"فايننشال تايمز": لا تستخف بالمستهلك الصيني

إنّ الإصلاحات والتوسّع الحضري والتحوّلات الديموغرافية من شأنها أن تعمل على تعزيز الإنفاق المحلي بشكل مستدام في الصين.

  • "فايننشال تايمز": لا تستخف بالمستهلك الصيني

صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية تنشر تقريراً يتناول احتمالات نمو الإنفاق الاستهلاكي في الصين، والأسباب التي قد تجعل هذا النمو يفاجئ المراقبين، رغم التشاؤم السائد.

التقرير يسلّط الضوء أيضاً على الواقع الحالي للاستهلاك في الصين، التحديات البنيوية، والسياسات المحتملة التي قد تدفع باتجاه تعزيز دور الاستهلاك المحلي في دعم الاقتصاد الصيني مستقبلاً.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

الفكرة القائلة بأنّ الصين بحاجة إلى إعادة التوازن إلى اقتصادها نحو زيادة الإنفاق الاستهلاكي أصبحت الآن راسخة على نطاق واسع. فلأكثر من عقد من الزمان، ظل الاقتصاديون يحذّرون من وجود حدود لتحقيق نمو مرتفع ومستدام من خلال نموذج بكين القائم على الاستثمار والصادرات.

لكنّ هناك شكوكاً واسعة النطاق في أنّ الحزب الشيوعي الصيني يمكنه الإشراف على زيادة كبيرة في استهلاك الأسر.

لذا، هذا الأسبوع، سألتُ المحللين أن يوضّحوا لماذا قد يفاجئ نمو الإنفاق الاستهلاكي طويل الأجل في الصين نحو الاتجاه الصاعد (حتى لو لم تكن هذه وجهة نظرهم). هذا ما قالوه:

أولاً، الرواية المتشائمة حول استهلاك الصين تقلّل من  مدى حجمه الكبير بالفعل. يمثّل الإنفاق الاستهلاكي نحو 40% من اقتصاد البلاد. وعلى الرغم من أنّ المتوسط العالمي أعلى بنحو 20 نقطة مئوية، فإنّ السوق الاستهلاكية في الصين هي ثاني أكبر سوق في العالم من حيث الحجم المطلق (بعد الولايات المتحدة) وقد نمت بمعدل لا مثيل له.

في العقدين السابقين للجائحة، نما الإنفاق الاستهلاكي في الصين بمعدل نمو سنوي مركّب بلغ 9% بالقيمة الحقيقية، وفقاً لأبحاث "BCA".

ويتجاوز نصيبها من الاستهلاك العالمي نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في  فئات عديدة من الإنفاق الطموح وغير الأساسي، بناءً على بيانات جمعها معهد ماكينزي العالمي. يقول روري غرين، كبير الاقتصاديين المعنيين بالصين في "TS Lombard": "الصين هي السوق الأكبر من حيث الحجم والقيمة تقريباً لأيّ منتج استهلاكي، بدءاً من السيارات والهواتف الذكية وصولاً إلى السلع الفاخرة والسينما".

للمقارنة، لن يتطلّب الأمر كثيراً لكي تحلّ الصين محلّ صادراتها إلى الولايات المتحدة عبر الاستهلاك المحلي. تظهر حسابات "Capital Economics" أنّ مبيعات التجزئة في البلاد تزيد بعشر مرات عن صادراتها إلى أميركا.

وقد ساعد الإنتاج العالي، جزئياً، على تغذية سوق التجزئة المحلية في الصين. السلع والخدمات تُعدّ رخيصة نسبياً. (وعلى أساس تعادل القوة الشرائية، فإنّ اقتصاد الصين أكبر من اقتصاد الولايات المتحدة). وهذا يعني أنّ الأسر ذات الدخل المرتفع يمكنها الحفاظ على مستويات معيشية لائقة باستخدام جزء أقل من رواتبها.

ورغم الضغوط الاقتصادية، لم يتراجع المستهلكون الصينيون الشباب عن الإنفاق. قالت كايو جين، الخبيرة الاقتصادية العالمية المرتبطة حالياً بجامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا: "الجيل زد والجيل الألفي لا يزالان ينفقان بحماس على السفر، والتجارب في الهواء الطلق، والألعاب الإلكترونية". وأضافت أنّ "الجزء الأكبر من القروض الاستهلاكية يذهب للأشخاص تحت سن 35، وبكبسة زر على علي بابا، يمكنك الاقتراض لشراء أحمر شفاه".

ببساطة، هناك ثقافة استهلاكية راسخة في الصين توفّر قاعدة كبيرة وصلبة يمكن البناء عليها. وبحلول عام 2030، تُقدّر مجموعة بوسطن الاستشارية أنّ عدد سكان الطبقة المتوسطة والعليا في البلاد سيتجاوز نصف مليار شخص (أعلى بكثير من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة). هذا يعني أنّ مجرد ارتفاع طفيف في الميل إلى الإنفاق سيعزّز الاستهلاك الإجمالي بشكل ملحوظ. وقد ساهمت مستويات الاستثمار والادخار المرتفعة بشكل فريد في الصين في الحدّ من ذلك.

مع ذلك، فإنّ نهج الصين المتشدّد تجاه كوفيد-صفر وانهيار سوق العقارات قد أثّرا على الأسر. لا يزال مستوى ثقة المستهلكين أقل بكثير من مستويات ما قبل 2020، كما أنّ الادخار الاحترازي مرتفع.

هناك بوادر أولية على حدوث تحوّل. يقول آدم وولف، الاقتصادي المختص بالأسواق الناشئة لدى "Absolute Strategy Research": "لقد قامت الأسر إلى حدّ كبير بسد الفجوة في ميزانياتها الناتجة عن انخفاض أسعار العقارات من خلال الودائع البنكية". وأضاف: "أسعار المنازل تستقر الآن، ومن المفترض أن يخف الطلب على الأصول المالية الآمنة".

أظهر استطلاع رأي أجرته "دويتشه بنك" في الربع الأول أنّ 52% من المستهلكين الصينيين على استعداد لزيادة إنفاقهم التقديري، وهو أعلى معدل خلال عام.

ساهمت المبادرات التحفيزية بشكل بسيط. ففي أيلول/سبتمبر، خفّض بنك الشعب الصيني متطلبات الاحتياطي لدى البنوك، وخفّض معدلات الرهن العقاري، وعزّز الدعم لسوق الأسهم. وفي آذار/مارس، أعلنت الحكومة عن "خطة عمل خاصة" تضمّنت وعوداً بزيادة الأجور وإعانات رعاية الأطفال. كما أنّ خطة "التجارة بالاستبدال"، التي تقدّم حوافز مالية لاستبدال السلع القديمة بجديدة، تدعم الإنفاق أيضاً. لكن هناك حاجة إلى دفعات إضافية.

ومع ذلك، فإنّ زيادة مستدامة وطويلة الأمد في الإنفاق الاستهلاكي ستتطلّب تعزيزاً دائماً لثقة الأسر وتقليصاً كبيراً في المدخرات.

لقد أدّى نضال بكين الطويل لزيادة الاستهلاك وتركيزها على الإنتاج إلى شكوك المحللين في قدرة الأسر على تأدية دور أقوى بشكل كبير في الاقتصاد.

هناك مخاطر هيكلية صعودية لتلك الرؤية: الإصلاحات، التحضّر، والديموغرافيا.

لقد اكتسبت أهمية رفع الاستهلاك زخماً سياسياً. كما أنها تتماشى مع فلسفة شي جين بينغ حول "الدورتين" (تعزيز الطلب المحلي والدولي) و"الرخاء المشترك" (تقليص التفاوت).

تضيف أجندة الرسوم الجمركية العالمية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب حافزاً إضافياً لصانعي السياسات الصينيين. إذ إنّ الاضطرابات في الطلب الخارجي تزيد من أهمية السوق الداخلية. كما أنّ شركاء التجارة يراقبون أيضاً مسألة إعادة توجيه الصادرات الصينية المتجهة إلى الولايات المتحدة إلى أماكن أخرى. ستكون بكين حريصة على عدم حرق الجسور، وقد تكون أكثر وعياً بتصدير إنتاجها العالي إلى الخارج.

يقول جيسون مكمان، رئيس وحدة الاستخبارات السياسية في "Morning Consult": "بعد سنوات من التوترات التجارية مع الاتحاد الأوروبي وأستراليا وغيرها من اللاعبين الرئيسيين، قد ترى بكين فرصة لتعزيز مكانتها العالمية من خلال التصرّف بلطف في التجارة، بينما تواصل واشنطن التشدّد".

التحضّر هو احتمال صعودي آخر. يعيش ثلثا سكان الصين في المدن، وفي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، المتوسط أعلى من 80%. إنّ استمرار  الهجرة وتسريعها إلى المناطق الحضرية سيعزّزان الدخل والإنفاق على الخدمات.

ومع ذلك، فإنّ نظام تسجيل الأسر (هوكو) في الصين يحدّ من وصول المهاجرين الريفيين إلى الخدمات والمزايا الاجتماعية في المناطق الحضرية. وتعتقد مجموعة "Rhodium" أنّ منح المهاجرين وصولاً كاملاً إلى الخدمات الأساسية في المدن سيعزّز الاستهلاك بشكل كبير. وقد وجدت دراسة أُجريت عام 2025 أنّ استهلاك الفرد من المهاجرين زاد بنسبة 30% عندما ينتقلون إلى مدينة، مع زيادة إضافية بنسبة 30% عندما يتمّ دمجهم بشكل كامل في الحياة الحضرية.

على نطاق أوسع، حتى الرأسمالية الأميركية تنفق أكثر على التحويلات الاجتماعية مقارنة بالصين الشيوعية. كما أنّ بكين تجمع نحو 1% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي من ضريبة الدخل، وهو أقل بكثير من الاقتصادات المتقدّمة.

يحفّز ضعف نظام الرفاهية الصيني المدخرات الاحترازية العالية (والاعتماد على الديون في المناطق الريفية والفقيرة). وقد تحدّث شي ضد "الرفاهوية". لكن ما لدى الصين حالياً بعيد كل البعد عن نظام "يشجّع على الكسل". علاوة على ذلك، قد يأتي ارتفاع طويل الأمد من سكانها المتقدّمين في السن. مع تقاعد نسبة أكبر من الصينيين، سينخفض معدل المدخرين إلى المستهلكين.

إنّ تحقيق المكاسب الإنتاجية المطلوبة وضمان أنّ معظمها يعود إلى العمال سيكون مهمة شاقة. في الواقع، فإنّ كفاءة الإنفاق الرأسمالي في الصين في اتجاه هبوطي، وفقاً لأبحاث "BCA". 

خيارات أخرى لزيادة دخل الأسر بشكل مستدام ستتطلّب إصلاحات سياسية كبيرة (وهي إصلاحات تماطل بكين في تنفيذها حتى الآن)، كما يقول بيتيس.

ولكن، إذا كانت بكين جادة بشأن تحويل الصين إلى "دولة متوسطة التطوّر" بحلول عام 2035، فإنّها بحاجة إلى إطلاق العنان لإمكانات قاعدتها الاستهلاكية الكبيرة.

تساعد حزم التحفيز قصيرة الأجل، لكنها تفعّل القليل لتعزيز ثقة الأسر على المدى الطويل. ستعمل إصلاحات الرعاية الاجتماعية (والضرائب) على إعادة تدوير المدخرات العالية إلى إنفاق في الاقتصاد الحقيقي، وتوليد نمو أعلى من التحضّر، وفي المقابل، المساهمة في بناء منظومة تجزئة ناضجة ومبتكرة في الصين.

يولي صانعو السياسات اهتماماً أكبر للاستهلاك. هناك إصلاحات تدريجية، وإن كانت صغيرة النطاق، تحدث ضمن أنظمة الهوكو والمعاشات التقاعدية والمزايا. ومع تزايد وضوح الحدود الاقتصادية والجيوسياسية لاستراتيجية النمو الحالية في البلاد، قد تستفيد بكين من جهازها السياسي المركزي لدفع الاستهلاك بقوة.

يقول ديفيد غودمان، مدير مركز الدراسات الصينية بجامعة سيدني، الذي يدرس الصين منذ أكثر من 50 عاماً: "لقد أظهرت بكين مراراً وتكراراً القدرة على فعل ما هو غير متوقّع، لتحقيق أهدافها طويلة الأجل".

لقد عانى المستهلكون الصينيون في السنوات الأخيرة. لكن هناك قوة إنفاق هائلة لم يتمّ استغلالها بعد، وبكين هي التي تملك المفتاح.

 

نقله إلى العربية: الميادين نت.