"فورين بوليسي": هل تصبح "إسرائيل" منبوذة؟

حلفاء "إسرائيل" الأوفياء ينأون بأنفسهم عنها، بما في ذلك ألمانيا والمملكة المتحدة.

  • "فورين بوليسي": هل تصبح "إسرائيل" منبوذة؟

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تصاعد القلق الإسرائيلي من العزلة الدولية المتزايدة، نتيجة الحرب على غزة وتزايد النقد الدولي. 

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

يشعر الإسرائيليون بقلق مزمن من أن يُتركوا يوماً ما معزولين. "إسرائيل" تعتمد اعتماداً كبيراً على التجارة والاستثمار الأجنبي، وتعتقد أنها جزء من عائلة الديمقراطيات الغربية، ستكون أقل قدرة بكثير من دول مثل إيران وروسيا على التعامل اقتصادياً وعسكرياً ونفسياً مع العقوبات والاستنكار العالمي.
 
لم تتحقّق هذه المخاوف قط، ولكن في الأسبوعين الماضيين، أصبح التهديد ملموساً أكثر من أي وقت مضى. السبب المباشر هو قرار "إسرائيل" تجديد هجومها على قطاع غزة ومنع المساعدات الإنسانية. لكن وراء ذلك تطوّرات طويلة الأمد لا تبشّر بالخير لـ "إسرائيل".

جاء التهديد الأكثر واقعية من أوروبا. أعلن الاتحاد الأوروبي في 20 أيار/مايو أنه سيراجع اتفاقية الشراكة مع "إسرائيل" التي تشمل، من بين أمور أخرى، اتفاقيات التجارة الحرة. في اليوم نفسه، علّقت بريطانيا المحادثات مع "إسرائيل" بشأن اتفاقية التجارة الحرة الثنائية. أوقفت بعض الدول الأوروبية توريد الأسلحة أو علّقت تراخيص التصدير، ودعت إسبانيا الشهر الماضي إلى فرض حظر عامّ على توريد الأسلحة إلى "إسرائيل". أيضاً، أصدرت مجموعة من الدول، بما في ذلك ألمانيا وغيرها من الدول الصديقة لـ "إسرائيل"، بياناتٍ تنتقد تجدّد الحرب في غزة بشكلٍ غير معتاد.
 
على الورق، لا تزال الولايات المتحدة ملتزمةً تجاه "إسرائيل" كعادتها، وتتدفّق شحنات الأسلحة من دون انقطاع. لكن عملياً، وجدت "إسرائيل" نفسها باستمرار إلى الجانب الخطأ من أولويات إدارة ترامب في الشرق الأوسط.
 
ففي إيران، اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب المفاوضات بدلاً من مهاجمة المنشآت النووية، كما فضّلت "إسرائيل"، وفي سوريا، تجاهل ترامب المخاوف الإسرائيلية وأسقط العقوبات وأعاد فتح مقر إقامة السفير الأميركي؛ ومع الحوثيين، توصّلت الإدارة إلى هدنة تركت "إسرائيل" تقاتلهم بمفردها.
 
ولعلّ الأهمّ من ذلك، أنّ زيارة الرئيس رفيعة المستوى إلى الخليج أشارت إلى أين تكمن مصالحه في المنطقة؛ عقد صفقات تجارية وتجنّب المواجهات العسكرية التي يبدو أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عازمٌ على خوضها.
 
حتى الآن، لا يُشير أيٌّ من هذا إلى عزلةٍ وشيكةٍ لـ "إسرائيل". على سبيل المثال، لكي تُفضي مراجعة الاتحاد الأوروبي إلى أي خطواتٍ ملموسة، يجب أن توافق أغلبية الدول، وهو أمرٌ مستبعدٌ في الوقت الحالي. ولن يكون حظر الأسلحة ذا معنى ما لم تنضمّ إليه الولايات المتحدة، التي تُزوّد، إلى جانب ألمانيا، بمعظم الأسلحة المستوردة لـ "إسرائيل". (مع ذلك، أعلنت إسبانيا في 3 حزيران/يونيو إلغاء صفقة أسلحة بقيمة 285 مليون يورو، مُساعدةً في تحقيق "انفصال" عن "إسرائيل" في المسائل الأمنية). جمّدت بريطانيا مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة، لكن اتفاقيتها التجارية الحالية مع "إسرائيل" لا تزال سارية.
 
إذا أنهت "إسرائيل" حربها في غزة قريباً، وهو أمرٌ غير مُسلّم به، فمن المُرجّح أن يُرفع التهديد المُباشر بالعزلة التي تواجهها، وإن كان ذلك سيُفاقم من تراجع مكانتها الدولية. لكن الاتجاهات طويلة المدى التي تُعرّض "إسرائيل" لمثل هذا الخطر لا تزال قائمة.
 
أول هذه الاتجاهات هو الرأي العام في الولايات المتحدة وأوروبا.
 
لا يزال الأميركيون أكثر تعاطفاً مع الإسرائيليين منه مع الفلسطينيين، وفقاً لاستطلاعات غالوب،إلا أنّ الفجوة آخذة في التقلّص على مدار العقد الماضي. في شباط/فبراير، عندما أجرت "غالوب" آخر استطلاع لها، كانت النسبة لصالح "إسرائيل" 46% مقابل 33%، وهي نسبة لا تُمثّل أغلبية ساحقة في بلد يعتمد بشدّة على احتياجات الدعم الأميركي.
 
في جميع أنحاء أوروبا، تنظر "إسرائيل" الآن نظرة سلبية إلى الجمهور، بما في ذلك ألمانيا، التي عادةً ما تكون من بين أكثر مؤيدي "إسرائيل" موثوقية.

ووفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة "بيرتلسمان" في وقت سابق من هذا العام، قال 36% فقط من الألمان إنّهم ينظرون إلى "إسرائيل" بإيجابية، مقابل 38% ممن اتخذوا موقفاً سلبياً. وقبل أربع سنوات فقط، وجد الاستطلاع نفسه أنّ 46% من الألمان لديهم رأي إيجابي تجاه "إسرائيل".
 
لقد أضرّ الموت والدمار الهائلان الناجمان عن حرب غزة، والمتفاقمان بفعل التغطية الإعلامية المكثفة والاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق في الولايات المتحدة وأوروبا، بمكانة "إسرائيل" في نظر الجمهور. لكن "إسرائيل" تواجه مشكلة أعمق لن تختفي بانتهاء القتال: فالشباب ينظرون إلى "إسرائيل" وفلسطين من منظور السياسة العنصرية وإرث الاستعمار الأوروبي، وهذا يضع "إسرائيل" تلقائياً في موقف أخلاقي ضعيف. وليس من المستغرب أن يكشف استطلاع رأي أجراه مركز "بيو" العام الماضي أنّ نسبة الأميركيين الذين عبّروا عن تعاطفهم مع الفلسطينيين، والذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً، تفوق ضعف نسبة الإسرائيليين.
 
تؤثّر أرقام استطلاعات الرأي حتماً على القادة المنتخبين، الذين يشعرون حينها بالحاجة إلى التعبير عن آرائهم، وربما حتى التصرّف. لكن لا ينبغي المبالغة في تأثيرها، لأنّ قضية "إسرائيل" وفلسطين ليست قضية حاسمة بالنسبة للغالبية العظمى من الناخبين. إنّ خسارة "إسرائيل" الحاسمة في معركة الدعم الدبلوماسي في الغرب تكمن بين النخبة، أي وسائل الإعلام، والجامعات، والمنظمات غير الحكومية، والمسؤولين الحكوميين، ومن الأمثلة على ذلك هيئة السلام التابعة للاتحاد الأوروبي. ومع صعود جيل الشباب إلى مناصب السلطة، ستصبح رؤيتهم للعالم أكثر هيمنة بين قادة الرأي.
 
الاتجاه الثاني الذي يعمل ضد "إسرائيل" هو الديناميكيات المتغيرة في الشرق الأوسط.
 
لقد حظيت "إسرائيل" بحماية كبيرة من التدخلات الحكومية من قبل الغرب لأنها كانت تُعتبر حليفاً مهماً في الدفاع عن مصالحها الإقليمية، سواء في مواجهة إيران، أو المساعدة في دعم الأنظمة المعتدلة، أو تقديم معلومات استخباراتية قيّمة.
 
لكن كما اتضح بشكل متزايد خلال الأشهر القليلة الأولى من ولاية ترامب الثانية، فإنّ العديد من القيم القديمة للسياسة الأميركية تُهمَل. وكما قال الرئيس نفسه خلال جولته في الخليج: "أمام أعيننا، جيل جديد من القادة يتجاوز صراعات الماضي القديمة وانقساماته البالية، ويصنع مستقبلاً يُعرّف فيه الشرق الأوسط بالتجارة لا بالفوضى؛ ويُصدّر فيه التكنولوجيا لا بالإرهاب؛ وحيث يبني أبناء الأمم والأديان والمذاهب المختلفة مدناً معاً - ولا يُدمّرون بعضهم بعضاً بالقصف".
 
ليست هذه هي النظرة التي تنظر بها "إسرائيل" (أو على الأقل حكومة نتنياهو) إلى الشرق الأوسط. فهي لا تزال تعتبر إيران تهديداً عازماً على الهيمنة على المنطقة وتدمير "إسرائيل"، وسوريا بقيادة جهاديين غير نادمين، وحماس وحزب الله كحزبين لا يُهزمان. الدبلوماسية والصفقات التجارية غير ذات صلة؛ لا يمكن مواجهة هذه التحديات إلا من خلال العمل العسكري المستمر والاستباقي الذي تقوم به "إسرائيل" في سوريا ولبنان وغزة - والذي ستفعله في إيران، إذا ما أتيحت لها الفرصة من واشنطن.

يُهدّد موقف "إسرائيل" المتشدّد بتعطيل الدبلوماسية التي يسعى إليها ترامب. وإذا تراجعت أهمية "إسرائيل" الاستراتيجية - وربما حتى تُشكّل عبئاً - فلن يكون لدى واشنطن مصلحة تُذكر في حمايتها من أي إجراءات عقابية قد تتخذها أوروبا. بل قد تتخذ بعض الإجراءات الخاصة، ومن المرجح (نظراً لكراهية ترامب للمساعدات الخارجية) أن يكون ذلك خفضاً كبيراً في حزمة المساعدات السنوية التي تحصل عليها عند انتهاء الإطار الحالي في عام 2028.
 
في حد ذاتهما، لن يكون هذان الاتجاهان الأوليان كافيين لتعريض "إسرائيل" لخطر عزلة شديد. تكمن المشكلة في أن "إسرائيل" نفسها غير قادرة حالياً على معالجتهما جذرياً.
 
على الهامش، سعت "إسرائيل" إلى تهدئة منتقديها، ولا سيما بإعادة كمية محدودة من المساعدات الإنسانية إلى غزة. لكن ردّها الأساسي تمثّل في توبيخ الأوروبيين ووصفهم بأنهم مؤيّدون للإرهاب فعلياً، وإلى الجانب الخطأ من التاريخ، بل وحتى معادون للسامية.
 
السبب الأوضح هو أنّ "إسرائيل" تقودها حكومة يمينية متطرفة ودينية. العديد من أعضائها الأقوياء يعتبرون أوروبا معادية لـ "إسرائيل" بشكل ميؤوس منه، ولا يعتقدون أن أي شيء تفعله "إسرائيل" سيغيّر ذلك. يقتصر احترامهم للولايات المتحدة على ترامب والحزب الجمهوري، ولكن حتى هذا الاحترام يُختبر اليوم، مع معارضة البيت الأبيض لـ "إسرائيل" بشأن إيران، والأسوأ من ذلك كله، الضغط عليها لإنهاء الحرب في غزة. بالنسبة لليمين المتطرّف، يُعدّ غزو غزة، بهدف إعادة المستوطنات الإسرائيلية هناك، هدفاً مقدّساً، وهو قضية تكاد تقترب من ضمّ الضفة الغربية. إن التضحية باتفاقية تجارية أو تعاون بحثي مع أوروبا أمرٌ يستحق العناء. فبدلاً من التقليل من شأن الكارثة الإنسانية في غزة، يتلذذون بوعودهم بتدمير القطاع، وطرد سكانه، وحرمانهم من الغذاء والدواء.
 
لا يزال موقف نتنياهو نفسه من أيديولوجية "جعل "إسرائيل" عظيمة من جديد" غير واضح. لطالما كان براغماتياً، وكان يعرف إلى أي مدى يمكنه اختبار صبر أصدقاء "إسرائيل". أما اليوم، فهو أسير شركائه المتطرفين في الائتلاف، الذين يخشى أن يُسقطوا حكومته وربما يُنهي مسيرته السياسية. بالنسبة له، البقاء في السلطة هو الهدف الأسمى.
 
ترى الغالبية العظمى من الإسرائيليين أنفسهم جزءاً من الغرب الليبرالي، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وتُظهر استطلاعات الرأي أنّ معظمهم يرغبون في التوصل إلى اتفاق لتحرير الأسرى الإسرائيليين المتبقّين لدى حماس وإنهاء الحرب في غزة. لكنّ هذا يُصاحبه تحذيران. أولهما أنّ الحكومة لا تُعنى بإرادة الناخبين، بل بإرادة قاعدتها الشعبية التي لا تزال مؤيدة للحرب. ثانيهما أنّه حتى الإسرائيليون الذين يُشكّكون في سياسة الحكومة يتردّدون في معارضتها علناً بينما يُخاطر أحباؤهم بحياتهم في غزة، وهو ما يُفسّر على الأرجح عدم نجاح الاحتجاجات المناهضة للحرب. إنّ صدمة هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 تُعرّض الكثيرين لانتقادات الأجانب، حتى أولئك الذين يُعتبرون أصدقاء لهم عادةً.
 
الحدث الوحيد الذي يُرجّح أن يُغيّر مسار "إسرائيل" هو سقوط حكومة نتنياهو واستبدالها بائتلاف أكثر اعتدالاً. وتشير استطلاعات الرأي إلى أنه لو أُجريت انتخابات الآن، لكان ذلك هو النتيجة المُرجّحة. لكنّ نتنياهو وحلفاءه عازمون على التمسّك بالسلطة لأطول فترة ممكنة. وإذا ما نجحوا في مسعاهم، فقد يكون التراجع في مكانة "إسرائيل" الدولية لا رجعة فيه حتى مع قيادة أكثر اعتدالاً.

نقله إلى العربية: الميادين نت.