"فورين بوليسي": الأيزيديون السوريون قلقون على مصيرهم

لدى الأيزيديين شكوك في حكومة أحمد الشرع الانتقالية في دمشق.

  • "فورين بوليسي": الأيزيديون السوريون قلقون على مصيرهم

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول الوضع الحالي للأقلية الدينية الأيزيدية في شمال شرق سوريا، مع التركيز على تاريخهم الطويل من الاضطهاد والتحديات التي يواجهونها اليوم نتيجة التحولات السياسية والأمنية في المنطقة.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

على مشارف قرية برزان الأيزيدية الصغيرة في الحسكة شمال شرق سوريا، وقف شادي راشو (10 سنوات) يُلقي دعاءً. استمر صوته الخفيف، وإن كان حزيناً، لبضع دقائق، بينما كان الجميع يستمعون في صمت. وقال شقيقه الأكبر سليمان (21 عاماً): "هذا ما يمكن أن يفعله الأطفال الذين يستمرون بالعيش هنا"، فمعظم أقارب العائلة غادروا إلى أوروبا، هرباً من السياسات التمييزية التي فرضتها السلطات السورية على مدى عقود، ومن اضطهاد تنظيم "داعش" لهم.

والأيزيديون أقلية دينية عرقية ناطقة بالكردية في الغالب، تسكن تاريخياً في قرى منتشرة في إيران والعراق وسوريا وتركيا. ويعود تاريخ دينهم إلى آلاف السنين، ويتضمن عناصر وثنية وزرادشتية ومسيحية وإسلامية. ويشير سليمان إلى صورة لطاووس حُفرت تحتها رسمة صغيرة لمعبد لالش الأيزيدي في العراق، مُعلّقة في وسط غرفة المعيشة، ويقول إنّ الطاووس لدى الأيزيديين "رمز وملاك زيّن الأرض عند خلقها".

لطالما واجه الأيزيديون الاضطهاد. وقد أساءت ديانات أخرى تفسير صورة الطاووس الملاك على أنها "الشيطان". لذلك يُتَّهمون بأنهم "عبدة الشيطان"، بينما يقول الأيزيديون إنّهم تعرّضوا لـ74 إبادة جماعية عبر التاريخ، كان آخرها على يد تنظيم "داعش" الذي قتل أكثر من 3000 منهم، واستعبد واعتدى على ما يقارب 7000 آخرين، وأجبرهم على اعتناق الإسلام.

وعلى مدار العقد الماضي، نال العديد من الأيزيديين في سوريا اعترافاً رسمياً وشعوراً بالحماية في ظل الإدارة الكردية التي لا تزال تسيطر على جزء كبير من شمال شرق البلاد، لكن الآن، ومع وصول حكومة أحمد الشرع، يشعر الأيزيديون السوريون بالريبة مجدداً بشأن مستقبلهم ومصيرهم. وفي الوقت نفسه، تواجه القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة ضغوطاً متزايدة للانضمام إلى الجيش الوطني التابع للشرع، المتورط في مجازر بحق أقليات دينية أخرى في البلاد.

وقالت ليلى محمو، إحدى مديرات "البيت اليزيدي"، وهي منظمة جامعة تدافع عن حقوق الأيزيديين في سوريا: "جميعنا خائفون من الحكومة الجديدة. لقد رأينا ما حدث للعلويين والدروز. وهي تتبنى العقلية ذاتها التي حملها داعش".

وتُعدّ قرية برزان صغيرة للغاية إلى درجة أنها لا تظهر على أي خريطة تقريباً، لكنها تقع شمال مدينة الحسكة وتتكوّن من عشرات المنازل الطينية التي أصبح العديد منها الآن مهجوراً. وعام 1947، جاء أقارب عائلة راشو إلى المنطقة بحثاً عن مكان آمن للزراعة وتربية المواشي، فوجدوا الأمان في رقعة معزولة من البادية. ومع أنّ العائلة تنحدر من العراق، فإن العديد من الأيزيديين يعيشون في مناطق أخرى من سوريا، مثل محافظة عفرين شمال غرب البلاد، منذ القرن الثاني عشر على الأقل.

ولا يزال عمّ سليمان الأكبر، أحمد درويش راشو (88 عاماً)، يعتني بأشجار الزيتون والخضراوات في أرض القرية. يرتدي جلباباً أبيض بالكامل، ولديه شارب كثيف متدلٍ، وهو أسلوب يزيدي مميز. ويشرح أنّ عائلته، كغالبية الأيزيديين في سوريا، كانت بلا جنسية، أي بلا أي حقوق رسمية في الأرض التي يعيشون فوقها. وقد تعرّض الأيزيديون للتهميش والحرمان من الاعتراف من قبل الحكومات السورية المتعاقبة، ما أدّى إلى إفقار جزء كبير منهم.

تضيف ليلى محمو أنَّ هذا الفقر والتمييز دفعا العديد من الأيزيديين إلى مغادرة سوريا قبل غزو تنظيم "داعش"، ثم في عام 2014، ومع سيطرة التنظيم على مساحات شاسعة من الأراضي، فرَّ نحو نصف الأيزيديين من البلاد، وانخفض عددهم من نحو 60 ألف نسمة عام 2012 إلى ما بين 34 و40 ألفاً فقط. ومن بين من فرّوا من قرية برزان، ستة من أبناء أحمد من أصل تسعة، وهم يعيشون الآن في ألمانيا، حيث يعتقد والدهم أنّ الثقافة الأيزيدية ستندثر هناك. ويخشى أن يصعُب عليهم الحفاظ على عاداتهم الدينية الصارمة في الدول الغربية، مثل عدم الزواج من خارج الديانة الأيزيدية، إذ يؤدي ذلك إلى إقصاء الفاعل عن الجماعة. كما أن هناك تسلسلاً هرمياً داخلياً يحدد الزيجات، حيث ينتمي القادة الدينيون وقادة المجتمع إلى طبقة مختلفة. ويخشى أحمد من صعوبة الحفاظ على هذا أيضاً مع تشتت الجماعة الأيزيدية في مختلف أنحاء العالم.

وبينما كنا نتحدث، اتصل أحمد بأحد أبنائه الذي قدّم وجهة نظر مختلفة. يعيش بركات راشو الآن في هانوفر مع سبعة أبناء، وأوضح عبر الهاتف أنه، على عكس والده، متفائل بقدرة الطائفة الأيزيدية على الاستمرار في تقاليدها. وأشار إلى وجود أكثر من 350 ألف أيزيدي في ألمانيا، وأنّهم يدعون إلى بناء معابد ومتاحف تراثية أيزيدية في المناطق التي تضم جاليات كبيرة منهم، مؤكداً أنّ الأمر كله يعتمد عليهم وعلى تضامنهم كجماعة. وبحلول عام 2018، كان تنظيم "داعش" قد خسر معظم أراضيه. حينها، حصل الأيزيديون المتضائلون على اعتراف رسمي في ظل الإدارة الكردية التي تأسست حديثاً، والتي سيطرت على جزء كبير من الشمال الشرقي وأجزاء من محافظة حلب غرباً. وبفضل هذه الحماية، تمكّن الأيزيديون من ممارسة شعائرهم الدينية علانية للمرة الأولى في تاريخ سوريا الحديث. كما أُنشئت مؤسسات ثقافية، مثل "البيت الأيزيدي"، للحفاظ على التقاليد ونشر الوعي بمعتقدات الطائفة.

مع ذلك، تبيّن أن هذا الأمن المستجد كان هشّاً في ظل تحوّلات مسار الحرب الأهلية السورية؛ فبعد هجوم مطلع عام 2018، وجد الأيزيديون المقيمون في عفرين أنفسهم تحت سيطرة "الجيش الوطني السوري"، وهو تحالف من فصائل المعارضة المدعومة من تركيا. وكانت فلة شكرو (48 عاماً) من بين آلاف الأيزيديين الذين هُجّروا من ديارهم نتيجة ذلك. وقالت إنّ ميليشيات الجيش الوطني السوري هاجمت قريتها لمدة 50 يوماً، ما أدى إلى تهجير جميع سكانها تقريباً. كما دُمّر أو دُنّس أكثر من نصف المزارات الأيزيدية في عفرين، ما جعل من شبه المستحيل على الأيزيديين القلائل الذين بقوا هناك ممارسة شعائرهم الدينية علانية. وفرّ معظمهم إلى مناطق لا تزال تحت السيطرة الكردية، مثل حيّي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، ومنطقة معروفة باسم كانتون الشهباء في شمال المحافظة.

لكن في كانون الأول/ديسمبر 2024، عندما شنّ المتمردون السوريون هجومهم الخاطف لإطاحة بشار الأسد، طرد "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا القوات الكردية من مقاطعة الشهباء، ما أجبر الآلاف من الأيزيديين على الفرار مرة أخرى. وبعد أشهر قليلة، في نيسان/أبريل، انسحبت القوات الكردية أيضاً من حيّي الشيخ مقصود والأشرفية، وسُلّمت السيطرة إلى دمشق وفقاً لاتفاق أُبرم في آذار/مارس بين الرئيس السوري الجديد والزعيم الكردي مظلوم عبدي؛ رئيس قوات سوريا الديمقراطية "قسد".

تضيف شاكرو، التي تعيش في حي الشيخ مقصود منذ فرارها من عفرين، أنها لا تشعر بالأمان في ظل وجود القوات السورية الجديدة. وقد حدّت هي وغيرها من الأيزيديين من تحركاتهم، وهم يترددون في الخروج من حيهم، كما كانوا يفعلون سابقاً. وتقول: "لا نعيش حياةً كريمة، نحن بالكاد نعيش، بلا حرية أو أمن". وفي الأثناء، كان الشرع، وهو زعيم سابق لفرع تنظيم "القاعدة" في سوريا، قد ضمّ عدداً كبيراً من الجهاديين السلفيين إلى مناصب حكومية وعسكرية عليا، من بينهم عناصر سابقة في ميليشيات "الجيش الوطني السوري" الذين هاجموا عفرين عام 2018. وعيّن الشرع أحمد الهايس، قائد فصيل "أحرار الشرقية" التابع لـ"الجيش الوطني السوري"، قائداً لمعظم شمال شرقي سوريا، رغم تورطه المباشر في انتهاكات ميليشياته ضد الأقليات الدينية والعرقية، بما فيها الإتجار بالنساء والأطفال الأيزيديين.

وحاولت الحكومة السورية الجديدة طمأنة الأقليات الدينية بأنها ستحظى بالحماية، إلا أن مسودة الدستور السوري الجديد تنص على أن الإسلام هو "المصدر الرئيسي" للتشريع، ولا تعترف بحرية المعتقد إلا للأديان السماوية، أي المسيحية واليهودية، دون الأيزيدية. وقالت شاكرو: "نشعر الآن بالاستبعاد، ولا يريد أحد مشاركتنا". وفي الوقت نفسه، كان الأيزيديون في الشمال الشرقي يراقبون ما يجري في حلب بعد رحيل الإدارة الكردية، ويخشون أن يواجهوا هم أيضاً المصير نفسه قريباً.

إسماعيل ضيف (47 عاماً)، مدير "البيت اليزيدي" في بارزان وزميل ليلى محمو، يقول: "لا شك في أن هناك مخاوف. فالحكومة الحالية التي تقود سوريا تضم عشرات الفصائل التي لطخت أيديها بدماء الشعب السوري". وبعد هجوم كانون الأول/ديسمبر الماضي، استقبلت منطقة الشمال الشرقي نحو 2600 أيزيدي فارّين من مناطق حلب، وقد جاء كثير منهم من مخيمات النازحين في مقاطعة الشهباء بعد تعرضها لهجوم من قبل متطرفين. وتضيف ليلى محمو: "نريد أن تحتفظ قوات سوريا الديمقراطية بالسيطرة على المنطقة".

مع ذلك، تضغط الولايات المتحدة على القوات الكردية لتسريع تنفيذ اتفاقها للاندماج مع دمشق. وفي 16 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأن عبدي حقق تقدماً في المحادثات مع دمشق، واتفق على "آلية" للاندماج تنضم بموجبها قواته إلى الجيش السوري الجديد ككتلة واحدة كبيرة، لكن هذا التطور أثار قلق أهالي قرية برزان. يقول سليمان راشو إنه لا يثق بالسلطات السورية الجديدة، مؤكداً أنه لا يجرؤ على دخول دمشق خوفاً مما قد تفعله به قوات الأمن الجديدة على الحواجز المنتشرة على الطريق. كما أن بعض الإجراءات الرسمية، مثل الحصول على جواز سفر، تتطلب من سكان شمال شرق سوريا السفر إلى العاصمة.

كما أعرب عمه الأكبر أحمد راشو عن إحباطه من الولايات المتحدة، موضحاً أنه يشعر بأنها ساعدت في وقت ما في الدفاع عن مجتمعه ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، لكنها الآن تدير ظهرها لهم من خلال دعم الرئيس السوري الجديد. وقال: "نحن مستاؤون مما تفعله أميركا"، وأصرّ على نشر تصريحه في الصحافة.

وتخشى ليلى محمو ومواطنوها أيضاً أن يتوقف البحث عن آلاف الأيزيديين المختطفين لدى تنظيم "داعش" إذا غادرت قوات سوريا الديمقراطية المنطقة. وأوضح إسماعيل ضيف أن التنظيم "اختطف ما مجموعه 6417 أيزيدياً، ولم يُفرج إلا عن نصفهم تقريباً، أي نحو 3573 شخصاً"، فيما يُنسق "البيت اليزيدي" بشكل وثيق مع السلطات الكردية للبحث عن المفقودين، بما في ذلك بعض الأطفال المختطفين الذين لا يزالون في معسكر الهول المترامي الأطراف المخصص لعائلات عناصر "داعش". وحتى الآن، لم تبذل الحكومة السورية الجديدة أي جهود للبحث عن عشرات الأيزيديين المشتبه في أنهم ما زالوا أسرى في مناطق مثل إدلب وحلب وحماة، وفقاً لإسماعيل ضيف، الذي أضاف: "إذا غادرت قوات سوريا الديمقراطية، فسيكون من المستحيل البحث عن أي مفقودين أو تحريرهم".

تقول مديحة إبراهيم الحمد (20 عاماً)، ناشطة ومخرجة أفلام يزيدية، إنها تخشى أن يكون المجتمع الدولي قد تناسى القضية اليزيدية. وقد اختُطفت الحمد نفسها من منزلها في سنجار في العراق، وهي بعمر 10 سنوات، وبيعَت كجارية لأحد مقاتلي "داعش"، وبقيت في الأسر لمدة ثلاث سنوات حتى بلغت 13 عاماً، فيما لا يزال مكان والديها مجهولاً. وتساءلت في مقابلة مع مجلة "فورين بوليسي" في نيويورك، حيث تعيش الآن، عن مكان وجود والديها، وقالت: "أشعر بحزن شديد على شعبي. ما زالوا مفقودين، يعيشون في مخيمات". ودعت المجتمع الدولي إلى تخصيص المزيد من الموارد للبحث عن المفقودين، فقصتها تمثل آلاف النساء والفتيات الأخريات.

بالعودة إلى بارزان، قال سليمان راشو إنه يأمل البقاء في قريته والتمسك بالعادات اليزيدية، كما فعل والده وجده قبلهما، لكن الجيل الأكبر سناً كان أقل تفاؤلاً ببقاء المجتمع الأيزيدي. وقالت جدة سليمان، سهام درويش مصطفى (67 عاماً)، إن "أطفالها الذين غادروا لن يعودوا أبداً على الأرجح"، ثم توجهت لزيارة مثوى زوجها، بسقفه الإسمنتي المدبب، حيث شاهدت قبره الذي يشبه معبد لالش الأيزيدي المقدس. رشّت قبره بالماء البارد في حرّ الصحراء اللافح، ثم استخدمت زجاجة ماء بلاستيكية لملء حوض حجري صغير، موضحة أن إحدى أمنيات زوجها الأخيرة كانت ترك الماء للطيور، فيما بقيت شواهد قبور أخرى مهجورة، ولا يزورها أحد كما تفعل هي. وقالت، وهي تستدير لتترك الماء المتبقي من زجاجتها يتساقط في الحوض: "لكن الناس خائفون".

نقله إلى العربية: حسين قطايا.