّ العلماء من كلا البلدين يمكنهم التعاون في موضوعات ذات منفعة مشتركة. ورغم أنّ بكين تبدو حريصة على تجديد الاتفاقية التي مضى على إبرامها 45 عاماً، فإنّ الكثير من الجمهوريين يخشون من أنّ التعاون مع الصين يساعد البلاد على تحقيق أهداف الأمن القومي. وفي أوروبا، باستثناء المشاريع البيئية والمناخية، مُنعت الجامعات الصينية فعلياً من الحصول على التمويل من خلال برنامج "هورايزون"، وهو مبادرة بحثية أوروبية ضخمة.

كذلك تبرز مخاوف بين العلماء بشأن تحوّل الصين إلى الداخل. إذ تمتلك الدولة أهدافاً واضحة تتمثّل بالتحوّل إلى دولة معتمدة على نفسها في الكثير من مجالات العلوم والتكنولوجيا والابتعاد عن المنشورات الدولية كوسيلة لقياس مخرجات البحث.

استمتع بحياتك وتعلّم حتى تشيخ

إنّ الرأي السائد بين علماء الصين والغرب يتمثل بضرورة استمرار التعاون في ما بينهم والأفضل أن يزيد. وهناك مجال لفعل الكثير. فعلى الرغم من نمو الإنتاج العلمي في الصين بشكل كبير، إلا أنّ الحصة التي يتم إجراؤها مع الشركاء المانحين ظلت مستقرة عند نحو 20%، ويميل العلماء الغربيون إلى تحقيق تعاون دولي أكبر بكثير. كذلك يمكن للباحثين الغربيين أن يولّوا المزيد من الاهتمام لأحدث العلوم المقبلة من الصين. فقد أظهرت بيانات من دراسة نشرت العام الماضي في مجلة "Nature Human Behavior" أنّ العلماء الصينيين يستشهدون بالأبحاث الغربية أكثر بكثير مما يفعل الغرب بالنسبة للأبحاث الصينية. ونادراً ما يزور العلماء الغربيون الصين أو يعملون فيها أو يدرسون فيها، ما يحرمهم من فرص التعلّم من زملائهم الصينيين بالطريقة التي أبلى فيها العلماء الصينيون بلاءً حسناً في بلاد الغرب.

إنّ إغلاق الباب أمام الطلاب والباحثين الصينيين الراغبين في القدوم إلى المختبرات الغربية سيكون أمراً كارثياً على العلوم الغربية. إذ يجسّد الباحثون الصينيون العمود الفقري لعدد من الأقسام في أفضل الجامعات الأميركية والأوروبية. وفي عام 2022، كان العدد الأكبر من الباحثين المميزين في مجال الذكاء الاصطناعي العاملين في الولايات المتحدة صينيين وليس أميركيين. ويعتمد نموذج العلوم في الغرب حالياً على عدد كبير من الطلاب الأجانب في الغالب لإجراء معظم الأبحاث اليومية.

في النهاية، لا دليل على عدم استمرارية العملاق العلمي الصيني في النمو بشكل أقوى وسوف يزدهر. وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ مارغينسون: "أعتقد بأنه سيكون من غير الحكمة وضع حدود للمعجزة الصينية، لأنها لم تكن تمتلك حدوداً في الأساس".

نقلته إلى العربية: زينب منعم