"فايننشال تايمز": صندوق النقد الدولي مرساة تائهة في اقتصاد عالمي متغير

على مدى العقد الماضي، نشط موظفو صندوق النقد الدولي في مراجعة الافتراضات القائمة منذ فترة طويلة حول التقشف المالي والحرية المطلقة لتدفقات رأس المال، وعملوا على التخفيف من الشروط المفروضة على القروض الكبيرة والحساسة سياسياً.

  • "فايننشال تايمز": صندوق النقد الدولي مرساة تائهة في  اقتصاد عالمي متغير

تحت عنوان: "صندوق النقد الدولي مرساة تائهة في  اقتصاد عالمي متغير"، كتب آدم تووز في صحيفة "فايننشال تايمز" مقالاً تناول فيه التمثيل المضخّم للدول الغربية في صندوق النقد الدولي كإرث ثقيل من مؤتمر "بريتون وودز".

فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:

يصادف هذا الصيف الذكرى الثمانين لانعقاد مؤتمر "بريتون وودز"، الذي وضعت خلاله قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية تصوراً لنظام العملات بعد الحرب وهيكلية المؤسسات المالية الدولية، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي ستشرف عليها. وتزامناً مع ذلك، وضعت هذه القوى الهيكلية الأمنية لمنظمة الأمم المتحدة. واستمرت هذه الهيكلية العالمية على مدى العقود الماضية، وذلك من خلال إعادة اجترار نفسها مرة بعد مرة.

ومؤخراً، احتفلت كريستالينا جورجييفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، بسجل الصندوق الحافل بعمليات توسيع دوره وتطويره في إطار تفويض مستمر. لكن وعلى الرغم من مرونة صندوق النقد الدولي، مثل باقي مؤسسات الهيكلية العالمية، فقد سلكت عملية تطوره مسار القوى الغربية. أمّا ما يرسم معالم الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، فهو الإدراك بأنّ هذا المسار لم يعد يشمل المستقبل. وفي حالة الصندوق، يَظهر هذا التناقض جلياً بشكل خاص.

في عقوده الأولى، شكّل صندوق النقد الدولي المصرف الرئيس لأعضاء الاقتصادات المتقدمة في نظام "بريتون وودز"، ولم يمنح البلدان النامية اليسير من القروض. وخلال فترة السبعينيات والثمانينيات، ومع انهيار نظام "بريتون وودز" وارتفاع تدفقات رأس المال العالمية، تحوّل الصندوق إلى منظمة لحلّ المشكلات تعالج أزمات الديون في أميركا اللاتينية والعالم النامي. وتدفقت الأموال من الشمال إلى الجنوب، لكن لم يكن سراً أن ما كان على المحك هو ثروات المصارف ذات الأهمية في الشمال.

وإذا كانت فترة الثمانينيات هي التي أنتجت إجماع واشنطن، فإنّ صندوق النقد الدولي قد كرّسه. وما ندعوه اليوم بالعقود الذهبية للعولمة بعد عام 1989 كانت بعيدة كل البعد عن التحقق بسهولة. فقد اندلعت الأزمات في المكسيك، وشرق وجنوب شرق آسيا، وروسيا، ومرة ​​أخرى في الأرجنتين والبرازيل. وواجهت الشروط القاسية التي فرضها الصندوق ردود فعل عنيفة، بما في ذلك من جانب خبراء اقتصاديين بارزين في الغرب.

وعلى الرغم من تقدم العولمة، فإنّه وبحلول مطلع الألفية، شهد صندوق النقد الدولي حالة متردية. وحدها الدول الأكثر يأساً من كانت لتسلم رقبتها طواعية لبرنامج صندوق النقد الدولي. ومع نضوب قائمة العملاء، تقلصت ميزانية الصندوق وتم تسريح الموظفين. فكانت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وتداعياتها، وهي صدمة عالمية مصدرها النظام المصرفي في شمال الأطلسي، خشبة خلاصه.

ولم يكن صندوق النقد الدولي محاصراً من قبل المقترضين الجشعين فحسب، بل إنّ جهوده في مكافحة الأزمات حظيت بالدعم السياسي من مجموعة العشرين، التي تمت ترقيتها إلى اجتماع رؤساء الحكومات في خضم الأزمة المالية في تشرين الثاني/نوفمبر 2008.

ومرة جديدة، تم تحقيق التوافق بين السلطة والمال؛ لكن مثل هذا الدعم السياسي رفيع المستوى جاء مقيداً. وبسبب اقتصادها الآخذ في التوسع، انضمت الصين إلى المجموعة مقابل وعود بتعديل حصتها من التصويت في صندوق النقد الدولي. في المقابل، اتفقت القيادة الأوروبية لصندوق النقد الدولي مع حكومة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل وإدارة أوباما لوضع موارد الصندوق دعامة لعمليات الإنقاذ المتعاقبة لمنطقة اليورو.

وفي ارتداد استثنائي، تمت تعبئة بعض أكبر البرامج في تاريخ الصندوق لصالح كلّ من اليونان وإيرلندا والبرتغال. وتفاقم الإحراج بسبب تعطيل مشروع تعديل حصص التصويت التي وُعدت بها الصين وغيرها من الأسواق الناشئة في الكونغرس من قِبَل الجمهوريين الذين يحملون شعار "أميركا أولاً". ولم تصل حصة الصين إلى أكثر من 6% بقليل إلا في عام 2016، وهو جزء صغير بالمقارنة مع حصة الولايات المتحدة البالغة 16.5%. وفي غضون ذلك، تجاوز اقتصاد الصين، الذي تم قياسه بناءً على تعادل القوة الشرائية، اقتصاد الولايات المتحدة.

وعلى مدى العقد الماضي، نشط موظفو الصندوق في مراجعة الافتراضات القائمة منذ فترة طويلة حول التقشف المالي والحرية المطلقة لتدفقات رأس المال، تحت إشراف دومينيك ستروس كان وكريستين لاغارد وجورجييفا. وعملوا على التخفيف من الشروط المفروضة على القروض الكبيرة والحساسة سياسياً. كما قام الصندوق بتوسيع نطاق مراقبته ليشمل قضايا مشاركة المرأة في سوق العمل، وعدم المساواة، والمناخ. واعتباراً من عام 2020، اتبع نهجاً استباقياً ملحوظاً في استجابته لجائحة "كوفيد-19".

وعلى الرغم من أن أجندة الصندوق قد تكون مُحدّثة، لم يعد بالإمكان تجنب السؤال التالي: من تمثل مؤسسات "بريتون وودز"؟ وبحسب مارتن وولف، فإنّ الأمر الوحيد الذي نعرفه على وجه اليقين بشأن الاقتصاد العالمي، هو أنّ التوازن يتحول من الغرب باتجاه الشرق. ومع ذلك، عندما اجتمعت مجموعة العشرين في نيودلهي في أيلول/سبتمبر 2023، كانت 59.1% من حصص التصويت في صندوق النقد الدولي مملوكة لدول تمثل 13.7% من سكان العالم. وفي الوقت نفسه، بلغت حصة التصويت الخاصة بالهند والصين مجتمعة نحو 9%.

وهكذا، لم يعد يخفى على أحد أن هذا لا يتماشى بتاتاً مع الاتجاهات المستقبلية للاقتصاد العالمي. كما أنّه من الواضح أن مجلس الشيوخ الأميركي، في غياب الثورة السياسية، لن يقبل أبداً بأي تعديل يعمل على معالجة هذا الاختلال في التوازن بشكل كبير. وكذلك لن يقبل الأوروبيون الذين يحظون بالتمثيل الزائد في صندوق النقد الدولي.

وبناء على ما تقدّم، يبدو أننا محكومون بالعيش في عالم تواجه فيه المؤسسات المالية الدولية، التي نعتمد عليها لترسيخ شبكة الأمان المالي العالمية، أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بشأن شرعيتها. وعلى الرغم من كل محاولات الابتكار والقدرة على التكيف التي أظهرها موظفو الصندوق الخبراء مؤخراً، إلا أنهم يواجهون معركة شاقة.

 

نقلته إلى العربية: زينب منعم.